facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

على صفحة الحلم كانت افتتاحية المشهد.

على صفحة الحلم كانت افتتاحية المشهد.
لارا مـصـطفى صـالــح 

القبة نيوز- نشوة لذيذة اعترتني وألقت بي على عتبة البداية. أطعت إله الحلم واقتفيت آثار الموتى إلى دار سيدي المبنية في إحدى الحارات الواسعة الواقفة على جبل شامخ في عمان الشرقية، الشقيقة الشرعية لعمان الغربية. ثمة من يشكك في شرعية هذه العلاقة على نحو غافل، وينسى أن الأرواح شهود!

خيوط النهار أتت بعصفور "جايبلي سلام من عند الحناين"، والشمس فتحت باب الحلم على أسوار البيوت المتلاصقة -والمزينة بصفائح من التنك متفاوتة في الحجم والشكل، زُرع في داخلها النعناع والريحان وبعض نباتات الزينة- وعلى توليفةٍ إنسانية لا تتأثر بمزاج الظروف. وعمان؛ أرخت جدائلها ليبدأ دبيب الحياة في الحارة.

علاقات حضورية وكل حدث يستدعي حدثا آخر. قصص عاثرة، وأخرى واقعية لا لبس فيها. نساء الحارة يختلفن ويأتلفن، والأولاد ما بين تحالف وتضاد والرجال يتراكضون خلف الحياة في صراع لا يبلغ منتهاه. لكل منهم عالمه الخفي، إلا أن ثمة شيئًا مشتركا بينهم كفيل بسد الفجوة بين الشرقية وشقيقتها ولو كانت جارحة.

صبية تغطي احمرار وجهها بطرف ستارة، تحرك رأسها مع أغنية ناجت قلبها كأنما تحميه من اليأس . شاب وسيم يحمل بسطة ألعاب ورواية لإحسان عبد القدوس، افترش سجادة على زاوية الحارة، وأسند ظهره إلى الحائط، سألته عجوز: بياع مثقف؟ فأجاب بتأدب ساخر: بل بياع عاشق. روائح حادة ونفاذة، تعلق في ذاكرة الأنف، ليست من صفائح الزرع، إنما هي خليط من البصل والثوم وأنواع البهارات التي تستخدمها النساء في الطبخ.

عبق خبز تعتق بين الجدران بدد دخان سجائر سيدي الذي يتنزه بين غرف الدار الكبيرة. ناديت، فجاء الصدى ترويدة مفرداتها تتناسل بعضها من بعضها الآخر. هذي ستي كأنها مقبلة على عيد بثوبها * "الغباني" الذي ارتمت في طياته قطبة التحريرة التلحمية، وتساقطت على أكمامه وذيله ساعات ثمينة هي أروع ما خلفته لنا أصابع الجدات الأثيرة. للأصابع حديث بالمناسبة!
ضوء الغروب تسرب إلى الأشياء. وحدث أن تحلق رجال الحارة فعلت ضحكاتهم بعد نقاش سياسي حاد وصف حالة الفلسطينيين بعد كامب ديفيد. (إسماعيل)، الذي كان يتقمص دور "كبير القعدة" لما يتمتع به من مقدرة هائلة في فن الحوار والمراوغة بالإضافة إلى حفظه تفاصيل بعض الأحداث التاريخية، كان مستعدا للرد على ما قد يسوقه الرجال من حجج وحقائق مهما تضمن رده من مغالطات، بيد أنه انقطع عن الكلام بغتة عندما سأله محمود -وهو أربعيني قليل الفهم مختلط الكلام يتأرجح بين الطيبة والسذاجة- بكلمات متأنية: شو يعني أوسلو المشؤوم؟ أجاب إسماعيل وهو يداري امتعاضه بابتسامة: قلتلك ألف مرة لا تقاطعني، بعدين بحكيلك، وتابع حديثه. لكن الغضب كان قد تمكن من محمود فصاح بوجهه: اسماعين…إنت مدمن! انقبض وجه إسماعيل، ومرت لحظات وئيدة حتى استطرد محمود: مدمن برم إنت يا زلمة. انبسط وجه إسماعيل، وقال: وين وصلنا؟

زوجة صاحب الدكان، لمت ثوبها حول ساقيها وجلست على مقربة منهم، مدت طرفها نحو السماء وغنت بصوت يابس قهره الانتظار "والله لازرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر..". دمعة انحبست في زاوية عين زوجها اليمنى. أشاح بوجهه إلى باب الدكان في محاولة لإخفائها، وعدل وضع عصاه وشد طرف عباءته استعدادا للنهوض وقال: تصبحو على بلاد!

 
مشهد من حلم، هكذا كانت الحياة، وأشيائي المتروكة هناك، أسلحة لا أبرهن بها على تشابك المختلف والمؤتلف فحسب، بل على تماهي سنوات علقتها على جذع تينة عتيقة بتراب أنتمي إليه، وأدلة على اشتراطات إنسانية وسمت هويتي. وبين النوم واليقظة حالة ثالثة لا تقبل التسمية.

صوت فيروز تغني " أنا عندي حنين"، حول الحلم من سرياليته إلى ذروة الحقيقة؛ الحياة تمشي إلى الأمام لكني أريدها أن تعود للوراء، لأنام في حجرها.

* الثوب الغباني: زي أفراح (لفتا) وبعض القرى في قضاء القدس. الثوب عرف باسم (الغباني) نسبة للقماش الغباني المستورد من حمص وحلب (سوريا)، وتطريزه على نمط بيت لحم بقطبة التحريرة. أما الساعة المطرزة في طياته ترمز إلى الحياة والعرق المنبثق من الساعة يرمز إلى شجرة الحياة.
تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )