facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

إیلافُ بني ھاشمٍ إطلالةٌ حضاریة

إیلافُ بني ھاشمٍ إطلالةٌ حضاریة
أ.د. خلیل الرفوع
القبة نيوز- كانت مكةُ قبل الإسلام عاصمةَ العرب دینیًّا وسیاسیا واقتصادیا ، وكان یقطنھا في غابر الأزمنة قبائلُ من جُرْھُم وبقایا من العرب البائدة ، ثم نزلتھا قبیلةُ خُزَاعَةَ الیمنیة ، وفي منتصف القرن الخامس المیلادي تقریبا یظھر قُصَيّ بن كِلاب القرشي فَـیُـخْرِجُ منھا خزاعةَ ، فاستقرت قریش بعدئذٍ حول الكعبة ، وبطونھا ھم : ھاشم وأمیة ومخزوم وتَیْـم وعَدِي وجُمَح وسَھْم وأسد ونَوْفَل وزُھْرة ، وھؤلاء كان یُطْلقُ علیھم قریش البِـطاح لاستقرارھم في بطحاء مكة التي ھي في وادٍ غیر ذي زرع ، وأما مَنْ یسكنُ في ظاھرھا فأُطلقَ علیھم قریشُ الظواھر لأنھم یسكنون في ظاھر مكةَ ومعھم العبید والصعالیك والموالي وغیرھم ، ومن قریش ظھر ھاشم ، وھو: ابنُ عبدِ مَـنَـاف ، وإخوتُھ من الولد ھم : المُطَّلبُ وعبدُ شمس ونَـوْفَـل ، وأما أبناءُ ھاشم من الولد فھم : أسد وصیْفي ونضْلة وعبد المطلب ، ولم یبقَ لھاشم من عَـقِـبٍ إلا من عبد المطلب كما قال ابن حزم في جمھرة أنساب العرب ، ومن عقب عبد المطلب سیدنا محـمد علیھ الصلاة والسلام ، وقد رُوِي في الصحیح الثابت ما رواه البخاري ومسلم وغیرھما عن الرسول علیھ السلام قولھ : " إن الله اصطفى كنانةَ من ولد إسماعیلَ ، واصطفى من بني كنانة قریشا ، واصطفى من قریش بني ، وقد كانت قریش نفسھا كما العرب جمیعا ھاشم، واصطفاني من بني ھاشم " تعترف لبني ھاشم بعلوِّ الشرف والسیادة ، فقد روى ابنُ كثیر في البدایة والنھایة أن معاویة ابن أبي سفیان رضي الله عنھ ، قد سُئِلَ – وھو مؤسس الدولة الأمویة ومن بني أمیة من ولد عبد شمس – أیكم كان أشرفَ ، أنتم أم بنو ھاشم ؟ فأجاب كنا أكثَرَ أشْـرَافًا وكانوا ھم أشْـرَفَ ، وكان فیھم عبدُ المطلب ولم یكن فینا مثْلُھُ فلما صرنا أكثرَ عددا وأكثر أشرافا ولم یكن فیھم واحِدٌ كواحِدنا فلم یكن إلا كقرار العین حتى قالوا: منا نبي ، فجاء نبي لم یسمعِ الأولون والآخرون بمثلھ محـمد صلى الله علیھ وسلم، فَمَنْ یُدْرِكُ ھذه الفضیلة وھذا الشرفَ !. 

ومما زاد في شرف بني ھاشم تولیِّـھم سقایةَ الحجیج وإطعامَھم ورفادتَھم والمحافظة على أمنھم ، قال ابن إسحاق صاحب السیرة التي ھذبھا ابن ھشام من بعده : فولي الرفادةَ والسقایةَ ھاشم بن عبد مناف ، وذلك أن أخاه عبد شمس كان رجلا سفَّارًا قَـلَّمَا یقیمُ بمكةَ ، وكان مُـقِلاّ ذا ولدٍ ، وكان ھاشم موسرا فكان إذا حضر الحاج قام في قریش فقال : " یا معشر قریش ، إنكم جیرانُ الله وأھلُ بیتھ ، وإنھ یأتیكم في ھذا الموسم زوَّارُ الله وحجاجُ بیتھ ، وھم ضیفُ الله ، وأحقُّ  الضیف بالكرامة ضیفُھ ، فاجْـمَـعُـوا لھم ما تصنعونَ لھم بھ طعاما أیامھم ھذه التي لا بد لھم من الإقامة بھا ، فإنھ والله لو كان مالي یسعُ لذلك ما كلفتكموه " ، فیخرجون لذلك خَـرْجًا من أموالھم ، كل امرئ بقدرِ ما عندَه ، فیصنعُ بھ للحجاج طعاما حتى یصدرُوا من مكة .

 وكان ھاشم فیما یُروى أنھ أول من سن الرحلتینِ لقریش : رحلتي الشتاء والصیف . وأول من أطعم الثَّـرید – وھو طعام من خبز مفتوت ومرق ولحم - للحجاج بمكة ، وإنما كان اسمھ عَـمْـرًا ؛ فما سُمِيَ ھاشما إلا بھشمھ الخبزَ بمكة لقومھِ بعد أن أصابھم الجدْبُ فقال حینئذٍ شاعرٌ من قریشٍ : 

قل للذي طلبَ السماحةَ والنَّدى        ھَلاَّ مررتَ بآلِ عبدِ مَنَافِ
ھلاّ مَرَرَتَ بھم تُرِیْدُ قِراھمُ          مَنَعُـوكَ مِنْ حَرٍ ومن إكفافِ 
الرائشـینَ ولیس یوجدُ رائشٌ       والقائــلینَ ھَلُمَّ للأضـیـافِ 
والخالطـــیـنَ غنیَّھُم بفقیرِھم       حتى یكونَ فقیرُھم كالكافي 
والقائمیــنَ بكلِّ وعدٍ صادقٍ       والراحلینَ برحلةِ الإیلافِ 
عمرو العلا ھَشَمَ الثَّرِیْدَ لقومِھ    ورجالُ مكةَ مُسْنِتُونَ عِجَافِ 
سَفَرَیْنَ سَنَّھُمَا لھُ ولِقَوْمِھِ         سَفَرَ الشتاء ورحلةَ الأضیافِ

 وكان إیلاف قریش أكبرَ اتفاق تجاري عربي قبل الإسلام ، عقده «ھاشم» بین قریش وعظماء ممالك الروم وفارس وغسّان والحبشة وملوك الیمن ، وقد ذكر عبد الملك الثعالبي في ثمار القلوب " أن قریشا كانت لا تتاجر إلا مع مَنْ ورد علیھا مكةَ في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ ، وكانت في الأشھر الحُـرُم لا تبرحُ دارھا ، ولا تجاوز حرمھا للتحَـمُّس (التدین) في دینھم ، والحب لحرمھم ، والإلف لبیتھم ، ولقیامھم لجمیع من دخل مكة بما یصلحُھم" .

 وكان ھاشم أولَ من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك فعقد معھم "الإیلاف"،(مصدر - آلف - أي جمع بینھم ) ، وھو اتفاقیة أوعھد بینھم ، إذْ كان ھاشم یقدم لرؤساء القبائل من الربح ، ویحمل لھم متاعًا مع متاعھ ، ویسوق إلیھم إبلا مع إبلھ لیكفیھم مئونة الأسفار، ویكفي قریشا مئونة الأعداء. فكان أن أخصبت قریشٌ وأتاھا خیرُ الشام والیمن والحبشة ، وحسنت حالُھا وطاب عیشھا الذى ذكره الله وكانت لقریش رحلتان : رحلة في الشتاء نحو الیمن و الحبشة ،ورحلة في الصیف نحو الشام وبلاد الروم. 

وبعد أن قام ھاشم بھذا الإیلاف مع الأقوام غیر العربیة المجاورة عقد إیلافا مع رؤساء القبائل العربیة التي ستمر بھا قوافل قریش وأقنعھم بأن یؤمنوا القوافل المارة عبر مناطق سیطرتھم من ذؤبان العرب وصعالیكھا وأصحاب الغارات وطلابِ الطوائل مقابلَ أن تحمل تلك القوافل تجارات تلك القبائل ، وإن لم یكن لھا قریش بوضع نسبة من أرباح تجارتھم لتكون معونة لفقراء مكة. تجارة فتُعطى مالا مقابل تلك الحمایة سُمِّيَ (الجُعْلَ) ، وقام ھاشم كذلك بإقناع أغنیاء 

ولما مات ھاشم أشرفَ على الإیلاف أخوه المُطَّلِبُ ، فلما مات المطلب قام بذلك عبدُ شمس ، فلما مات عبد شمس قام بھ نَوفل وكان أصغرَھم ثم عبد المطلب ابن ھاشم وجد الرسول علیھ السلام . وكان من نتائج ذلك الإیلاف ، تحقیق العدالة الاجتماعیة والازدھار الاقتصادي في مكة وبقیة الحواضر العربیة ، وتأمین الطرق التجاریة داخل الجزیرة العربیة وھي الطرق ذاتھا التي یسلكھا الحجاج الوثنیون إلى مكة ، فانتشرت الأسواق التجاریة وثُـبّـِتَـتِ الأشھرُ الحرمُ لوقف القتال والتخفیف من أسباب النزاعات بین القبائل ، وكل ذلك كان لھ دور في توحید القبائل العربیة على لھجة قریش التي أصبحت لغة الشعر والأدب ، وقد تنزل القرآن بھا من بعدُ ؛ فكان لھاشم ولِعَـقِـبِھ من بعده الزعامة الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسیة والدینیة قبل الإسلام وبعده ، فقد أخرجوا مكة من المحلیة إلى التشابك الاقتصادي والفكري مع الدول المجاورة وتلك رؤیة سیاسیة ثاقبة ، جعلت العرب قبیل الإسلام یتأثرون ویؤثرون حضاریا في الأمم المجاورة ،فكانَ تلاقحا معرفیا أفضي من بعد مجیئ الحضارة الإنسانیة ومعارجھا في التاریخ البشري .
تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )