البخيت يكتب: فرضية نهاية "حل الدولتين"
الدكتور معروف البخيت
القبة نيوز- فرضية نهاية "حل الدولتين".. مستقبل القضية الفلسطينية وثوابت الأردن وخياراته
الأردن يرفض أن يكون مجرد ورقة تفاوض بأيدي الغير بشأن مستقبل القضية الفلسطينية
أطراف واعتبارات جديدة فرضت على الأردن تحديات كبيرة ألقت بظلالها على مصالحنا
الأولويات العربية اختلفت، والحل المجتزأ سيكون على حساب الأردن والفلسطينيين
حالَ الملك دون تحقيق أهداف اليمين الإسرائيلي بفرض وقائع جديدة على الأرض
تعويم "الحالة السياسية الفلسطينية" أخطر ما قد يواجه الأردن على الإطلاق
غياب "حل الدولتين" لا يعني تقدم فرص "حل الدولة الواحدة"
تستدعي المسؤولية قراءة الاحتمالات وخياراتنا تجاهها وشكل حضورنا مستقبلاً
تقاطع المصالح بالشرق الأوسط ينذر بصدامات لا يحتملها عالمُ اليوم
لم تأتِ التطورات التصعيدية المتسارعة الأخيرة، التي داهمت المنطقة، مقطوعة عن سياقها الذي ساد خلال السنوات الماضية، وفرض نفسه على شكل تقاطعات ومشاريع متباينة، مع تبدّي حالة الاستعصاء، وتعدّد أشكال الصراعات وميادينها.
القراءات المتعددة لمستقبل المنطقة، في ضوء التطورات الأخيرة، متنوعة، وغالباً متباينة، ولكنها لا تغادر أحد احتمالين، فيما يخصُّ العام الجديد؛ فإما أن يكون عام تسويات كبرى، وإعادة ترتيب الأوراق والتحالفات ومراكز النفوذ، وإما أن يقود إلى مواجهات دامية، وحروب بالوكالة وبغير الوكالة، وفي ساحات مفتوحة تفرضها حسابات الأطراف ومصالحها، وترتفع معها حدّة الاستعصاء والتخندقات مع المزيد من التوتر والأزمات.
هذان الخياران، هما الأرجح. وكلاهما يفضي إلى تحولات عميقة، ستلقي بظلالها على الأعوام القادمة. فيما لا يبدو الخيار الثالث، والمتمثل باستمرار الوضع القائم بلا حلول ولا آفاق؛ واقعياً ولا متناسباً مع مجريات الأحداث. إذا، ومع تنامي التهديدات لم يعد بوسع العالم أن ينتظر أكثر، مع ارتفاع كُلف الجمود، في واقع يتحرّك ويتشكّل من جديد ووفقاً لمعطياتٍ مختلفة.
برأيي، أن أي تصعيد قادم، هو في إطار تحسين شروط الأطراف على أبواب التسويات الكبرى، والتي سيكون مركزها الشرق الأوسط.
وبحكم تعدد اللاعبين الرئيسيين، وتقاطع مصالحهم، فإن خيار المواجهات المفتوحة، والمنفلتة من كل عقال، لا يلبّي المصالح، وإنما يهددها، كما ينذر بصدامات دامية، لا يحتملها عالم اليوم.
قضايا المنطقة وملفاتها المفتوحة متعددة، ومتشابكة؛ الملف الإيراني، الملف السوري، الملف العراقي، الملف اللبناني، الأزمة الليبية، الأزمة اليمنية، ملف أمن الخليج، وملفات مكافحة الإرهاب، والطاقة والغاز والمياه الدافئة، والنفوذ.
ومع كل هذه الملفات، بكل أسف، تتراجع أولوية القضية الفلسطينية، وتسعى إسرائيل في ظل الظروف الراهنة، ومع انزياح مجتمعها السياسي نحو أقصى اليمين؛ لتكريس وقائع على الأرض، وفرض مصالحها، وإنهاء حلّ الدولتين؛ ويدعمها وجودُ إدارة أميركية منحازة، وساعية لتجاوز أزماتها الداخلية، واستقبال الانتخابات الرئاسية المقبلة، بالمزيد من التقرّب للوبي الصهيوني وأنصاره في الولايات المتحدة، وبانتهاك قرارات الشرعية الدولية، والحقوق الفلسطينية الثابتة والمنصوص عليها.
ضمن هذه الظروف، تواجه القضية الفلسطينية، واقعاً هو الأصعب، وربما الأكثر تعقيداً، منذ عقود طويلة، ضمن جملة من الحقائق والمستجدات، والتي يمكن تلخيصها، على النحو الآتي:
توقف المفاوضات الثنائية، لسنوات طويلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ يمكن أن يكون نهائيّاً، وبغير رجعة إلى آلية التفاوض الثنائي بين الطرفين، والتي أفرزها اتفاق "أوسلو"، وتراوحت لسنوات، دون تحقيق نتائج حقيقية.
أصبح من الواضح أن الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني هو انقسام غير عابر أو طارئ. بل بكل أسف، أمسى هذا الانقسام، بعد مرور نحو عقد ونصف العقد عليه؛ حقيقة قائمة وواقعاً مرتبطاً بتوازنات إقليمية. وليس من المتوقع تجاوزه أو إعادة الوحدة الجيوسياسية بين الضفة الغربية وقطاع غزة، في المدى المنظور.
لم يعد ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يحظى برعاية دولية كافية أو مؤثرة. ومع بداية مرحلة "الربيع العربي"، ودخول العالم العربي في حالة من عدم الاستقرار؛ تراجع الاهتمام العربي والدولي بالموضوع الفلسطيني إلى درجة غير مسبوقة، وطرأت ملفاتٌ أخرى حازت الأهمية والأولوية، وتقدّمها خلال السنوات الفائتة ملفُ مكافحة الإرهاب، والملف النووي الإيراني والأزمات الداخلية العربية، والأزمات العربية العربية.
بالنتيجة، أدى الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، وتوقف عملية المفاوضات، وغياب الرعاية الدولية أو الأميركية للمفاوضات بين الطرفين، إلى حالة من الفراغ السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ خصوصاً وأن المجتمع الدولي لا يعترف بسلطة حماس في قطاع غزة.
كما أدى رهان السلطة الفلسطينية الكامل على المفاوضات مع إسرائيل إلى ما يشبه حالة من العزلة، والضعف اللافت، في حضورها داخل الضفة الغربية نفسها، فضلا عن تراجع قدراتها وإمكاناتها المادية واللوجستية.
زاد في هذا الضعف غياب الغطاء العربي للفلسطينيين بسبب حالة عدم الاستقرار التي أشاعها "الربيع العربي"، وتبعات الأزمة السورية.
لعل أخطر تطور شهده ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو تخلي الراعي الأميركي، عمليّا، عن مبدأ "حل الدولتين"، عبر المفاوضات، لصالح فكرة تحقيق "الأمن الإسرائيلي"، عبر سلسلة من الخطوات التي تهدف إلى "إلغاء" حل ملفات الوضع النهائي (اللاجئون، الأمن، القدس، المياه والحدود) لصالح إسرائيل. وهي الملفات التي تمثل جميعها، كما يمثل كل واحدٍ منها، مصلحة أردنيةً عليا، لا يمكن تجاوزها.
أردنيّاً، لا تعني القضية الفلسطينية مجرد مسألة قومية ذات رمزية عالية للأردن فحسب. ولكنها تعني مسألة مصيرية بكل معنى الكلمة. ولئن كنا دأبنا خلال العقود الماضية، على اسخدام وتداول تعبير "مصلحة أردنية عليا"، عندما كنا نطرح مستقبل حلّ القضية الفلسطينية؛ فإننا الآن، وبلا شك، أمام "مسألة أمن وطني" أردني، بالمعنى الكامل للكلمة.
وأي تجاهل للمصالح الأردنية فيما يخصُّ مستقبل القضية الفلسطينية، إنما يعني أن هناك من يريد أو يسعى لرسم ملامح مستقبل الأردن نيابة عنا، وأن تصبح مصالحنا واعتباراتنا، مجرد ورقة تفاوض بأيدي الغير. وهذا ما لا يقبله الأردن من قريب أو بعيد.
لقد انفصل المسار الأردني عن المسار الفلسطيني منذ بدء المفاوضات في مؤتمر مدريد، بعد أن وفّر الأردن الغطاء السياسي للوفد الفلسطيني آنذاك، لإدخال الفلسطينيين إلى المؤتمر، وتمكينهم من الدفاع بأنفسهم عن حقوقهم التاريخية والشرعية، ضمن مناخات دولية وإقليمية، كانت مواتية وضاغطة باتجاه الحل. ثم انفصل المساران الأردني والفلسطيني تماماً، وإلى الآن.
ومرّت القضية الفلسطينية بمراحل وأزمات ومنعطفات كبرى، وقف خلالها الأردن، موقف السند والداعم والمدافع الصلب عن الحقوق الفلسطينية، والتزم، دون تردد أو انقطاع، بتقديم كل أشكال الدعم للأشقاء الفلسطينيين عبر العقود الماضية، على أساس السعي لتحقيق "حل الدولتين" والذي يلبي الحقوق الفلسطينية، ويمثل مصلحة وطنية أردنية عليا، في الوقت نفسه.
بيد أن السنوات الماضية، وما شهدته من أحداث وتطورات وغياب لاعبين أساسيين وظهور أطراف واعتبارات جديدة، وانعكاساتها على القضية الفلسطينية؛ حملت معها تداعيات كبيرة، وتحديات جدية، تلقي بظلالها على المصالح الأردنية وعلى الأمن الوطني الأردني، بمفهومه الشامل.
وفي مقدّمة هذه التحديات، ازدياد الشعور بالفراغ السياسي على الساحة الفلسطينية واستمرار حالة الانقسام الجيوسياسي، مع تخلي الأطراف الدولية عن رعاية المفاوضات؛ ما أدخل الحالة السياسية الفلسطينية بما يشبه "التعويم". وهذا أخطر ما قد يواجه الأردن على الإطلاق.
فيما يبدو أن تحقيق معادلة "أمن إسرائيل"، ضمن المؤشرات القائمة، وبتواطؤ أطراف دولية، أو بتفهّمها، مع عدم وجود دور عربي مساند، واختلاف أولويات مفهوم "الأمن القومي العربي"، داخل دول المنظومة العربية نفسها؛ إنما يعني عمليا أن الحل المجتزأ من طرف واحد، سيكون على حساب الأردن والفلسطينيين.
وهنا، نذكّر بالموقف المبدئي والشجاع الذي اتخذه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، بدعم من الشعب الأردني بكل أطيافه، في الدفاع عن أولوية القضية الفلسطينية خلال العقدين الماضيين؛ منذ بدأت محاولات تحويل انتباه العالم باتجاه ملفات أخرى كانت تطرأ، ابتداءً من الحرب على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر 2001م، ثم الحرب على أفغانستان، وبعدها غزو العراق 2003م، ومن ثم "المشروع الأميريكي للإصلاح"، وحرب لبنان 2006م، ثم الأزمة المالية العالمية 2008، وتالياً "الربيع العربي" 2011م، والأزمات الداخلية العربية، ثم ظهور "داعش" 2014م، والملف النووي الإيراني 2015م، إلى حرب اليمن والأزمة الليبية، وتطورات الأزمة السورية؛ وفي كل هذه المنعطفات، التي لم تهدأ، كان جلالة الملك، ينشط ويتحرك في كل مكان، لتبقى القضية الفلسطينية حاضرة. بل وحرص جلالته، في كل مناسبة، على ربط حل الأزمات الطارئة بالقضية الفلسطينية، بوصفها تمثل القضية العادلة والحيّة، وبالتالي "القضية المركزية".
لقد صمد جلالة الملك في وجه كل الموجات العاتية. وامتلك شجاعة الموقف وزمام المبادرة. واستطاع أن يحقق نجاحات كبيرة ونوعية. كما استطاع أن يحول دون تحقيق أهداف اليمين الإسرائيلي بفرض وقائع جديدة، بموجب منطق موازين القوى على الأرض، بما في ذلك، المحاولات الحثيثة، لإجراء تغييرات في القدس، وانتهاك هوية المقدسات الإسلامية والمسيحية، والعبث بها.
لكننا اليوم، أمام استحقاقات أصعب، تفرضها التطورات والوقائع الجديدة. وفي مقدمّة هذه التطورات، تراجع الفرص الواقعية لـ"حل الدولتين"، وهو الحل الوحيد الذي يجسد مفهوم العدالة ويفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، وترتبط به ملفات الحل النهائي، التي تمثل مصلحة الأردن العليا.
غياب حل الدولتين لا يعني في المقابل، تقدّم فرص "حل الدولة الواحدة"، على أساس من طروحات "الدولة ثنائية القومية". وهو السيناريو الذي رفضه الأردن جملة وتفصيلاً، وعلى لسان جلالة الملك المعظم، وأكثر من مرّة.
مع ملاحظة أن سقف الطموح الإسرائيلي، يتجاوز الآن، بفعل الوقائع الجديدة وموازين القوى الدولية، طروحات "حل الدولة ثنائية القومية"، والذي برز بالأساس، خلال ثلاثينيات القرن الفائت، كمقترح لأحزاب إسرائيلية يسارية؛ فالتعنت الإسرائيلي يريد اليوم، "واقع الدولة الواحدة"، وليس "حل الدولة الواحدة"، أي؛ فرض الأمر الواقع، بلا أية صيغة أو التزامات تحقق الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وبما يؤدي لإلغاء القضية الفلسطينية، وإلغاء الحقوق الأردنية المترتبة على حلها، حلا عادلاً بموجب قرارات الشرعية الدولية ومرجعيات العملية السلمية.
وسأقف هنا، بإيجاز، عند بعض طروحات، تروّج لفكرة "الدولة ثنائية القومية"، كمخرج لتوقف العملية السلمية، وتراجع فرص حل الدولتين، حيث تنطلق الأصوات العربية التي تروّج لحل الدولة ثنائية القومية، من فكرة: التغلّب على الكيان الإسرائيلي من داخله، اعتمادا على الفارق الكبير بين نسبة الزيادة السكانية بين العرب واليهود، لصالح العرب.
هذه الفكرة الكلاسيكية القديمة، لا تبدو ذات قيمة اليوم، وفي عالم اليوم، وعلومه ومعطياته، التي لا تقيم وزناً للتعداد البشري، مقابل الدعم الدولي والتفوق التكنولوجي والقوة الاقتصادية والعسكرية والأمنية؛ ما يعني أن وَهم "التغلُّب السكّاني"، غير واقعي ولا يقدم حلولا سياسية، ولا يستعيد الحقوق. بل ويترتب عليه، من الناحية العملية؛ أن الفلسطينيين، وهم الطرف الأضعف في هذه المعادلة، سيتحولون إلى ما يشبه "الساحة الخلفية" للكيان الإسرائيلي. وهذا ما لا يمكن أن يقبله الفلسطينيون، كما أن من شأنه، بضرورة الحال، أن يهدد المصالح الاستراتيجية الأردنية، في أكثر من مجال، بحكم طبيعة التداخل في الملفات المشتركة وخصوصية العلاقة الأردنية الفلسطينية.
هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فإن ملفات الوضع النهائي التي يعدُّ الأردن شريكا موضوعيا فيها، ستنتهي إلى ما يشبه عملية "تصفية"، تلقائية، في سيناريو "الدولة ثنائية القومية".
وفي مقدمة هذه الملفات، هنا، ملف اللاجئين حيث ستنتهي الفوارق بين فئات "اللاجئين"، و"النازحين"، و"اللاجئين النازحين"، وهو ما سأعرض له تالياً، بشيء من التوضيح.
كذلك، ملف القدس، والوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، المنصوص عليها في مرجعيات العملية السلمية؛ فضمن سيناريو "الدولة ثنائية القومية"، ستكون القدس بمثابة العاصمة الموحدة للدولة الثنائية المفترضة. ويترتب على ذلك إلغاء الحقوق الأردنية بالإشراف على المقدسات ورعايتها، ومساس مباشر بالاعتبارات الأردنية الرمزية والقانونية التي تتعلق بالمدينة المقدسة.
أضف إلى ذلك، ملفات الحدود والأمن والمياه، وكل ما يتعلق بالمصالح الأردنية، على نحو وثيق.
ما يعني أن فكرة حل الدولة الواحدة، هي صيغة "تصفية" حقيقية للقضية الفلسطينية، ونهاية غير مقبولة للمشروع الوطني الفلسطيني، وهي كذلك، تجاوز على المصالح والحقوق الأردنية.
فيما يخصّ ملف اللاجئين والنازحين الفلسطينيين، وهو الملف الأكثر أهمية وحساسية بالنسبة للأردن، فلا بدّ من التوضيح هنا، أن ملف النازحين من الضفّة الغربيّة إلى الأردن، صدر به قرار عن مجلس الأمن ورقمه (237)، وينصّ دون أيّ لبس، على تأكيد حق النازحين بالعودة. وهذا القرار، سابقٌ على القرار (242).
من جهة أخرى، لدينا عدة فئات، بالمعنى القانوني، من المهجّرين من الضفّة الغربيّة إلى الأردن، إثر حرب 1967، فمنهم النازحون من أبناء الضفة الغربيّة إلى الأردن، ومنهم، أيضاً، "اللاجئون النازحون". أي، الكتلة الفلسطينيّة التي تواجدت في الضفة الغربيّة، ما بين حربي 1948و1967م، بصفة لاجئين، فلما وقع الاحتلال على الضفة الغربيّة؛ نزحت إلى الأردن. وهناك، أيضاً، فئة من أبناء الضفة الغربيّة، ممّن لم يكونوا، لحظة وقوع الاحتلال في الضفة الغربية، بل كانوا خارجها لغايات العمل أو الدراسة والإقامة.
من وجهة نظر أردنيّة، فإن نسبة "اللاجئين النازحين" تشكل ثلثي عدد النازحين الفلسطينيين في الأردن. واللاجئ، سواء أكان في مخيّمات الأردن، أم أتى من مخيّمات الضفة الغربيّة، هو من مسؤوليّة الدولة الأردنيّة. والأردن معنيٌّ بالدفاع عن حقّه في العودة وكافة حقوقه القانونيّة الأخرى.
ويترتب على ذلك، وبحكم قرارات الشرعية الدولية، إن قضية حق النازحين بالعودة، هي مسألة يتم حلها بين الجانبين الأردني والفلسطيني، بعد قيام الدولة الفلسطينية، بحيث يتفق الجانبان على آليّات العودة وتفاصيلها ضمن اعتبارات تكفل تمكين النازحين من حقوقهم الشرعية والمنصوص عليها بوضوح في القرارات الدولية.
وعليه، فإن مصلحة الأردن، في ملف النازحين، كما في غيره، تقتضي قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وذات الحدود الواضحة مع الأردن، وبما لا يتيح للجانب الإسرائيلي أن يكون طرفاً، في النقاشات والمداولات بخصوص ضمان حقّ النازحين بالعودة، أو أن يمتلك "حق الاعتراض”، أو التدخل، بأي شكل.
وعوداً إلى ذي بدء، فإن القضية الفلسطينية بالنسبة للأردن، هي قضية مصيرية. وهي قضية داخلية، بمقدار ما هي قضية عربية وإنسانية عادلة. وكل محاولة للتحايل على مركزية القضية الفلسطينية وأولويّتها إنما تمثل إضراراً بالأردن، ومصالحه وحقوقه ومستقبله.
ولذلك، ارتبطت مواقف الأردن وجهوده السياسية والقانونية والدبلوماسية، فضلاً عن تضحيات قيادته وقواته المسلحة وشعبه وكافة مكوناته، منذ نشأة الدولة الأردنية الحديثة، بالكفاح الصادق والدؤوب في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وعن الأراضي الفلسطينية. وهذا كله لم يكن في باب الخيارات، وإنما كان وما يزال، تعبيراً عن الارتباط الوثيق، وعن دفاعنا التاريخي عن حقوق أشقائنا وعن أنفسنا.
وإذا كانت فرضيات مستقبل القضية الفلسطينية، تبتعد اليوم، بفعل التطورات الإقليمية والدولية، عن الصيغة الحصرية التي تلبي المصالح الأردنية والفلسطينية، المشتركة، والمتمثلة بمبدأ حل الدولتين، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، ومعالجة ملفات الحل النهائي بموجب قرارات الشرعية الدولية؛ فإن المسؤولية تستدعي قراءة كل الاحتمالات وخياراتنا تجاهها، وشكل ونوعية حضورنا مستقبلاً في الملف الفلسطيني، بالإضافة إلى أولوية تمتين العلاقة الأردنية الفلسطينية، في كل أبعادها، وتعزيز عوامل القوة، ومعالجة أي نقاط التباس مفترضة..
وكلي ثقة، أن خيارات الدولة الأردنية واضحة تماماً (وإن لم تكن متداولة)، وتجربتنا في التعامل مع التحديات، تاريخياً، تبرهن، أنها تبدأ من استشراف التحدي والتحضير له والاستعداد التام، قبل حدوثه.
(الغد)
الأردن يرفض أن يكون مجرد ورقة تفاوض بأيدي الغير بشأن مستقبل القضية الفلسطينية
أطراف واعتبارات جديدة فرضت على الأردن تحديات كبيرة ألقت بظلالها على مصالحنا
الأولويات العربية اختلفت، والحل المجتزأ سيكون على حساب الأردن والفلسطينيين
حالَ الملك دون تحقيق أهداف اليمين الإسرائيلي بفرض وقائع جديدة على الأرض
تعويم "الحالة السياسية الفلسطينية" أخطر ما قد يواجه الأردن على الإطلاق
غياب "حل الدولتين" لا يعني تقدم فرص "حل الدولة الواحدة"
تستدعي المسؤولية قراءة الاحتمالات وخياراتنا تجاهها وشكل حضورنا مستقبلاً
تقاطع المصالح بالشرق الأوسط ينذر بصدامات لا يحتملها عالمُ اليوم
لم تأتِ التطورات التصعيدية المتسارعة الأخيرة، التي داهمت المنطقة، مقطوعة عن سياقها الذي ساد خلال السنوات الماضية، وفرض نفسه على شكل تقاطعات ومشاريع متباينة، مع تبدّي حالة الاستعصاء، وتعدّد أشكال الصراعات وميادينها.
القراءات المتعددة لمستقبل المنطقة، في ضوء التطورات الأخيرة، متنوعة، وغالباً متباينة، ولكنها لا تغادر أحد احتمالين، فيما يخصُّ العام الجديد؛ فإما أن يكون عام تسويات كبرى، وإعادة ترتيب الأوراق والتحالفات ومراكز النفوذ، وإما أن يقود إلى مواجهات دامية، وحروب بالوكالة وبغير الوكالة، وفي ساحات مفتوحة تفرضها حسابات الأطراف ومصالحها، وترتفع معها حدّة الاستعصاء والتخندقات مع المزيد من التوتر والأزمات.
هذان الخياران، هما الأرجح. وكلاهما يفضي إلى تحولات عميقة، ستلقي بظلالها على الأعوام القادمة. فيما لا يبدو الخيار الثالث، والمتمثل باستمرار الوضع القائم بلا حلول ولا آفاق؛ واقعياً ولا متناسباً مع مجريات الأحداث. إذا، ومع تنامي التهديدات لم يعد بوسع العالم أن ينتظر أكثر، مع ارتفاع كُلف الجمود، في واقع يتحرّك ويتشكّل من جديد ووفقاً لمعطياتٍ مختلفة.
برأيي، أن أي تصعيد قادم، هو في إطار تحسين شروط الأطراف على أبواب التسويات الكبرى، والتي سيكون مركزها الشرق الأوسط.
وبحكم تعدد اللاعبين الرئيسيين، وتقاطع مصالحهم، فإن خيار المواجهات المفتوحة، والمنفلتة من كل عقال، لا يلبّي المصالح، وإنما يهددها، كما ينذر بصدامات دامية، لا يحتملها عالم اليوم.
قضايا المنطقة وملفاتها المفتوحة متعددة، ومتشابكة؛ الملف الإيراني، الملف السوري، الملف العراقي، الملف اللبناني، الأزمة الليبية، الأزمة اليمنية، ملف أمن الخليج، وملفات مكافحة الإرهاب، والطاقة والغاز والمياه الدافئة، والنفوذ.
ومع كل هذه الملفات، بكل أسف، تتراجع أولوية القضية الفلسطينية، وتسعى إسرائيل في ظل الظروف الراهنة، ومع انزياح مجتمعها السياسي نحو أقصى اليمين؛ لتكريس وقائع على الأرض، وفرض مصالحها، وإنهاء حلّ الدولتين؛ ويدعمها وجودُ إدارة أميركية منحازة، وساعية لتجاوز أزماتها الداخلية، واستقبال الانتخابات الرئاسية المقبلة، بالمزيد من التقرّب للوبي الصهيوني وأنصاره في الولايات المتحدة، وبانتهاك قرارات الشرعية الدولية، والحقوق الفلسطينية الثابتة والمنصوص عليها.
ضمن هذه الظروف، تواجه القضية الفلسطينية، واقعاً هو الأصعب، وربما الأكثر تعقيداً، منذ عقود طويلة، ضمن جملة من الحقائق والمستجدات، والتي يمكن تلخيصها، على النحو الآتي:
توقف المفاوضات الثنائية، لسنوات طويلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ يمكن أن يكون نهائيّاً، وبغير رجعة إلى آلية التفاوض الثنائي بين الطرفين، والتي أفرزها اتفاق "أوسلو"، وتراوحت لسنوات، دون تحقيق نتائج حقيقية.
أصبح من الواضح أن الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني هو انقسام غير عابر أو طارئ. بل بكل أسف، أمسى هذا الانقسام، بعد مرور نحو عقد ونصف العقد عليه؛ حقيقة قائمة وواقعاً مرتبطاً بتوازنات إقليمية. وليس من المتوقع تجاوزه أو إعادة الوحدة الجيوسياسية بين الضفة الغربية وقطاع غزة، في المدى المنظور.
لم يعد ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي يحظى برعاية دولية كافية أو مؤثرة. ومع بداية مرحلة "الربيع العربي"، ودخول العالم العربي في حالة من عدم الاستقرار؛ تراجع الاهتمام العربي والدولي بالموضوع الفلسطيني إلى درجة غير مسبوقة، وطرأت ملفاتٌ أخرى حازت الأهمية والأولوية، وتقدّمها خلال السنوات الفائتة ملفُ مكافحة الإرهاب، والملف النووي الإيراني والأزمات الداخلية العربية، والأزمات العربية العربية.
بالنتيجة، أدى الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني، وتوقف عملية المفاوضات، وغياب الرعاية الدولية أو الأميركية للمفاوضات بين الطرفين، إلى حالة من الفراغ السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ خصوصاً وأن المجتمع الدولي لا يعترف بسلطة حماس في قطاع غزة.
كما أدى رهان السلطة الفلسطينية الكامل على المفاوضات مع إسرائيل إلى ما يشبه حالة من العزلة، والضعف اللافت، في حضورها داخل الضفة الغربية نفسها، فضلا عن تراجع قدراتها وإمكاناتها المادية واللوجستية.
زاد في هذا الضعف غياب الغطاء العربي للفلسطينيين بسبب حالة عدم الاستقرار التي أشاعها "الربيع العربي"، وتبعات الأزمة السورية.
لعل أخطر تطور شهده ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو تخلي الراعي الأميركي، عمليّا، عن مبدأ "حل الدولتين"، عبر المفاوضات، لصالح فكرة تحقيق "الأمن الإسرائيلي"، عبر سلسلة من الخطوات التي تهدف إلى "إلغاء" حل ملفات الوضع النهائي (اللاجئون، الأمن، القدس، المياه والحدود) لصالح إسرائيل. وهي الملفات التي تمثل جميعها، كما يمثل كل واحدٍ منها، مصلحة أردنيةً عليا، لا يمكن تجاوزها.
أردنيّاً، لا تعني القضية الفلسطينية مجرد مسألة قومية ذات رمزية عالية للأردن فحسب. ولكنها تعني مسألة مصيرية بكل معنى الكلمة. ولئن كنا دأبنا خلال العقود الماضية، على اسخدام وتداول تعبير "مصلحة أردنية عليا"، عندما كنا نطرح مستقبل حلّ القضية الفلسطينية؛ فإننا الآن، وبلا شك، أمام "مسألة أمن وطني" أردني، بالمعنى الكامل للكلمة.
وأي تجاهل للمصالح الأردنية فيما يخصُّ مستقبل القضية الفلسطينية، إنما يعني أن هناك من يريد أو يسعى لرسم ملامح مستقبل الأردن نيابة عنا، وأن تصبح مصالحنا واعتباراتنا، مجرد ورقة تفاوض بأيدي الغير. وهذا ما لا يقبله الأردن من قريب أو بعيد.
لقد انفصل المسار الأردني عن المسار الفلسطيني منذ بدء المفاوضات في مؤتمر مدريد، بعد أن وفّر الأردن الغطاء السياسي للوفد الفلسطيني آنذاك، لإدخال الفلسطينيين إلى المؤتمر، وتمكينهم من الدفاع بأنفسهم عن حقوقهم التاريخية والشرعية، ضمن مناخات دولية وإقليمية، كانت مواتية وضاغطة باتجاه الحل. ثم انفصل المساران الأردني والفلسطيني تماماً، وإلى الآن.
ومرّت القضية الفلسطينية بمراحل وأزمات ومنعطفات كبرى، وقف خلالها الأردن، موقف السند والداعم والمدافع الصلب عن الحقوق الفلسطينية، والتزم، دون تردد أو انقطاع، بتقديم كل أشكال الدعم للأشقاء الفلسطينيين عبر العقود الماضية، على أساس السعي لتحقيق "حل الدولتين" والذي يلبي الحقوق الفلسطينية، ويمثل مصلحة وطنية أردنية عليا، في الوقت نفسه.
بيد أن السنوات الماضية، وما شهدته من أحداث وتطورات وغياب لاعبين أساسيين وظهور أطراف واعتبارات جديدة، وانعكاساتها على القضية الفلسطينية؛ حملت معها تداعيات كبيرة، وتحديات جدية، تلقي بظلالها على المصالح الأردنية وعلى الأمن الوطني الأردني، بمفهومه الشامل.
وفي مقدّمة هذه التحديات، ازدياد الشعور بالفراغ السياسي على الساحة الفلسطينية واستمرار حالة الانقسام الجيوسياسي، مع تخلي الأطراف الدولية عن رعاية المفاوضات؛ ما أدخل الحالة السياسية الفلسطينية بما يشبه "التعويم". وهذا أخطر ما قد يواجه الأردن على الإطلاق.
فيما يبدو أن تحقيق معادلة "أمن إسرائيل"، ضمن المؤشرات القائمة، وبتواطؤ أطراف دولية، أو بتفهّمها، مع عدم وجود دور عربي مساند، واختلاف أولويات مفهوم "الأمن القومي العربي"، داخل دول المنظومة العربية نفسها؛ إنما يعني عمليا أن الحل المجتزأ من طرف واحد، سيكون على حساب الأردن والفلسطينيين.
وهنا، نذكّر بالموقف المبدئي والشجاع الذي اتخذه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، بدعم من الشعب الأردني بكل أطيافه، في الدفاع عن أولوية القضية الفلسطينية خلال العقدين الماضيين؛ منذ بدأت محاولات تحويل انتباه العالم باتجاه ملفات أخرى كانت تطرأ، ابتداءً من الحرب على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر 2001م، ثم الحرب على أفغانستان، وبعدها غزو العراق 2003م، ومن ثم "المشروع الأميريكي للإصلاح"، وحرب لبنان 2006م، ثم الأزمة المالية العالمية 2008، وتالياً "الربيع العربي" 2011م، والأزمات الداخلية العربية، ثم ظهور "داعش" 2014م، والملف النووي الإيراني 2015م، إلى حرب اليمن والأزمة الليبية، وتطورات الأزمة السورية؛ وفي كل هذه المنعطفات، التي لم تهدأ، كان جلالة الملك، ينشط ويتحرك في كل مكان، لتبقى القضية الفلسطينية حاضرة. بل وحرص جلالته، في كل مناسبة، على ربط حل الأزمات الطارئة بالقضية الفلسطينية، بوصفها تمثل القضية العادلة والحيّة، وبالتالي "القضية المركزية".
لقد صمد جلالة الملك في وجه كل الموجات العاتية. وامتلك شجاعة الموقف وزمام المبادرة. واستطاع أن يحقق نجاحات كبيرة ونوعية. كما استطاع أن يحول دون تحقيق أهداف اليمين الإسرائيلي بفرض وقائع جديدة، بموجب منطق موازين القوى على الأرض، بما في ذلك، المحاولات الحثيثة، لإجراء تغييرات في القدس، وانتهاك هوية المقدسات الإسلامية والمسيحية، والعبث بها.
لكننا اليوم، أمام استحقاقات أصعب، تفرضها التطورات والوقائع الجديدة. وفي مقدمّة هذه التطورات، تراجع الفرص الواقعية لـ"حل الدولتين"، وهو الحل الوحيد الذي يجسد مفهوم العدالة ويفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، وترتبط به ملفات الحل النهائي، التي تمثل مصلحة الأردن العليا.
غياب حل الدولتين لا يعني في المقابل، تقدّم فرص "حل الدولة الواحدة"، على أساس من طروحات "الدولة ثنائية القومية". وهو السيناريو الذي رفضه الأردن جملة وتفصيلاً، وعلى لسان جلالة الملك المعظم، وأكثر من مرّة.
مع ملاحظة أن سقف الطموح الإسرائيلي، يتجاوز الآن، بفعل الوقائع الجديدة وموازين القوى الدولية، طروحات "حل الدولة ثنائية القومية"، والذي برز بالأساس، خلال ثلاثينيات القرن الفائت، كمقترح لأحزاب إسرائيلية يسارية؛ فالتعنت الإسرائيلي يريد اليوم، "واقع الدولة الواحدة"، وليس "حل الدولة الواحدة"، أي؛ فرض الأمر الواقع، بلا أية صيغة أو التزامات تحقق الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية، وبما يؤدي لإلغاء القضية الفلسطينية، وإلغاء الحقوق الأردنية المترتبة على حلها، حلا عادلاً بموجب قرارات الشرعية الدولية ومرجعيات العملية السلمية.
وسأقف هنا، بإيجاز، عند بعض طروحات، تروّج لفكرة "الدولة ثنائية القومية"، كمخرج لتوقف العملية السلمية، وتراجع فرص حل الدولتين، حيث تنطلق الأصوات العربية التي تروّج لحل الدولة ثنائية القومية، من فكرة: التغلّب على الكيان الإسرائيلي من داخله، اعتمادا على الفارق الكبير بين نسبة الزيادة السكانية بين العرب واليهود، لصالح العرب.
هذه الفكرة الكلاسيكية القديمة، لا تبدو ذات قيمة اليوم، وفي عالم اليوم، وعلومه ومعطياته، التي لا تقيم وزناً للتعداد البشري، مقابل الدعم الدولي والتفوق التكنولوجي والقوة الاقتصادية والعسكرية والأمنية؛ ما يعني أن وَهم "التغلُّب السكّاني"، غير واقعي ولا يقدم حلولا سياسية، ولا يستعيد الحقوق. بل ويترتب عليه، من الناحية العملية؛ أن الفلسطينيين، وهم الطرف الأضعف في هذه المعادلة، سيتحولون إلى ما يشبه "الساحة الخلفية" للكيان الإسرائيلي. وهذا ما لا يمكن أن يقبله الفلسطينيون، كما أن من شأنه، بضرورة الحال، أن يهدد المصالح الاستراتيجية الأردنية، في أكثر من مجال، بحكم طبيعة التداخل في الملفات المشتركة وخصوصية العلاقة الأردنية الفلسطينية.
هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فإن ملفات الوضع النهائي التي يعدُّ الأردن شريكا موضوعيا فيها، ستنتهي إلى ما يشبه عملية "تصفية"، تلقائية، في سيناريو "الدولة ثنائية القومية".
وفي مقدمة هذه الملفات، هنا، ملف اللاجئين حيث ستنتهي الفوارق بين فئات "اللاجئين"، و"النازحين"، و"اللاجئين النازحين"، وهو ما سأعرض له تالياً، بشيء من التوضيح.
كذلك، ملف القدس، والوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، المنصوص عليها في مرجعيات العملية السلمية؛ فضمن سيناريو "الدولة ثنائية القومية"، ستكون القدس بمثابة العاصمة الموحدة للدولة الثنائية المفترضة. ويترتب على ذلك إلغاء الحقوق الأردنية بالإشراف على المقدسات ورعايتها، ومساس مباشر بالاعتبارات الأردنية الرمزية والقانونية التي تتعلق بالمدينة المقدسة.
أضف إلى ذلك، ملفات الحدود والأمن والمياه، وكل ما يتعلق بالمصالح الأردنية، على نحو وثيق.
ما يعني أن فكرة حل الدولة الواحدة، هي صيغة "تصفية" حقيقية للقضية الفلسطينية، ونهاية غير مقبولة للمشروع الوطني الفلسطيني، وهي كذلك، تجاوز على المصالح والحقوق الأردنية.
فيما يخصّ ملف اللاجئين والنازحين الفلسطينيين، وهو الملف الأكثر أهمية وحساسية بالنسبة للأردن، فلا بدّ من التوضيح هنا، أن ملف النازحين من الضفّة الغربيّة إلى الأردن، صدر به قرار عن مجلس الأمن ورقمه (237)، وينصّ دون أيّ لبس، على تأكيد حق النازحين بالعودة. وهذا القرار، سابقٌ على القرار (242).
من جهة أخرى، لدينا عدة فئات، بالمعنى القانوني، من المهجّرين من الضفّة الغربيّة إلى الأردن، إثر حرب 1967، فمنهم النازحون من أبناء الضفة الغربيّة إلى الأردن، ومنهم، أيضاً، "اللاجئون النازحون". أي، الكتلة الفلسطينيّة التي تواجدت في الضفة الغربيّة، ما بين حربي 1948و1967م، بصفة لاجئين، فلما وقع الاحتلال على الضفة الغربيّة؛ نزحت إلى الأردن. وهناك، أيضاً، فئة من أبناء الضفة الغربيّة، ممّن لم يكونوا، لحظة وقوع الاحتلال في الضفة الغربية، بل كانوا خارجها لغايات العمل أو الدراسة والإقامة.
من وجهة نظر أردنيّة، فإن نسبة "اللاجئين النازحين" تشكل ثلثي عدد النازحين الفلسطينيين في الأردن. واللاجئ، سواء أكان في مخيّمات الأردن، أم أتى من مخيّمات الضفة الغربيّة، هو من مسؤوليّة الدولة الأردنيّة. والأردن معنيٌّ بالدفاع عن حقّه في العودة وكافة حقوقه القانونيّة الأخرى.
ويترتب على ذلك، وبحكم قرارات الشرعية الدولية، إن قضية حق النازحين بالعودة، هي مسألة يتم حلها بين الجانبين الأردني والفلسطيني، بعد قيام الدولة الفلسطينية، بحيث يتفق الجانبان على آليّات العودة وتفاصيلها ضمن اعتبارات تكفل تمكين النازحين من حقوقهم الشرعية والمنصوص عليها بوضوح في القرارات الدولية.
وعليه، فإن مصلحة الأردن، في ملف النازحين، كما في غيره، تقتضي قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وذات الحدود الواضحة مع الأردن، وبما لا يتيح للجانب الإسرائيلي أن يكون طرفاً، في النقاشات والمداولات بخصوص ضمان حقّ النازحين بالعودة، أو أن يمتلك "حق الاعتراض”، أو التدخل، بأي شكل.
وعوداً إلى ذي بدء، فإن القضية الفلسطينية بالنسبة للأردن، هي قضية مصيرية. وهي قضية داخلية، بمقدار ما هي قضية عربية وإنسانية عادلة. وكل محاولة للتحايل على مركزية القضية الفلسطينية وأولويّتها إنما تمثل إضراراً بالأردن، ومصالحه وحقوقه ومستقبله.
ولذلك، ارتبطت مواقف الأردن وجهوده السياسية والقانونية والدبلوماسية، فضلاً عن تضحيات قيادته وقواته المسلحة وشعبه وكافة مكوناته، منذ نشأة الدولة الأردنية الحديثة، بالكفاح الصادق والدؤوب في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وعن الأراضي الفلسطينية. وهذا كله لم يكن في باب الخيارات، وإنما كان وما يزال، تعبيراً عن الارتباط الوثيق، وعن دفاعنا التاريخي عن حقوق أشقائنا وعن أنفسنا.
وإذا كانت فرضيات مستقبل القضية الفلسطينية، تبتعد اليوم، بفعل التطورات الإقليمية والدولية، عن الصيغة الحصرية التي تلبي المصالح الأردنية والفلسطينية، المشتركة، والمتمثلة بمبدأ حل الدولتين، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، ومعالجة ملفات الحل النهائي بموجب قرارات الشرعية الدولية؛ فإن المسؤولية تستدعي قراءة كل الاحتمالات وخياراتنا تجاهها، وشكل ونوعية حضورنا مستقبلاً في الملف الفلسطيني، بالإضافة إلى أولوية تمتين العلاقة الأردنية الفلسطينية، في كل أبعادها، وتعزيز عوامل القوة، ومعالجة أي نقاط التباس مفترضة..
وكلي ثقة، أن خيارات الدولة الأردنية واضحة تماماً (وإن لم تكن متداولة)، وتجربتنا في التعامل مع التحديات، تاريخياً، تبرهن، أنها تبدأ من استشراف التحدي والتحضير له والاستعداد التام، قبل حدوثه.
(الغد)