الأردن بين فقرٍ يعضّ وألسنةٍ تلسع: حين يجتمع الجوع والتنمر في جسد واحد

القبة نيوز - كتب رئيس مجلس إدارة مجموعة القبة الإعلامية حمزة القيسي :
لم يعد الهدوء الذي تميزت به شوارع الأردن كالسابق، فموجات الجريمة تتصاعد بوتيرة تنذر بالخطر. جرائم قتل تروّع الأحياء، سرقات تنتهك قوت الناس، واعتداءات تُظهر وجهاً جديداً من القسوة الاجتماعية. وما بين الجيوب الفارغة والبطون الجائعة، تتولد نزعات شرسة، يصعب كبح جماحها حين يضيق الحال وتتعاظم الأزمات.
الفقر.. شرارة الانفجار
الفقر ليس مجرد عجز عن توفير لقمة الخبز أو دفع فاتورة كهرباء؛ إنه حالة نفسية قاسية تفتح أبواباً مظلمة. يروي لنا التاريخ أن الفقر إذا اجتمع مع الغضب ولد الجريمة، وإذا ترافق مع اليأس أنتج الانحراف. وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كاد الفقر أن يكون كفراً"، ليؤكد أن العوز ليس عجزاً اقتصادياً وحسب، بل تهديداً مباشراً للأمن الأخلاقي والمجتمعي.
التنمر الرقمي.. رصاص بلا بارود
وفي عالم آخر، عالم افتراضي لا تحكمه ضوابط ولا رادع، ينتشر التنمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كلمات جارحة، صور مشوّهة، واتهامات تطعن في الأعراض وتغتال الشخصيات. يكتب أحدهم تعليقاً حاداً وكأنه يلقي حجراً في بركة راكدة، غير مدرك أن هذا الحجر قد يغرق قلباً في بحار الاكتئاب أو يدفع نفساً إلى حافة الانهيار.
وقد نهى القرآن الكريم عن مثل هذا الفعل صراحةً، فقال تعالى:
"وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ" (الحجرات: 11).
أما الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، فكيف يطيب لإنسان أن يجعل لسانه سيفاً يمزق كرامات الآخرين؟
الإعلام.. بين التشخيص والتحريض
الإعلام هو عين المجتمع ولسانه. فإذا اكتفى بسرد أخبار الجريمة كما تُسرد الحكايات المثيرة، أصبح شريكاً في صناعة الرعب. أما إذا مارس دوره الحقيقي، فإنه يضع الإصبع على الجرح، ويحلل الأسباب، ويقترح الحلول، ويرفع الصوت للمطالبة بإصلاح اقتصادي يقي الشباب الانزلاق في مستنقع الجريمة.
إن الإعلام الذي نحتاجه اليوم هو إعلام مسؤول، لا يلهث وراء "الترند"، بل يبحث عن الحقيقة ويصوغها بوعي يحترم عقول الناس.
إلى أين؟
الأردن اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يُعالج الفقر بالسياسات العادلة، ويُضبط الخطاب الإعلامي والتواصلي بالمسؤولية، أو أن نرى شوارعنا تمتلئ بقصص جديدة من العنف، وشاشاتنا تتحول إلى مسارح للتنمر والفتك بالسمعة.
إنها مسؤولية جماعية، تبدأ من الفرد الذي يراقب لسانه وقلمه، مروراً بالإعلامي الذي يحترم رسالته، وصولاً إلى الدولة التي تتحمل عبء حماية مواطنيها من الجوع واليأس. قال تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11).
فالتغيير الحقيقي يبدأ من الداخل؛ من الضمائر التي تعي خطورة الكلمة، ومن السياسات التي تصون كرامة الإنسان، ومن إعلام يعيد رسم ملامح الأمل.