الدكتور ابو رمان يكتب ما بعد الولادة من الخاصرة
محمد أبو رمان
القبة نيوز-عاد أستاذنا، سيف الدين عبد الفتاح، في مقالته أول من أمس، في "العربي الجديد"، بعنوان "تدرّج الإعداد في التخلص من الاستبداد"، إلى كتاب عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد .."، بما سمحت له مساحة المقال لذلك، ضمن مراجعات نقدية، غير مباشرة، لثورات الربيع العربي. ولعلّ زبدة المقال تكمن في التأكيد على التمييز بين إسقاط المستبد (شخصا أو حكومة) والبناء لمرحلة ما بعد الاستبداد، فالثورة والخروج على الحاكم، كفعل ثوري احتجاجي، مرتبط بشروط معينة، لكن ما يتلوه من التخلص من علائق الاستبداد وشبكاته والوصول إلى مرحلة جديدة هي بالضرورة معركةٌ تتطلب توافقاتٍ وعملاً بنائياً وتراكمياً أكثر تعقيداً.
لعلّ مداخلة عبد الفتاح، وهو من الرموز المعروفة في الدعوة إلى الحرية والديمقراطية، وكان له دور في ثورات الربيع العربي على درجة من الأهمية، تأتي في اللحظة المناسبة تماماً، ونحن نستعيد هذا العام ذكريات مرور عقد على قيامة الربيع العربي، بما حملته من رياح تغيير وأحلام داعبت خيال الشعوب في الحرية والتحرّر والخروج من حلقة "الاستثناء العربي" في التحوّل الديمقراطي، التي نظّر لها منظّرون غربيون كثيرون بعدم إمكانية دخول الدول العربية إلى النادي الديمقراطي.
ومن يقرأ ما كتبه الكواكبي، وهذه القراءة له في سياق الفكر العربي، قديماً وحديثاً، سيجده يقع في صلب الجدالات والإشكالات المرتبطة بما يصطلح عليه "المسألة الثقافية"، وما حملته من مقاربات لعلماء ومفكرين كبار، أمثال الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، ربطت التخلص من الاستبداد بشروط ثقافية ومجتمعية وبإصلاح ديني واجتماعي، وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر، ومالك بن نبي (ونظرية حول الصنمية)، وتلميذه جودت سعيد في مذهب ابن آدم الأول، وغيرها من مقاربات لعلماء ومفكرين ومثقفين كبار.
لا يعني ذلك، بالضرورة، استعادة مقولات المدرسة الثقافية بكل ما فيها (مثلاً تحدث الإمام محمد عبده عن المستبد العادل في إطار وظيفي مؤقت، إلى حين تكون الأمة قادرة على القيام بمسؤولياتها)، لكنّه يدفع إلى مراجعةٍ نقديةٍ لثورات الربيع العربي والتمييز بين التحول نحو الديمقراطية وتعزيز الديمقراطية وترسيخها، الأمر الذي يتطلب عملياتٍ مختلفة، تقوم على بناء البديل، وليس فقط هدم صروح الاستبداد، والتخلص من تبعاته.
يمكن العودة هنا إلى جملة من الكتب المهمة والعميقة التي نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لخبراء يناقشون الثورات العربية بصورة مفصّلة، في الحيثيات والتحولات والديناميكيات، بخاصة كتاب عزمي بشارة المهم "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته .. دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة"، إذ تتيح قراءات علمية موضوعية مفصّلة لما حدث من كسرٍ لجدران الاستبداد الأمنية والنفسية والثقافية، للانتكاسات التالية لذلك في دول عربية كثيرة، سواءً التي حدثت فيها ثورات مضادة، أو وقعت في شراك الحروب الأهلية القائمة على الهويات المحتربة، طائفياً وعرقياً ودينياً، وحتى الاستقطابات بين التيارات والأحزاب الأيديولوجية.
ما تزال الشعوب العربية، في الأغلب الأعم، في لحظة انتقالية منذ ثورات الربيع العربي، يصعب العودة بعدها إلى ترميم السلطوية وديناميكاتها ومنحها الشرعية مرّة أخرى، لكنّها تتطلب عملاً كبيراً فكرياً وواقعياً لتحقيق الحلم بالوصول إلى مرحلة جديدة من الديمقراطية والحرية والعدالة، وهذه هي الشعارات والقيم التي قامت من أجلها الثورات، وحملها الشباب على أكتافهم، وضحّى آلاف بأرواحهم من أجلها، ودفع الملايين ثمن هذه المعركة، سواء عبر القتل أو التهجير أو التعذيب، بما يتضمنه ذلك من عذابات وآلام شديدة!
تأخرتُ كثيراً في مشاهدة مسلسل "الولادة من الخاصرة"، بأجزائه الثلاثة، وهو وثيقة درامية تستحق المتابعة المعمقة. العمل، وإن لخّص الحالة السورية، إلا أنّه استبطن كثيراً من شروط الواقع العربي. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى القراءة والمراجعة والتفكير، مثقفين وقوى سياسية وتيارات إسلامية وليبرالية وعلمانية لدراسة ما حدث والتعلّم منه والتفكير في المرحلة المقبلة، فمهمّة الإنقاذ لم تنته، ودور المفكرين والمثقفين اليوم يتمثّل برسم معالم الطريق لشعوب وسط الحرائق والنيران.