facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

خطبة الجمعة في الميزان :

خطبة الجمعة في الميزان :

د. نسيم ابو خضير 
 القبة نيوز- لقد كان للكلمة - ولا يزال- أثرها الفاعل في النفوس ، وقيمتها الكبرى في القلوب العقول ، ودورها الحاسم في عمليات التغيير الإنساني على صعيد من الدين، والعلم، والفكر، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع .
 فالكلمة هي وعاء المعنى ، ورسوله إلى القلوب والعقول ، وهي القناة التي يتفاهم من خلالها البشر ، ويتناقلون الآراء والأفكار . 
وكلما تقدمت الحياة وتطورت معارفها ، ازدادت قيمة الكلمة في حياتنا ، وازداد دورها خطورة . 
والإسلام دين الإنسان ، لم يغفل دور الكلمة ، بل وضعها في إطارها الصحيح ، فجعلها الوسيلة لهداية الناس ، وتربية الأمة ، وتوعية المجتمع  ، وصياغة الإنسان الإيجابي الصالح.
قال الله تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ). 
 لذا  كانت خطبة الجمعة التي تسبق صلاة الجمعة المفروضة كل أسبوع ، شعيرة ثابتة ، وعبادة يثاب عليها المسلم . 
وقد ركّزت الآثار النبوية على هذه العبادة ، ودعت إلى المواظبة عليها لما فيها من الثواب والفائدة ، وشجعت على التهيؤ لها نفسياً وجسدياً.
لقد لعبت خطبة الجمعة دوراً كبيراً في المسيرة الإسلامية الطويلة ، فمن خلال هذا المنبر  ، طرحت مفاهيم العقيدة ، وتعاليم الشريعة ، ومن خلال هذا المنبر ، عولجت المشاكل التي كانت تستجد في كل عصر ومصر ، وطرحت الحلول المناسبة.. ومن خلال هذا المنبر ، استطاع الخطباء البارعون الصادقون أن يبعثوا في النفوس روح التصدي للأعداء وللمارقين الذين عانت الأمة منهم عبر تاريخها الكثير .
واستمرت صلاة الجمعة وخطبتها عبر القرون ، شعيرة خالدة ، ومعلماً بارزاً من معالم المجتمع الإسلامي ، حافظ على استمراريته في أسوأ الأيام التي مرت بعالمنا الإسلامي ،  وظلت خطبة الجمعة منبراً صامداً للإسلام تفيء إليه الجماهير المسلمة من قيظ الفساد ، والضياع والانحراف الذي يلّوث حياتها ، وظل صوت الخطباء المسلمين عالياً يصدع كل أسبوع بكلمات الحق ، ويُذكر المسلمين بأيام الإسلام المجيدة ، وعزهم المفقود .
واليوم، وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وأمام تزايد وخطورة الدور الذي تحتله وسائل الإعلام في حياتنا المعاصرة ، ثمة سؤال يطرح نفسه في حياتنا المعاصرة ، هو: هل وظفنا خطبة الجمعة التوظيف المطلوب لخدمة وترشيد الصحوة الإسلامية التي بدأت طلائعها تظهر في عالمنا الإسلامي ؟!
إن نظرة إلى واقع الخطبة في العالم الإسلامي ، تعطينا صورة مضطربة تحتاج إلى كثير من المقومات السليمة..
إن خطبة الجمعة لا تزال قائمة في عالمنا الإسلامي ، والمساجد تتزايد باستمرار فتتزايد معها المنابر الإسلامية ، لكن هذه المنابر لمّا تستثمر حتى الآن الاستثمار الكافي ، والخطباء الذين يتحدثون من خلالها ليس أكثرهم - مع احترامنا وتقديرنا للجميع- على مستوى الخطابة بمعناها الصحيح ، بل قد تجد فيهم - للأسف الشديد- من لا يدرك معنى الخطابة كفنّ من فنون الدعاية والإعلام ، ومن يتصور أن الخطبة هي مخاطبة الناس من علٍ بصوت مرتفع ، دون أن يعلم خطورة المنبر الذي يعتليه.
 وهكذا تطالعك على منابرنا أنماط متباينة من خطباء الجمعة ، قد يصل تباينها إلى حدّ التناقض الحادّ .
فالخطباء المتحمسون يبالغون في حماسهم ، وينفعلون عندما لا يطلب الانفعال ، ويطيلون عندما لا يستحق موضوعهم الإطالة ، ويعتقدون أن الخطابة هي شحن الجمهور بشحنات الحماس ، فيصولون ويجولون في شعور المصلين والمستمعين  دون أن يبلغوا عقله ، بينما الحقيقة هي أن الحماس وسيلة وليس غاية ، وأن المشاعر تأتي وتذهب ، بينما الأفكار هي الأبقى ما دامت تجد مكانها في العقل السليم . 
والخطباء الهادئون يبالغون في هدوئهم ، ويلقون خطبتهم وكأنهم يلقون محاضرة ( أكاديمية ) على صفوة من المثقفين ، فتصل المعاني إلى المستمع جافة باردة ، وقد يطيل الخطيب في موضوعه ، وقد يخوض في مواضيع بعيدة عن فهم الجمهور ، فيدب الملل والضجر في نفوس بعض المصلين ، وقد يتسرب النعاس إلى آخرين، فتفقد الخطبة أثرها.
والخطباء التقليديون يلقون عليك خطباً مكررة ، ويطرقون مواضيع محددة ، ولو غبت عنهم سنوات طويلة ، وعدت إليهم لوجدتهم يعزفون على الوتر نفسه ، ويستعملون الأمثلة. 
الخطابة فن يحتاج إلى مواهب خاصة وثقافة واسعة. 
 فالسيرة النبوية الشريفة ، تحدثنا عن الرسول صلى الله عليه وسلم  ، كأنموذج للخطيب البارع ، وتذكرة لنا أنه كان إذا خطب في نهي أو زجر احمرَّت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ،  وقد كانت خطبه عليه السلام من جوامع الكلم ، تتوفر فيها مقومات الخطبة المثالية المؤثرة جميعها .
والخطابة فن يحتاج إلى مواهب خاصة ، وخصائص هامة ليس أولها  :  الصوت القوي المؤثر ، والقدرة على الإقناع واستمالة الحضور ، والتعبير بالحواسّ مع الكلمات ، ومخاطبة العقل والقلب في آن معاً ، ومناسبة لهجة الإلقاء للمعاني ، وليس آخرها وحدة الموضوع ، وموضوعية الطرح ، وترابط الأفكار ، واستخدام الجمل القصيرة المعبرة ، والألفاظ المألوفة .
والخطابة تحتاج أيضاً إلى ثقافة واسعةٍ في أمور الدين والمجتمع، وفهم دقيق لشرائح الناس الذين يترددون على المسجد وطبقاتهم الفكرية ، وأحوالهم الاجتماعية ، وظروفهم المعيشية ، فلا حياة لإعلام لا يعيش مشاكل الجماهير وقضاياها ، ولا أثر لخطبة لا تلمس أعماق الناس الوجدانية ، والفكرية، والاجتماعية ، فليحذر خطباؤنا من تحويل منابرنا إلى أبراج عاجية تحجبهم عن جمهورهم المسلم ، وتُبعدهم عن أوجاعه الحقيقية وواقعة المعاش .
 د. نسيم أبو خضير
تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )