facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

الحياة الإنسانية

الحياة الإنسانية

م. أشرف غسان مقطش

القبة نيوز- يقول المثل الإنجليزي: "To govern the nature, you should first study it"، أي بما معناه: كي تسيطر على الطبيعة، يجب أن تدرسها أولا. وكي نكتب عن الحضارة شيئا ما، علينا أن نفهمها كلغة، وكاصطلاح، وكتعريف لأحد علماء علم الإجتماع.


من خلال كتاب مادة (الحضارة الإنسانية) الذي يدرس في إحدى الجامعات الأردنية، نفهم بداية أن الحضارة كلغة هي عكس البداوة؛ فالأولى إقامة غير متنقلة في الحضر أي في المدن والقرى، والثانية إقامة متنقلة في الصحراء.

ولما يذهب الكتاب بنا إلى أن "أصل المعنى -أصل معنى الحضارة- هو الإستقرار، والإستقرار الذي ينشأ عن زراعة الأرض هو السبيل الذي تنفسح فيه لأبناء المجتمع مجالات التطور" فإننا ندرك من خلال منظور الكتاب للحضارة أنها -أي الحضارة- بدأت أول ما بدأت من الزراعة، والزراعة هذه تحتاج إلى مياه، والمياه توفرها الأنهار والبحيرات والبحار، وبناء عليه، نتوقع أن المكون الطبيعي للحضارة هو تلك الأرض المحيطة بالأنهار والبحيرات والبحار، لكن عادة ما تكون مياه البحيرات والبحار مالحة، فإذن يصبح المكون الطبيعي للحضارة هو الأراضي المحيطة بالأنهار غالبا، ومن هنا نستنتج لماذا كان في العراق حضارة تسمى حضارة وادي الرافدين؛ إذ قامت حول رافدين أي نهرين هما: دجلة والفرات, ولماذا كان في مصر حضارة تسمى الحضارة الفرعونية؛ إذ قامت حول نهر النيل، لهذا تجدني أفضل تسميتها الحضارة النيلية، ولا ننسى حضارة السند وقد قامت حول نهر السند، والثلاث حضارات هذه هي أقدم الحضارات في العالم؛ فالمياه هي الأساس، والزراعة هي الأعمدة، والحضارة هي البيت إن جاز التعبير.

وهذا الببت لا بد من أحد يسكنه، فماذا عن المكون البشري للحضارة والذي قصد به الكتاب آنف الذكر عندما تحدث عن أن المكون الطبيعي هو السبيل الذي تخرج منه مجالات التطور لأبناء المجتمع؟

بداية لعلني لا أغالي إذا ما استنتجت من ذلك أن التطور صفة من صفات الحضارة. وإذا ما عرفنا أن التطور هو التغير من طور إلى طور كما عرفه معجم موقع المعاني الإلكتروني، فإننا نكاد نتفاجأ أن التطور لا يعني بالضرورة تقدما، بل هو يعني التغير، والتغير قد يكون تقدما أو تخلفا، ومن هنا قيل حضارة متقدمة وحضارة متخلفة، والجامع بينهما التطور.

إذن الحضارة تتطور، ومن يطورها؟ إنه الإنسان. وما الذي يدفع الإنسان للتطور؟ أعتقد أنها الحاجة، ولذا قيل: الحاجة أم الإختراع.

والإنسان كي يزرع يحتاج إلى ما يفلح به الأرض، وما يسقيها، وما يحميه ويحمي أرضه وعائلته، وما يصيد به الحيوان، ويحتاج إلى ما يربي به الحيوان المصطاد، وما يذبح به الحيوان المصطاد كي يأكل لحمه، كل هذه الإحتياجات تدفعه لتشغيل عقله، أي إنه حينما إحتاج شيئا ما، بدأ يفكر، والتفكير محاولة، تجربة وخطأ، وإذا أصاب التفكير تقدمت الحضارة، وإذا أخطأ تخلفت الحضارة أولا، وأعيدت التجربة ثانيا، وهكذا تتطور الحضارة.

إذن نسطيع تصور الحضارة بأنها البيت الذي يسكنه إنسان يفكر، وهذا البيت موجود في بيئة زراعية حول مصدر مياه رئيسي كنهر النيل مثلا. لكن الكتاب سالف الذكر تحدث عن "أبناء المجتمع" أي أنه يتحدث عن جماعات لا يتحدث عن أفراد. وحديث الكتاب منطقي.

فالزراعة تحتاج إلى جهد جماعي، والحماية تحتاج إلى مجهود جمعي، وصيد الحيوانات يحتاج إلى عمل مجموعات، وعليه، الإنسان يحتاج إلى الإنسان، والإثنان يحتاجان إلى ثالث وهكذا دواليك حتى نجد أنفسنا أمام مجتمع بشري يعتمد حجمه منطقيا على عدد أفراده.

هذا المجتمع يكون في أول نشأته في أغلب الأحوال في حالة فوضى، وهنا بدأ الإنسان يفكر في كيفية تنظيم المجتمع، وتفكيره هذا قاده إلى أقدم شريعة في العالم: شريعة حمورابي التي نظمت فوضى حضارة وادي الرافدين.

إذن أكاد أجزم أن الحضارة اصطلاحا هي بيت كبير فيه ناس تنظمهم القوانين، يعملون معا باستمرار على تطوير هذا البيت من طور إلى طور وذلك بالتفكير في الزراعة وما تحتاجه، وفي المياه وما يلزمها.

وبناء على هذا الإصطلاح، فإن منطق القول أن الحضارة لا تقوم في الصحراء، وأن البداوة لا تنشأ حول الأنهر، وأن هناك حياة في الصحراء، وحياة حول الأنهر، وهذا يعني أن كل حضارة وكل بداوة هي حياة، لكن الحياة ليست بالضرورة أن تكون إما بداوة أو حضارة، فماذا تكون الحياة؟

يقول الكتاب: "ذلك أن التفاعل بين هذين النمطين من الحياة كان عاملا من أهم عوامل ماضينا... ولا يزال قائما في مناطق واسعة من مجتمعنا" وسأتوقف هنا عند "مجتمعنا" .

فأولا: الحياة وفقا لذلك هي محصلة تفاعل نمطين منها هما: البداوة والحضارة.

وثانيا: هذا التفاعل هو أهم عامل من عوامل ماضينا أي تاريخنا، ولا يزال قائما في مناطق واسعة من مجتمعنا، بمعنى أن الحياة في الأردن محصلة تفاعل نمطي حياة: البداوة والحضارة، وهذه نقطة مهمة لدراسة طبيعة المجتمع الأردني وفهمه.

وثالثا وجدت نفسي أمام السؤال التالي: كيف يتفاعل هذان النمطان؟

إبن خلدون يقول في كتابه (مقدمة ابن خلدون) في ص(371) كما ذكر الكتاب: "الحضارة غاية البداوة".

إذن نحن أمام (الحضارة) كوجهة نظر لعالم اجتماع عربي ولد عام ٧٣٢ ه. ومن وجهة نظر هذا العالم ذي الأصول اليمنية أن "الحضارة أيضا هي طور طبيعي أو جيل من أجيال طبيعية في حياة المجتمعات المختلفة. وكذلك البداوة".

إذن وفقا لإبن خلدون الذي ولد في تونس، لحياة المجتمعات أجيال منها جيل البداوة، ومنها جيل الحضارة، ومرة نجد ابن خلدون يرى أن الحياة تمر أولا بجيل البداوة ثم الحضارة، لهذا قال: "الحضارة غاية البداوة"، ومرة نراه يقارن بينهما كأنهما متواجدان معا جنبا إلى جنب، لهذا قال: "وتكون مكاسب أهل الحضر أنمى وأرفه من أهل البدو".

وهنا أستنبط آلية التفاعل بين هذين النمطين إن تواجدا معا في الوقت عينه في مجتمع واحد. فطالما أن الحضر أرفه من البدو، فإن البدو سيشعرون بالغيرة منهم، وهذه الغيرة بحكم اقامتهم المتنقلة بحثا عن الكلأ والمياه ستجعلهم يعتدون على الحضر المزارعين ذوي الإقامة غير المتنقلة، هذا في الماضي، وسوف تجعل الغيرة البدو يعتدون على الحضر معنويا، أي يتفقون فيما بينهم البدو أنفسهم على الحضر من خلال الوساطة والمحسوبية، هذا في الحاضر، مع الأخذ بعين الإعتبار الفرق الشاسع بين الماضي والحاضر من حيث ظروف كل منهما.

إذن أكاد أجزم أن آلية التفاعل بين نمطي البداوة والحضارة هي صراع من أجل البقاء في الماضي، ونزاع من أجل السيادة في الحاضر، والحياة محصلة هذا التفاعل.

ومن هنا أستغرب عنوان الكتاب (الحضارة الإنسانية) لأن الإنسانية تشمل البداوة والحضارة، وبدون أحدهما لا تكتمل الإنسانية، لهذا لعلني لا أجانب الصواب إذا ما فضلت أن يكون عنوان الكتاب: (الحياة الإنسانية).


 
تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير