الشوابكة يكتب : ترامب وإسرائيل ..تحوّلٌ في الموازين أم بداية الطلاق البارد؟
بقلم - جمعة الشوابكة
لم تكن تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب مجرّد خروجٍ إعلاميٍ عابر، بل مثّلت زلزالًا سياسيًا ناعمًا أعاد فتح ملف العلاقة بين واشنطن وتل أبيب على نحوٍ غير مسبوق. فحين قال ترامب إن إسرائيل لن يُسمح لها بضمّ الضفة الغربية، وإن استمرار الحرب على غزة أضرّ بصورتها داخل الولايات المتحدة، كان يعلن عمليًا نهاية مرحلة "التحالف المقدس" الذي ظلّ لعقودٍ بمنأى عن النقد والمراجعة.
تلك الجملة وحدها كانت كفيلة بإعادة تشكيل معادلاتٍ سياسيةٍ امتدت لأكثر من نصف قرن، إذ لطالما كان الصمت عن إسرائيل إحدى ثوابت السياسة الأميركية التي لا تُمسّ خشية مواجهة نفوذ اللوبيات ومصالح رأس المال السياسي. لكن ترامب، الذي بنى شعبيته على كسر المحرّمات، أدرك أن الشارع الأميركي تغيّر جذريًا، وأنّ جيلًا جديدًا يرى الصراع في فلسطين بعينٍ مغايرة، رافضًا الانحياز الأعمى لإسرائيل الذي ورثته الإدارات السابقة.
استطلاعات الرأي الأخيرة كشفت هذا التحوّل بوضوح. فبحسب استطلاع جامعة هارفارد ومؤسسة هاريس، فإن 60% من الشباب الأميركي بين 18 و24 عامًا أبدوا تعاطفًا مع الفلسطينيين في حرب غزة، بينما أشار تقرير لمؤسسة "بيو" إلى أنّ إسرائيل خسرت نحو 11 نقطة من شعبيتها داخل المجتمع الأميركي خلال عامٍ واحد. هذه الأرقام لم تمر على ترامب مرور الكرام، فهو السياسي البراغماتي الذي يقرأ المجتمع بالأرقام لا بالعقائد.
ترامب، الذي منح إسرائيل خلال ولايته الأولى ما لم يمنحها أي رئيسٍ آخر – من الاعتراف بالقدس عاصمة لها إلى شرعنة الاستيطان – يعود اليوم بلغة مختلفة تمامًا. إنه لا يهاجم إسرائيل، لكنه يضعها أمام المرآة، قائلًا بوضوح: "زمن الدعم غير المشروط انتهى، ومن أراد أن يبقى حليفًا عليه أن يسمع لا أن يأمر."
هذا التحوّل لا يمكن فصله عن التبدّل العميق في المزاج الأميركي بعد حرب غزة. فقد تآكلت الصورة الأخلاقية التي بنتها إسرائيل لعقودٍ طويلة باعتبارها "الضحية الدائمة"، وحلّ محلها وعيٌ شعبيّ متنامٍ يرى فيها قوةً مفرطة تستخدم الدعم الأميركي لتغذية الصراع بدل إطفائه. ومع تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية، وجد ترامب نفسه أمام ضرورة سياسية لإعادة تموضعٍ محسوب، فهو يدرك أن استمرار إسرائيل في نهجها الحالي يكلّف واشنطن من رصيدها الأخلاقي في العالم، ويحرجها أمام حلفائها العرب.
من هذه الزاوية، تُعدّ مواقف ترامب الأخيرة فرصة استراتيجية للدبلوماسية العربية، وخاصة الأردنية والفلسطينية. فرفضه الصريح لضمّ الضفة الغربية يصبّ مباشرة في خدمة الموقف الأردني الراسخ الرافض لأيّ خطوات أحادية تهدد حلّ الدولتين أو تمسّ الوصاية الهاشمية على القدس. كما أنّ التراجع النسبي في الدعم الأميركي لإسرائيل يفتح نافذة جديدة أمام التحرك العربي لإحياء مبادرات السلام ضمن موازين قوى أكثر توازنًا.
في المقابل، جاء الرد الإسرائيلي سريعًا ومشحونًا بالتوتر، إذ أعلن مسؤولون في حكومة نتنياهو أن إسرائيل "ليست ولاية أميركية" ولن تقبل أي إملاءات تمسّ سيادتها. هذه النغمة لم تكن معروفة من قبل، وتعكس إدراكًا داخل المؤسسة الإسرائيلية بأنّ مرحلة الحصانة السياسية في واشنطن بدأت تتآكل. للمرة الأولى منذ عقود، تتحدث الإدارة الأميركية بلغة التحذير لا بلغة الولاء، ما يكشف تصدّعًا في جدار الثقة بين الحليفين، حتى وإن بقي ضمن الحدود الدبلوماسية.
اللافت في خطاب ترامب أيضًا إشارته المفاجئة إلى ملف الأسير الفلسطيني مروان البرغوثي، وطرحه ضمن إطار "حلّ غزة المستقبلي"، وهي سابقة سياسية تحمل دلالات عميقة. إذ لم يسبق لرئيس أميركي أن ذكر اسم البرغوثي بوصفه جزءًا من معادلة الحل، ما يوحي بأن واشنطن بدأت تدرك ضرورة التعاطي مع قيادات فلسطينية ذات شرعية شعبية داخلية. ويقرأ محللون هذا الطرح كمحاولة لتهيئة الأرضية لتغييرٍ محتمل في هيكل القيادة الفلسطينية بعد انتهاء الحرب على غزة.
لا يمكن القول إن ترامب انقلب كليًا على إسرائيل، لكنه بلا شكّ غيّر قواعد اللعبة. فهو لا يسعى إلى معاداتها بقدر ما يريد إعادة تعريف العلاقة معها على أساس المصلحة لا العاطفة. التحالف الأميركي الإسرائيلي لم يعد شيكًا مفتوحًا بلا شروط، بل أصبح علاقة تحكمها الاعتبارات المتبادلة وموازين الربح والخسارة. أمّا إسرائيل، التي تعودت على دعمٍ مطلق، فتجد نفسها اليوم أمام رئيسٍ أميركيٍّ مختلفٍ في حساباته، أكثر برودةً في عاطفته، وأكثر صراحةً في تحذيراته.
وفي ظل هذا التحوّل، تبدو المنطقة أمام مرحلة جديدة من التوتر المحسوب، حيث تسعى واشنطن إلى إعادة ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط بعيدًا عن الدور الإسرائيلي المهيمن، بينما تحاول تل أبيب التشبث بامتيازاتها التاريخية. وبين هذا وذاك، يبرز الأردن كأحد اللاعبين القادرين على توظيف هذا التغيّر لمصلحته الاستراتيجية، انطلاقًا من مكانته المتقدمة في ملفات القدس والوصاية والأمن الإقليمي.
إنّ ما يجري اليوم ليس انقلابًا تامًا بقدر ما هو إعادة معايرة دقيقة للتحالف الأميركي الإسرائيلي، يهدف إلى ضبط الإيقاع لا كسره. فالولايات المتحدة لم تتخلّ عن التزامها بأمن إسرائيل، لكنها باتت أكثر استعدادًا لتذكيرها بأنّ الدعم لا يُمنح مجانًا، وأنّ الانسجام مع المصالح الأميركية شرطٌ لاستمراره.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ تصريحات ترامب ليست نهاية التحالف، لكنها نهاية صيغته القديمة. فالعلاقة التي تأسست على العاطفة التاريخية واعتبارات النفوذ الداخلي، تدخل اليوم مرحلة "البراغماتية الصارمة"، حيث لا مكان للمطلقات، ولا حصانة لأحد. إنها لحظة إعادة تعريفٍ للدور والحدود، لحظةٌ تُدرك فيها إسرائيل أن واشنطن لم تعد درعًا أبدياً، ويدرك فيها العرب أن صوت العقل والاعتدال قد يعود ليحتلّ مكانه الطبيعي في رسم مستقبل المنطقة.














