facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

الكشافةُ : الغرسةُ الأولى في أیامِ الزمنِ الجمیل

الكشافةُ : الغرسةُ الأولى في أیامِ الزمنِ الجمیل
أ.د. خلیل الرفوع
 القبة نيوز-موقعة القادسیة التي أنھت دولة الفرس شرقًا ، ولم تشغلھ نشوة النصر وخزائن كسرى عن أقرأُ قصیدةَ عبْدَةَ بن الطبیب بُعَیْدَ مشاركتھ في فتوحات العراق وانتصار العرب في حنینھ إلى البادیة ، ومطلع قصیدتھ تلك التي أعدُّھا من عیون الشعر العربي كلھ : " ھل حبلُ خولةَ بعد الھجرِ موصولُ " ، فیأخذني أحد أبیاتھا إلى مرابع الذكرى وأیام الزمن الجمیل ، یقول فیھ متذكرًا صباه الآفل :

 ولِلأَحِبَّةِ أَیَّامٌ تَذَكَّرُھا ولِلنَّوَى قبلَ یومِ البَیْنِ تأْوِیلُ

 ویحملُني الزمن عبر معارج الشجى إلى غرسة الرجولة الأولى في الحیاة وھي : ( الكشافة) التي ألفیتُنِي یومذاكَ أحدَ أفرادِھا في الصف الثالث الإعدادي ( التاسع الآن) ، وبقیتُ فیھا ثلاث سنینَ طالبًا نشیطا فمساعدًا لعریف الطلیعة ثم عریفا لطلیعة الفاروق التي كانت من أنشط الطلائعِ ، وختمتُ الحیاةَ الكشفیة في أن أكون بعد منافساتٍ واختبارات عسیرة اجتزْتُھَا في وزارة التربیة في عمان أنشطَ طالبٍ في مدرسة بصیرا الثانویة وتربیة لواء الطفیلة فتربیة محافظة الكرك ، وكانت الطفیلة یومئذٍ أحدَ ألویة الكرك عام 1985م ، وكانت الجائزة رحلةً إلى ضفافِ بُحَیْرَةِ مرْمَرَةَ على البحر الأسودِ في تركیا عشرین یوما ، وبھا عرفت أن ھناك دنیا وحیاةً وعالمًا غیر قریتي بصیرا التي تمددَتْ في ذاكرتي أرضًا وسماءً فأُحْصِرْتُ في شعابِھا ، وقد مثل الأردن في تلك الرحلة خمسة طلاب أذكر منھم رامي شاكر العزب عن السلط ، ونضال الحمادین عن معان ، وإبراھیم الدویري عن إربد وإبراھیم ... من الزرقاء ، وقد كان اللقاء تجمعًا كشفیا عالمیًّا بتنظیم من الھلال الأحمر ، فكانت الرحلة قبل التوجیھي مكرمةً وبوابةَ الفتح الأول في أرض الروم ، ومسرى فتنة الروح ، ومعراجَ طفولة الجسد ، والخیطَ الأبیضَ الذي تولَّدَ في عقل الفتى من كھفِ خیطھ الأسود.

 أیامُ المدرسة أجملُ عھودِ الحیاة ، وأكثرُھا صبابةً ووجدًا أیامُ الكشافة ، إذْ یقسم الطلبة إلى طلائع ، كلُّ طلیعة تتكونُ من خمسة أفراد أو ستة ، ویبدأ عمل كل طلیعة من الیوم الأول لتسجیل الأسماء ، ولھم لباس خاصٌّ كان أیامنا بنطالا سكنیًّا وقمیصًا أزرقَ سماویًّا ، وكل صباح مدرسي تنھض طلیعةٌ برفع العلم في طقوس حركیة منظمة تثیر انتباه جمیع الطلبة والأساتذة ، وأغلبھا حركات عسكریة حفظناھا عملیًّا في التدریب الأول ، وتزداد النشاطات الكشفیة بدءًا من توقف الشتاء ودخول فصل الربیع إذ تبدأ الرحلات الخلویة إلى مناطق بعیدة عن القریة ، فیقوم قائد الكشافة ومساعدوه من المعلمینَ 2 بالانطلاق قبل الطلبة المقسمین حسب طلائعھم ، فیضعون علاماتٍ وأسھمًا على الأرض وفي شقوق الصخورعلى امتداد طرق وعرة ملتویة ، وعلى الطلبة الاسترشاد بھا للوصول إلى نقطة النھایة مكان التجمعِ ، وأجملُ ما في الكشافة المخیمُ الكشفي الذي یقام نھایة كل عام في منطقة قریبة من المدرسة ، ویعیشُ الطلبة في خِیَمٍ على شكل دائري تتوسطھ ساریة یُرْفَعُ علیھا علما الأردن والكشافة ، وعلیھما حراسة دائمة لیلا ونھارا ، وكان التحدي بین الطلائع على أشدِّه ، وأخطرُه أخذُ العلمین من على الساریة خِلْسَةً أو في غفلة الحرس ، فیعدُ ذلك تقصیرا یستوجبُ عقوبة من القائد ومساعدیھ ، ویبدأ النشاط صباحا برفع العلم ثم التفتیش على الطلبة وخیمھم ثم الفطور فالمحاضرات العلمیة الثقافیة ثم وجبات الغداء التي غالبًا ما تكون (مقلوبة أو مكمورة) ، وھما الطبختان اللتان یتقنھما الطلبة بالوراثة الكشفیة ، ثم استقبال الضیوف والمسابقات والتحضیر للیلة السَّمَرِ التي تبدأ بُعَیْدَ صلاةِ العشاء إلى ساعة متأخرة تبدأ بتلاوة آیاتٍ من القرآن ، ثم مشاھد تمثیلة مسرحیة متنوعة أغلبھا ترفیھي تثقیفي یعده الطلبة أنفسھم ، وفیھ تظھر مواھبھم في التمثیل والغناء والتقلید والمصارعة ، ویشھدُ لیالي السَّمَر أبناءُ القریة الذین ینتظرونھا في مواسمھا كل عام ؛ فیتحلقون حول موقد أشعلت نارُه في بدءِ الحفل ، وھي لیالي العمر لفراق صحاب عاشوا إخوةً معا أحلى الساعات .

 بالنسبة للكشافة ، وبعد لیالٍ ثلاثٍ یُنْھَى المخیمُ عصرًا بحفل وداعي انضباطي حزین مؤثر الكشافةُ تزید في الذاكرةِ الشوقَ والحنین لأیام خلتْ ، لكن تذكُّرَھا یبعث النفس من خمودھا لتستقرَ على راحة العمر متوازنةً بین ماض لم یعد إلا حُلُمَا وبین حاضر قد فتك بھ الزمنُ بُطْئًا وسكینة ووقارًا ، نعم إنھا الغرسةُ الأولى في مدارجِ الرجولة ؛ لأنھا مفتتحُ الذاكرة ومھدُ عنفوان الشباب وانبلاجُ مثاقفة الآخر ، ولأنھا انضباط المد والجزر في حركیة الصعلكة المتوھجة ، فالكشافة في أساسھا حركة شبابیة تربویة تطوعیة عالمیة غیر سیاسیة ، ھدفھا تنمیة الشباب بدنیا وثقافیا ، ویتضمن قَسَمُھَا أن یبذلَ الفردُ جھدَه بصدق نحو الله ثم الوطن وأن یساعد الناس في جمیع الظروف ، وقد تعلمنا من الكشافة الكثیر من القیم والأخلاق والجرأة ، إن كان على المستوى البدني النفسي أم على مستویات مھارات القیادة والعمل الجماعي والتفكر بقدرة الله وغیرھا من الموجبات . أخرى ، كالنظافة والاندماج وتنمیة المواھب وقدرة التحدي والاقتداء بالكبار واكتساب .

 ذلك زمن قد ولَّى وبات ذكریاتٍ تتھادى كلما اُسْتُدْعِیَتْ للبھجة والفرح ، كان زمنًا قد خلا من موبقات ھذا الزمن وقحطھ العاطفي وتعقیده الفكري ، كان الحیاءُ سمةً والخجلُ سمتًا والطیبةُ أصالةً والشبابُ رجولة مبكرةً ، لم یتغیر الزمن بل تبدلتِ القیم واَنْتُـزِعَتِ البركة من القلوب والنقود ، وتحولت العائلة بتآلفھا إلى فردیة مفرطة في أنانیتھا وتوحشھا ، لا معًا ، فلم یعد للزمن جمالُھ وعبیرُه . ندري ھل أقفرتْ مدارسُنا من الكشافة أم الكشافة أقفرت من مدارسنا أم أقفر الوطن منھما.
 أ.د. خلیل الرفوع
تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )