الشرمان يكتب : أبناء الحرّاسين والقسمة الضيزى
الدكتور عديل الشرمان
القبة نيوز- في الثمانينات عندما كنت في الصف الثاني ثانوي الأدبي وهو الصف الذي يسبق التوجيهي، حصلت على علامة (العلامة النهائية) 100% في مادة الرياضيات في ذلك الوقت، المادة التي كنت أعشقها حبّا في المادة وبمدرّسها رغم أنني لم أكن قادرا على شراء علبة هندسة، واعتمد على زملائي في استعارة ما أحتاجه من مكوناتها، وكنت أعشق الفرجار منها والذي كان وسيلتي لرسم نجمة العلم الأردني، وما زالت تربطني بمدرّسها صاحب الخلق والإخلاص في العمل علاقة تواصل حتى الآن، وهو على قيد الحياة، وأدعو الله له بدوام الصحة والعافية وطول العمر، والذي أصرّ على وضع العلامة الكاملة رغم اعتراض مدير التربية على ذلك.
ذات يوم سألني أحد الأصدقاء حول اختياري للفرع الأدبي رغم محبتي لمادة الرياضيات، وهو السؤال الذي طالما تعرضت له، فأجبته ببساطة بأنني لم أكن ابنا لأحد الحرّاثين، والحراثة كانت حرفة تدر دخلا معقولا لصاحبها في ذلك الزمان، وتدرّ دخلا يفوق دخل الجندي، ولو كنت ابنا لأحدهم ربما اخترت الفرع العلمي بدلا من الأدبي، لكنّ صديقي تبسّم مستغربا الإجابة وشعرت أنه لم يفهم منها شيء، فقلت له سأوضح لك الأمر،، ببساطة أنا كنت أحد أبناء الحرّاسين (بالسين)، والدي كان جنديا في القوات المسلحة يحرس الوطن، وكان هو وزملاؤه الأبطال الميامين من أولي البأس الشديد، والايمان العميق بقدسية الرسالة التي يؤدونها، ولو كانوا يمتلكون العتاد والعدة لجاسوا خلال الديار، وكان أحدهم لا يخرج من البيت لأداء الواجب إلا ويتمنى أن لا يعود إلا منتصرا أو شهيدا في سبيل الله دفاعا عن الوطن والعرض والشرف.
عاد وكرّر السؤال وقال لي: لكنك لم تجب على سؤالي، لماذا اخترت الفرع الأدبي ولم تختار الفرع العلمي، فقلت له، صحيح كان والدي ذو بأس شديد، لكنه في ذات الوقت كان يعاني البؤس الشديد فراتبه لم يكن يكفيه لأيام قليلة للإنفاق على أسرة مكونة من عشرة أشخاص براتب لا يتجاوز الثلاثين دينارا.
شعرت أن صبر صاحبي قد نفذ عندما قال لي: وما علاقة سؤالي بكل ما قلته، فأجبته صبرك يا أخي سأوضح لك الأمر، اسأل القرية التي كنّا فيها والتي كانت حاضرة التين والبلوط، فلم يكن فيها شعبة علمي، ومن يختار الفرع العلمي فهو مضطر للذهاب إلى مدرسة في قرية أو مدينة أخرى مجاورة، وهذا سيكلفه مواصلات ربما خمسة أو عشرة قروش يوميا أو أكثر، ولم يكن ذلك المبلغ من المال متاحا، لذا كان عليّ أن افضّل الأدب على العلم وأرضى بما قسمه الله.
تذكرت هذه القصة وأنا أشاهد القائد الأعلى محمولا على أكتاف الجنود قبل أيام في يوم الوفاء للمحاربين القدامى والمتقاعدين العسكريين، وهو يوم العشّاق والغرام الحقيقي للوطن، وكم كانت فرحتي بهم وهم يحملونه مهللين مكبّرين وقد علت صيحاتهم علو معنوياتهم بحيث يجعلونك تجزم رغما عنك بأن الوطن بخير بوجود هؤلاء الحرّاسين، وبقائد أبى على نفسه إلا أن يكون منهم واليهم.
ما يثير البهجة في النفس ويملأها أملا وتفاؤل تجاوزهم لكل قيود الفيروسات لأنهم يدركون أن شرّها أقل ضررا من حرّ الصيف وبرد الشتاء في صحراء يتقلبون على رمضائها بكل همة وعزيمة، وربما لأنهم أدركوا أن الفيروسات لا تصيب إلا اولئك الفاسدين الذين أنهكت أجسادهم تخمة العيش والأكل الخمط السمين، والذين قاسموهم لقمة عيشهم القسمة الضيزى.
لقد أبى القائد الأعلى إلا أن يعزز الفرح لديهم، ويدخل السرور الى قلوبهم، والتيسير عليهم فكانت مكرمته التي تساعد في التخفيف ولو قليلا من معاناتهم المادية، يسّر الله عليه وفرّج عنه من قائد وملك، ملك قلوب الجنود حبا وعشقا.
وانا استعرض من باب الفضول وحب المعرف أرباح الشركات الأردنية لهذا العام، وجدت أن عديد من الشركات حققت أرباحا عالية، وغير مسبوقة بالنسبة لبعضها بالرغم من تباطؤ وتيرة الاقتصاد العالمي، فمثلا شركة الفوسفات حققت أرباحا حوالي ٤٣٧ مليون دينار العام الماضي، ضريبة هذا المبلغ والتي تزيد على ١٠٠ مليون دينار تكفي لزيادة رواتب العاملين في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية على الأقل ما بين ٥٠-١٠٠ دينار شهريا.
انهم يستحقون كل الدعم فهم فوسفات الوطن وبوتاسه، وهم من يحمون اقتصاده وموارده، وهم عدته وعتاده، وهم من يحفظون أمنه واستقراره، وهم ملح الوطن الذين أعطوا الوطن طعمه ومذاقة.