الدكتورة ماجدة زيدان تكتب: النقابات والأحزاب بين التحديات والطموحات في مسار الإصلاح السياسي بالأردن

بقلم - الدكتورة والكاتبه ماجدة ابراهيم زيدان
تعدّ عملية تحديث المنظومة السياسية في الأردن من التحديات الأساسية التي يواجهها البلد في مسعاه نحو تعزيز الديمقراطية، وترسيخ مبدأ الحكم الرشيد، وتعزيز مشاركة المواطنين في صنع القرار. في هذا السياق، تبرز أهمية مؤسَّستين فاعلتين من مؤسسات المجتمع المدني ¬— النقابات والأحزاب — كرافد مهم في دفع التحديث، والمساهمة في ضبط التوازن بين السلطة والمجتمع، وتعميق الوعي السياسي والمساءلة.
في هذا المقال، سأعرض أدوار النقابات والأحزاب في هذا المسار، التحديات التي تواجهها، وبعض التوصيات لتعزيز فاعليتها، مع ربطها بمزايا المشروع الملكي لتحديث المنظومة السياسية في الأردن.
الإطار النظريّ والدستوري للتحديث السياسي
1.مفهوم تحديث المنظومة السياسية
تحديث المنظومة السياسية يعني إعادة بناء الأُطر القانونية، الدستورية، المؤسساتية، والإجرائية التي تنظم الحياة السياسية، بهدف:
-تعزيز التمثيل الحقيقي للمواطنين
-تقليص النفوذ الفردي أو العشائري أو الولائي
-ترسيخ الحزبية البرنامجية بدلاً من الولاءات الشخصية
-رفع الشفافية والمساءلة
-توسيع المشاركة الشعبية في الشأن العام
2.الأساس القانوني والدستوري للأحزاب والنقابات
-الدستور الأردني ينصّ على الحريات العامة وحق التنظيم ضمن حدود القانون، ولا يمنع تشريع الأحزاب والنقابات، لكن الصياغات القانونية تحدد الإطار المسموح به.
-في الأردن، قانون الأحزاب، وقوانين العمل والتنظيم النقابي تلعب دورًا محوريًا في تحديد الحريات والقيود التي تعمل ضمنها تلك الجهات.
-التحديث السياسي يقتضي أيضاً تعديل التشريعات ذات العلاقة لضمان حرية التنظيم السياسي والنقابي بما يتماشى مع المعايير الدولية.
دور النقابات في تحديث المنظومة السياسية
النقابات – سواء العمالية أو المهنية – تملك إمكانات تؤهلها أن تكون قوة ضغط وتصحيح في العملية السياسية، إذا ما توفرت لها الشروط الملائمة. فيما يلي بعض الأدوار التي يمكن أن تلعبها، مع إشارات إلى الواقع الأردني:
أ. الأدوار الممكنة للنقابات
1.تمثيل المصالح والضغط التشاركي
النقابات تجمع أفراد مهن أو قطاعات محددة، وتعرف احتياجاتهم الفعلية. يمكنها أن تترجم هذه الاحتياجات إلى مطالب سياسية (تشريعية، تنظيمية، رقابية) وتضغط بدورها على السلطة التنفيذية أو التشريعية لتحقيقها.
2.المراقبة والمساءلة
من خلال متابعة تطبيق القوانين والسياسات التي تمس العمال أو المهن، والنقد البناء للممارسات الحكومية، والمطالبة بالشفافية، يمكن للنقابات أن تساهم في ضبط أداء السلطة، خصوصًا في المجالات التي تهم منتسبيها.
3.التثقيف والتوعية السياسية
النقابات كهيئات قريبة من الفئات المهنية أو العمالية، يمكن أن تُدرّب أعضائها على المفاهيم السياسية، قانونية العمل، حقوق المواطنين، المشاركة السياسية، لتشكيل قاعدة مشبعة بالوعي والدافعية للمشاركة.
4.التوظيف في التحديث المؤسسي
عندما تُشرك الحكومة النقابات في وضع السياسات التشريعية أو الإصلاحية التي تهم سوق العمل أو التنظيم المهني، فإن ذلك يرفع من شرعية الإصلاح ويجعل التطبيق أكثر قبولاً وفعالية.
5.سدّ فراغ الحياة الحزبية في فترات الانقطاع
في فترات كان فيها النشاط الحزبي مقيدًا أو متوقفًا، لعبت النقابات دورًا تكميليًا في التعبير السياسية، وعبرت عن بعض القضايا العامة، كما حدث في الأردن في بعض الفترات التي تأثرت فيها الحريات الحزبية. (كما ورد أنّ النقابات المهنية أخذت دورًا بارزًا في المرحلة التي جُمّدت فيها الحياة الحزبية)
ب. الواقع والتحديات في الأردن
1.التقييد القانوني أو العملي
رغم أن قوانين العمل في الأردن تضمن حرية العمل النقابي، هناك ملاحظات على التطبيق والقيود الفعلية أو على بعض الجوانب التنظيمية للنقابات.
بعض النقابات تواجه ضغوطًا أو محاذير في التورط في القضايا السياسية، أو في ممارسة النقد العلني.
2.الانقسام المهني والاقتصادي بين النقابات
النقابات المهنية غالبًا ما تكون محدودة التأثير مقارنة بالنقابات العمالية (التي تمثل قطاعات أوسع من العمال). وهذا يضعها أمام تحدّي توسيع قاعدة النفوذ لتشمل الشرائح الأدنى في الهياكل المهنية والاقتصادية.
3.الربط بين العمل المهني والسياسي
هناك جدل حول مدى سعي بعض النقابات إلى "تسييس” نشاطها، أو مناورات داخلية تلتقي مع الأجندة الحزبية، دون أن تكون هذه المصالح البرامجية العامة هي الأساس. مثلاً، في انتخابات نقابات مثل المحامين أو المهندسين، يمكن أن يظهر التنافس السياسي بوضوح.
4.ضعف الربط بين المطالب النقابية والتوجه السياسي العام
في بعض الحالات، تقتصر النقابات على مطالب المزايا المادية أو التنظيمية دون الربط لهذه المطالب بسياسات هيكلية أو رؤى إصلاحية شاملة.
5.الموارد والاستقلالية
المالية، والبنية التنظيمية، والاستقلالية الإدارية، كلها من التحديات التي قد تضعف قدرة النقابة على الموازنة بين التمثيل المهني والنقد السياسي.
دور الأحزاب في تحديث المنظومة السياسية
الأحزاب السياسية تشكّل العمود الفقري لأي نظام سياسي ديمقراطي. في سياق التحديث، يمكن للأحزاب أن تلعب الأدوار التالية:
أ. الأدوار الممكنة للأحزاب
1.تقديم برامج سياسية واضحة
بدلاً من الاقتصار على الشخص أو الولاءات، على الأحزاب أن تقدّم برامج إصلاحية اقتصادية، اجتماعية، سياسية واضحة وقابلة للتطبيق، وتنافس على أساسها في الانتخابات.
2.ربط المواطن بالدولة
الأحزاب يمكن أن تكون قناة تنظيمية للمواطنين للتعبير عن آرائهم، الانخراط في العملية السياسية، التأثير في صنع القرار بوجه مؤسَّس.
3.التعبئة والتنظيم الاجتماعي
بإمكان الأحزاب أن تنظم حملات للتوعية، التثقيف، المشاركة المجتمعية، وربط القواعد الشعبية بالهيئات التشريعية أو التنفيذية.
4.الرقابة والمساءلة
كقوة معارضة (أو تنفيذية)، تتولى الأحزاب مراقبة أداء الحكومة والمطالبة بالشفافية، وتعرض برامجها البديلة، وتعرض التصويت على السياسات.
5.التجديد السياسي وتدوير النخب
الأحزاب الناجحة تتيح الفرصة لتكوين قيادات جديدة، فتح الشباب أمام المشاركة، تجديد الدم في الهيئات النيابية والحكومية.
6.توطيد ثقافة الحزبية والالتزام
العمل الحزبي المنظم يُعزّز الاعتراف بالاختلاف، الحوار، احترام نتائج الانتخابات، ويُبعد نزعات الاستقطاب العنيف أو الانشقاق الدائم.
ب. الواقع والتحديات في الأردن
1.ضعف هيمنة الأحزاب في البنية الانتخابية
حتى في التعديلات الأخيرة، العشائر والانتخابات المحلية تلعب دورًا كبيرًا، بحيث إن الأحزاب غالبًا ما تتنافس ضمن منظومة تتداخل فيها الولاءات العشائرية والمناطقية. القانون الانتخابي والتوزيع القُطع الانتخابية غالبًا ما تُهيئ السياق لصالح المرشحين المستقلين أو المرتبطين بشبكات محلية أكثر من الأحزاب.
2.التقييد القانوني وتأهيل الأحزاب
في السنوات الأخيرة، صدر قانون أحزاب يتم فيه تصويب أوضاع عدد من الأحزاب، وأُغلق عدد منها لعدم استيفاء الشروط، وبقيت الأحزاب التي تستوفي المتطلبات القانونية فقط هي التي يُعترف بها رسميًا.
3.ضعف القاعدة الشعبية المنظمة
بعض الأحزاب تفتقر إلى تنظيم حقيقي في القرى والمدن، أو إلى جهاز حزبي قادر على التواصل المستمر مع المواطنين خارج أوقات الانتخابات.
4.التمويل والشفافية
التمويل الحزبي غالبًا ما يواجه القيود التنظيمية، والمساءلة في هذا الجانب ليست دائمًا قوية، مما يُضعف استقلالية الأحزاب.
5.الولاءات المضاعفة
علاقات الولاء العشائري والمحلي (القبلي) كثيرًا ما تنفصل أو تتنافس مع الولاء الحزبي، ما يضع صعوبة أمام بناء ولاء حزبي خالص.
6.التحديات الثقافية والسياسية
في بعض قطاعات المجتمع، قد ينظر إلى الأحزاب نظرة شك أو كمؤسسات غير فعالة، مما يُعيق تقدّمها في جذب الكوادر والكفاءات.
كيفية التكامُل بين الأدوار: نقابات وأحزاب في بوتقة التحديث
•الشراكة والتنسيق: يمكن للنقابات والأحزاب أن تنسّق في المجالات المشتركة، مثل السياسات العمالية أو إصلاحات سوق العمل، بحيث تُقدّم الأحزاب برامج يُشار إليها من قبل النقابات، والنقابات تدعم الأحزاب التي تتبنى توجهاتها.
•إعادة التوظيف المؤسساتي: أن تُشرك الحكومة النقابات والأحزاب في تشكيل لجان إصلاحية أو تشريعية عند صوغ التشريعات التي تؤثر في العمل والمجتمع.
•التدريب والتأهيل المشترك: تنظيم دورات وبرامج تدريبية لأعضاء الأحزاب والنقابات معًا في مهارات الحوكمة، التفاوض، التنظيم، وحقوق الإنسان.
•المساءلة المتبادلة: الأحزاب تلتزم أمام النقابات في القضايا الأخلاقية أو المهنية، والنقابات تراقب الأحزاب أو المرشحين الذين تستند إليهم لتطبيق السياسات.
•دعم التمثيل السياسي: تشجيع أعضاء النقابات على الانخراط في العمل الحزبي، أو ترشيح أعضاء النقابات ذوي الخبرة في قوائم حزبية، مما يضيف قاعدة مهنية للحزب ويوسّع قاعدة النقابات.
الصلة بالمشروع الملكي لتحديث المنظومة السياسية في الأردن
•في خطاب العرش وفي خطط الإصلاح، أكد الأردن السير في مشروع التحديث السياسي على أساس الحزبية البرامجية، وأن الأحزاب يجب أن تتبوأ مركزًا فاعلًا في الحياة السياسية.
•اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية تعمل على وضع معايير وأُطر تشريعية لتنظيم الأحزاب، وتدعيم دور الأحزاب في البرلمان والحياة العامة.
•تعديل قانون الأحزاب وتحديد مقاعد مخصصة للأحزاب في الانتخابات النيابية يُعد خطوة لإعطاء الأحزاب دورًا أكبر نسبيًا في التمثيل النيابي بدلًا من الاعتماد الكلي على المرشحين المستقلين أو الولاءات المحلية.
•في المرحلة القادمة، يُنتظر أن تتعاظم أهمية مشاركة النقابات، خاصة عندما يُطرح التشريع المتعلق بسوق العمل، التنظيم المهني، الحماية الاجتماعية، بحيث تكون النقابات قوة ضاغطة واسـتشارية في هذه القضايا.
توصيات لتعزيز فاعلية النقابات والأحزاب في التحديث
1.إصلاح التشريعات ذات العلاقة
مراجعة قانون الأحزاب، وقانون العمل والتنظيم النقابي، بحيث تُخفف القيود على التأسيس والتنظيم والتمويل، وتضمن الحماية القانونية للنشطاء والمُنتسبين.
2.ضمان التمويل الشفاف
إنشاء آليات تمويل حزبي ونقابي شفافة ومدقَّقة (مثل صناديق دعم الدولة، أو مساهمات العضوية)، مع رقابة محايدة لمنع التبعية أو التأثير غير المنضبط.
3.بناء قواعد تنظيمية حقيقية
تشجيع الأحزاب على امتلاك فروع منظمة فعالة في المحافظات والمناطق، وربطها بقاعدة شعبية مستمرة.
في النقابات، العمل على التوسع في القطاعات غير الممثلة، وتعزيز التواصل والعضوية في كل المهن.
4.التدريب والتثقيف
برامج مستدامة لتدريب القيادات الحزبية والنقابية في مهارات الإدارة، التفاوض، الشفافية، التقييم، المناصرة، والتواصل المدني.
5.التشاركية في التشريع والقرارات
إشراك الأحزاب والنقابات في لجان التشريع أو مراجعة القوانين التي تهم العمل، المهن، والعدالة الاجتماعية، بحيث تكون شريكة في الصياغة وليس فقط مُمثلة بعدما يُقر.
6.تشفير الأداء والمساءلة
إلزام الأحزاب والنقابات بنشر تقارير دورية عن نشاطها، إيراداتها، مصروفاتها، إنجازاتها، مع وجود آليات مساءلة داخلية وخارجية.
7.تشجيع التداخل الإيجابي
تحفيز التعاون بين الأحزاب والنقابات في القضايا المشتركة، دون هيمنة حزبية على النقابات، أو استغلال سياسي فئوي للنقابات.
8.تحفيز مشاركة الشباب والمرأة
إعطاء الحصة الأكبر من العضوية والمناصب القيادية في الأحزاب والنقابات للشباب والنساء، من خلال الحصص التعليمية والمبادرات التنموية.
الخلاصة: النقابات والأحزاب ليستا مجرد مكونات تكميلية للهياكل السياسية، بل يمكن أن تكونا محركات أساسية لتحديث المنظومة السياسية في الأردن إذا ما استُثمرت طاقاتهما بوعي ونزاهة. لتحقيق ذلك، يجب تهيئة البيئة القانونية، التنموية، والاقتصادية التي تضمن استقلاليتهما وشفافيتهما، والتكامل بينهما وبين مؤسسات الدولة. بهذه الطريقة، يمكن أن تشكّلا قوة ضاغطة بنّاءة للتغيير، وتكونا جسرًا بين المواطن والدولة في رحلة التحول إلى نموذج سياسيٍّ أكثر عدالة ومشاركةً.
الدكتورة ماجدة إبراهيم زيدان