facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

الدكتور ابراهيم عقل يكتب :‏التعليم: من إعادة التدوير إلى إعادة الانتاج

الدكتور ابراهيم عقل يكتب :‏التعليم: من إعادة التدوير إلى إعادة الانتاج
كتب - ‏د. ابراهيم عقل
‏** حوار بين جيلين يكشف عن أزمة ممتدة
‏"سألني ابني ذو الستة عشر عاماً كيف كنا ندرس في زمننا، فأجبته أنه كان هناك مدرس يقف في مقدمة الصف ويحاضر ويكتب على اللوح الخشبي. فقال لي ابني: يبدو أن نظام التعليم لم يتغير خلال قرنين من الزمن ، باستثناء أن اللوح الخشبي أصبح لوحاً تفاعلياً".

‏هذا الحوار البسيط والعميق في آن واحد، والذي دار بين أب وابنه، يختزل أزمة عالمية كبرى. إنه يكشف عن حقيقة صادمة مفادها أن النموذج التعليمي الذي نتبعه اليوم، في جوهره، هو نسخة بالكاد محدّثة من النموذج الذي صُمم في عصر الثورة الصناعية الأولى.

‏لقد تغير العالم من حولنا بشكل جذري، من الذرة إلى المجرة، لكن الغرفة الصفية وقاعة المحاضرات لا تزال أسيرة لفلسفة تعليمية تجاوزها الزمن.
نحن نعيش في عصر الثورة الصناعية الرابعة، عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، ومع ذلك، لا نزال نُعِدُّ أبناءنا للمستقبل بأدوات وفكر الماضي.
إن التحدي الذي يواجهنا اليوم ليس مجرد تطوير أو تحسين، بل هو ضرورة حتمية لإجراء تحول جوهري وشامل. لم نعد بحاجة إلى "إعادة تدوير" التعليم، بل إلى "إعادة إنتاجه" بالكامل.
هذه السلسلة من المقالات هي دعوة مفتوحة لإعادة التفكير في كل مُكَوِّن من مكونات العملية التعليمية، من المدخلات إلى المخرجات، بهدف بناء نظام تعليمي يليق بإنسان القرن الحادي والعشرين، مع التركيز على السياق العالمي والتحديات والفرص في المملكة الأردنية الهاشمية.
‏** إعادة التدوير مقابل إعادة الإنتاج
‏إن ما يحدث في معظم أنظمة التعليم حول العالم اليوم، بما في ذلك الأردن، هو عملية إعادة تدوير للتعليم. يتم إدخال تغييرات طفيفة على العمليات، مثل استبدال اللوح الخشبي باللوح التفاعلي، أو إضافة بعض المواد الحاسوبية، مع الإبقاء على نفس المدخلات الأساسية (طالب ومعلم ومناهج وبيئة تقليدية) ونفس الفلسفة، لنحصل في النهاية على نفس المخرجات تقريباً "خريجون قد لا يمتلكون المهارات اللازمة للنجاح في عالم متغير.
أما إعادة الإنتاج فهي عملية أكثر عمقاً وجذرية. إنها تعني تفكيك النظام التعليمي إلى مكوناته الأساسية وإعادة بنائه من جديد، مع الأخذ في الاعتبار المتغيرات الجديدة والتطلعات المستقبلية بما يحدث تحولاً جوهرياً من نموذج "إعادة تدوير التعليم” القائم على التلقين والحفظ إلى نموذج "إعادة إنتاج التعليم” الذي يعيد صياغة المنظومة التعليمية برمتها. ففي النموذج التقليدي يُنظر إلى الطالب كمستقبل سلبي للمعرفة، والمعلم كمصدرها الوحيد، والمناهج كمعلومات جامدة تُقدّم ضمن بيئة صفّية مغلقة. أما في النموذج المستقبلي فيُعاد تعريف التعليم ليشمل الطالب بجوانبه الجسدية والعقلية والروحية، والمعلم كموجّه وميسّر، والمناهج كمنظومة علمية وأخلاقية ومهارية تُقدَّم ضمن بيئات تعليمية مفتوحة وممتدة.
كما تتحول العمليات من الحفظ والتلقين إلى التعلم القائم على المشاريع والاستقصاء والتعليم الشخصي والمدمج، مع توظيف الذكاء الاصطناعي والتعلم باللعب في بيئات عالمية. والنتيجة النهائية هي الانتقال من خريج يمتلك شهادة فقط إلى خريج يمتلك كفاءات ومرونة وصحة نفسية، مؤهَّل لسوق عمل متغير وقادر على التعلم مدى الحياة ومن الأمثلة على ذلك النموذج الذي تقدمه مؤسسة ولي العهد بتوجيهات ملكية سامية وجهود دؤوبة من صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله من خلال نموذج جامعة الحسين التقنية.
‏** عندما تخفق الأنظمة التعليمية في تحقيق أهدافها
‏إن الدعوة إلى إعادة إنتاج التعليم ليست ترفاً فكرياً، بل هي استجابة لأزمة حقيقية وموثقة بالأرقام.
‏تشير البيانات العالمية إلى أن التوسع الهائل في الالتحاق بالمدارس لم يقابله بالضرورة تحسن في جودة التعلم. يقول البنك الدولي إن "أكثر من نصف الأطفال في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل لا يستطيعون قراءة وفهم قصة بسيطة في نهاية المرحلة الابتدائية" هذه الظاهرة، التي يطلق عليها "فقر التعلم"، هي مؤشر خطير على أن المدارس تفشل في مهمتها الأساسية.
‏** ملامح نظام التعليم المُعاد إنتاجه: من الطالب "الهاردوير" إلى أنسنة المناهج
‏كيف سيبدو شكل نظام التعليم الذي نطمح إليه؟ في المقالات القادمة من هذه السلسلة، سنتعمق في كل مكون من مكونات هذا النظام الجديد، ولكن يمكننا هنا رسم ملامحه العريضة:
‏1 - الطالب "الهاردوير والسوفتوير": سنتجاوز النظرة للطالب كجسد فقط، لندرك أهمية عقله وروحه وصحته النفسية. كيف يمكن لنظام تعليمي موحد ومناهج موحدة أن تخاطب الطلاب المختلفين في "السوفتوير" حتى وإن تشابهوا في "الهاردوير"؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يتطلب تعليماً شخصياً يراعي الفروق الفردية.
‏2 - أنسنة المناهج ودمج الصحة النفسية: لم تعد المناهج العلمية كافية وحدها. نحن بحاجة ماسة إلى مناهج أخلاقية تنمي القيم، ومناهج مهاراتية تبني الكفاءات، ودمج الصحة النفسية كعنصر أساسي في العملية التعليمية، فهي بمثابة "نظام التشغيل" الذي يمكن الطالب من استيعاب وتوظيف كل ما يتعلمه.
‏3 - البيئة التعليمية بلا جدران: المدرسة لم تعد المبنى، بل هي النظام البيئي للتعلم الذي يمتد إلى المجتمع والبيئة الرقمية والعالم بأسره. التعلم يحدث في كل مكان وزمان.
‏4 -الذكاء الاصطناعي كشريك: سيلعب الذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في تخصيص تجارب التعلم، وتحرير المعلم من المهام الإدارية ليتفرغ للتوجيه والإرشاد، وتقديم تحليلات دقيقة حول أداء الطلاب.
‏ختاما: بداية الرحلة
‏إن الحوار بين الأب وابنه هو تذكير بأن الجيل الجديد يرى العالم بعيون مختلفة، وهو يطرح أسئلة مشروعة حول جدوى ما نقدمه له. إن إعادة إنتاج التعليم ليست خياراً، بل هي ضرورة حتمية لبناء مجتمعات المعرفة والاقتصاديات القوية، ولتمكين أبنائنا من مواجهة تحديات المستقبل بثقة وإبداع.
‏في المقال القادم، سنبدأ رحلتنا في استكشاف مكونات هذا النظام التعليمي الجديد، بدءاً من الطالب والمعلم، ثم المناهج والبيئة التعليمية، مستلهمين من النماذج العالمية الناجحة مثل فنلندا وسنغافورة وإستونيا.
تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير