" الاستراتيجية الايرانية بين التراجع والتكتيك "
القبة نيوز - لافي العمارين - باحث في الشؤون السياسية والاقليمية
في خضم احداث الشرق الاوسط المتلاحقة والمتسارعة على حين غرة، يلوح في الافق تبدلاً استراتيجياً في سياق الصراع الاستراتيجي والأيدولوجي في المنطقة، فمنذ اقل من عام كنا نشهد تفوق استراتيجي ايراني وتراجع تركي وتصاعد اسرائيلي فيما لا زال الفكر الاستراتيجي العربي يراوح مكانه، ها نحن اليوم نشهد تطورات دراميتيكية متسارعة لا زالت نتائجها تتوالى على الصعيد الاقليمي في الشرق الاوسط، فلم تلبث حرب غزة ان انطلقت حتى بدأت الاحداث تتوالى في صورة صراع اقليمي على النفوذ وليس بعيدا عن الارادات الدولية الغربية والامريكية والروسية في المنطقة، في سياق هذة التطورات يرى المراقبون تتقوقع للاستراتيجية الايرانية ولا يمكن ان يوصف بالتراجع او الانهزام كما يرى الشارع العربي .
في هذه الحالة لا يمكن القفز على المفاهيم الاستراتيجية التي تعبر عن حالة الركائز الاساسية التي تبنى عليها الاستراتيجية، فالتراجع الاستراتيجي الايراني لا يمكن وصفة بالانهزام، مالم تسقط مقومات استراتيجيتها، الكل يدرك حجم خسارة ايران في سوريا ولبنان والمكانة الاقليمية، لكن لم نتجاوز بعد مرحلة مفهوم التكتيك الاستراتيجي لإيران ولم يتخطى المحللون البدائل الاستراتيجية لها، ولفهم الحالة تشير الاستراتيجية بمفاهيمها الى تحقيق الاهداف طويلة المدى للدولة وكيفية التخطيط لتحقيق هذه الاهداف، بينما يشير مفهوم التكتيك الى اجراءات محددة تتخذ لتحقيق الاهداف المبتغاة بما يتماشى مع ما تسمو اليه الاستراتيجية
بعد أن لجأت ايران الى سياسة حافة الهاوية مع الكيان الصهيوني مستخدمة اذرعها في صورة دويلات خارجة عن سيطرة الدولة ولإنجاح هذه السياسة استخدمت قوتها العسكرية ظناً منها دفع القوى الكبرى واسرائيل للتفاوض معها حول مشروعها الاقليمي ، جاءت النتائج معاكسة سلبيا في تهاوي لم تتوقعه في سوريا ولبنان وخسارتها لأقوى اذرعها في المنطقة، هذا التهاوي في الاستراتيجية الايرانية لا يعني فشلها استراتيجياً في تسويق مشروعها القومي الفارسي في المنطقة العربية .
ما لبثت التصريحات الايرانية الاخيرة من كبار مسؤوليها والتي اتصفت بالصدمة من هول هذا التراجع، ان تعود مجددا ان تلوح بأوراق وبدائل استراتيجية يمكنها استخدامها في تكتيك استراتيجي يمكنها من اعادة هيبتها الاقليمية، فقد انتقلت من التلويح بورقة الطائفة العلوية والمزارات الشيعية الى المناورات العسكرية، مستعرضة ترسانتها من الصواريخ الباليستيه التي لم نشهدها تستخدمها ضد اسرائيل في حرب غزة، وها هي بين ليلة وضحاها تزود دفاعاتها بألف طائرة مسيرة استراتيجية، هاهي برهنت على عدم نيتها ضرب حصون العدو لمصلحة العرب وحلفائها حزب الله وحماس فهم أدوات مادية في مفهومها الاستراتيجي،
برهنت ايران بموافقتها على التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة الامريكية والدول الغربية هذا الاسبوع على عدم المصداقية في مشروعها المقاوم التي طالما اتخذته مطية لتسويق سيادتها الاقليمية في المنطقة العربية، فلا يمكن فهم ما يحدث في نطاق الاستراتيجية الايرانية الا في سياق التكتيك الاستراتيجي لحماية اوراق القوة الداخلية لديها، فالبرنامج النووي الايراني يجعلها في المقدمة الاستراتيجية لدول المنطقة، ان ايران تجيد المراوغة السياسية لقد ادركت في نجاح الرئيس الامريكي ترمب في الانتخابات الامريكية مزيدا من خلق التهديدات والعقوبات الاقتصادية وجعل برنامجها النووي عرضة لضربة عسكرية، مما يعني لايران الكثير من التراجع الاستراتيجي، وبهذا جاءت بخطوات دبلوماسية لإكسابها مزيد من الشرعية الدولية، هذا ما تحاول ايران جاهدة ان تتفاداه مستخدمة مفهوم التكتيك .
ليس البرنامج النووي وحده من يمنح ايران القوة الاستراتيجية، فالتماسك الداخلي للشعب الايراني يعني لها القوة ، وتدرك ايران ان ما حدث في سوريا قد يمتد لساحاتها الداخلية الشعبية، فنلحظ استباق المرشد الايراني خامنئي لهذه الحالة من خلال خطاباته التي توصف بالتهديد واستعراض قوة النظام، وتعزية النفس بأن المقاومة لا زالت صامدة، في وقت يحفز التراجع الاقتصادي الناتج عن فقدان سوريا ولبنان، تململ الحالة الشعبية داخلياً، والتي يتخوف منها النظام الايراني مدركاً ذلك بتصريح رأس النظام بعدم رغبته بترشيح ابنة مجتبى خامنئي لخلافته .
على الصعيد العربي لم تخسر ايران جل اوراقها الاستراتيجية بعد، فلا زالت تملك اوراق اقتصادية في العراق، وتمتلك الحاضنة الشعبية في العراق واليمن وبعض دول الخليج العربي، وتمتلك القوة العسكرية الصاروخية المهددة للمنشآت الحيوية في المنطقة، لا زالت التنظيمات الارهابية اداة تنفيذية لأجندتها في الدول العربية، ولا زال نظام الفصائل المسلحة معمول به في اليمن والعراق، ولا زالت علاقات ايران بالإخوان المسلمين في طبيعتها الايدولوجية المتطابقة.
من هذا المنطلق يمكن القول ان التراجع الاستراتيجي الايراني ليس الا في نطاق التكتيك الاستراتيجي المرحلي لتجاوز تهديدات معينة ثم العودة لإكمال ما تبقى من تحقيق اهدافها الاستراتيجية على الساحة العربية، بقي ان نقول ماذا يملك الفكر الاستراتيجي العربي من اوراق استراتيجية تكبح جماح ايران، حتما تملك الدول العربية الكثير الكثير من هذه الاوراق لمواجهتها ومواجهة حالة الصراع الاستراتيجي في الشرق الاوسط، ولكن ماهية الاستراتيجية العربية لفعل ذلك ؟