بشار المجالي يكتب : من ملعب المدرسة،،إلى سجن القواعد،،حين يختنق الطفل داخل البدلة الرسمية

بقلم - بشار عبدالمجيد المجالي
في ساحة المدرسة، كانت الحياة أبسط من جدول الحصص نفسه. كرة منفوخة أكثر من اللازم، وملعبٌ مرسوم بخطوط باهتة مهترئة من الطباشير تمحوها أول نسمة هواء، وأطفال لا يعرفون من قوانين الكرة إلا أن من يسجل أكثر و يصرخ أعلى.صراخ وصخب دائم، ذاك يحمل الكرة بيده ويضعها في المرمى دون خجل، وذاك يركلها باتجاه غير معلوم، وثالثٌ يعلن نفسه حكمًا وصافرة دون إذن من أحد. ثم يضحكون جميعًا ، دون بطاقة حمراء أو احتجاج على التحكيم أو جدال في أصول "اللعب النظيف”.
أو حتى قواعد ال VAR، كانت الغاية واضحة: اللعب والضحك والانبساط، ولتذهب القواعد إلى غياب الجب!
لكن ما إن كبر هؤلاء الأطفال حتى انقلبت الآية. صاروا يرتدون البدل الرسمية ويحملون ملفات تحوي لوائح وقوانين كأنها مفاتيح الجنة، يتحدثون بلغة جافة عن "الالتزام” و”الإنتاجية” و”الأداء المثالي”، وكأن الحياة ليست إلا ورشة لصيانة البشر. أصبح أحدهم يعتقد أن السعادة خطأ إداري يمكن أن يُحاسَب عليه، وآخر يقيس نجاحه بعدد الاجتماعات التي نجا منها دون أن يُسأل أو يقع في موقف محرج. لقد انتصر النظام، نعم، لكنه سحق ما تبقى من إنسانيتنا الطفولية تحت عجلات الجدية الزائدة.
القواعد مهمة، لا خلاف على ذلك. فهي تنظم السير وتمنع الفوضى وتحدد من يدخل الصف أولًا في طابور المدرسة. لكنها أيضًا إن زادت عن حدها تخرج من كونها وسيلة إلى أن تصبح غاية، تسرق منك لذة الحياة وتجعلك آلة بملامح بشرية.
أتذكر أحد الزملاء في العمل كان في بداياته طاقة من الحماس والمرح، يدخل المكتب وكأنه قادم من مسرح وليس من شارع مزدحم. يوزع النكات كما يوزع الموظف الحكيم النماذج الورقية. ثم صدرت "مدونة السلوك الوظيفي”، التي نصّت أن على الموظف "إظهار الجدية والانضباط أثناء الدوام”. لم يفهم زميلي أن الجدية لا تعني الكآبة، فقرر أن يتحول إلى تمثال من الصمت.
لم يعد يضحك، ولا يتحدث إلا بصيغة رسمية، حتى شعار الإيموجي المضحك في رسائله صار يشعر بالذنب. ذات يوم قال لي وهو يراجع جدول الحضور الصباحي وتأخيراته المتكررة: "تصدق؟ أشتاق لصوت الجرس أكثر من صوت المدير.”
القواعد حولتنا من بشر إلى كتيبات للإرشادات. فقدنا الطفل الذي بداخلنا، ذاك الذي كان يركض وراء الكرة دون همٍّ سوى الضحك، لا يعرف شيئًا عن التقارير ولا مؤشرات الأداء، ولا التخطيط الاستراتيجي،لكنه كان يعرف كيف يستمتع باللحظة.
العالم اليوم يعيش في عبادة القواعد. كل شيء له كتيّب: كيف تمشي، كيف تبتسم،كيف تطبق البروتوكول، كيف ترد على البريد الإلكتروني دون أن تُتهم بعدم الاحتراف. حتى المزاح أصبح يحتاج إلى إذن مسبق. نحن جيل يضع القوانين لقتل الفوضى، ثم يشتكي من غياب الفرح!
نحتاج إلى توازن بسيط: أن نسمح لأنفسنا بالضحك دون خوف من مخالفة النظام، أن نتذكر أن الخطأ ليس جريمة بل دليل حياة أو على الأقل دليل على المضي إلى الأمام، وأن الانضباط لا يعني أن نكتم أنفاسنا حتى إشعار آخر.
قديما كان يكفي أن تلعب مع فريق ويكون خصمك في الفريق الآخر شقيقك فيعرقل أحدكما الآخر ، عندها يكون للحكم رأي آخر ، لا يوجد مخالفة فهذه مشكلة يمكن حلها في المنزل فقط لأنكما شقيقين،هنا تتجسد روح القانون وبراءة الفطرة. حين تشعر أن بدلتك الرسمية ضيقة على صدرك، تذكّر ملعب المدرسة. تذكّر الكرة التي لم تكن تعرف القواعد، لم تكن تعرف إلا لغة الفوضى، لكنها كانت تعرف طريقها إلى قلوبنا.
وتذكّر أن في داخلك طفلًا صغيرًا — مشاغبًا، فوضويًا، وربما قليل الأدب — ينتظر منك فقط أن ترفع عنه لائحة القوانين وتسمح له بالركض من جديد.