هل تعثرت الحكومة الأردنية في إدارة الأزمة الاقتصادية؟
د. حسين البناء
القبة نيوز- تعالت أصوات الكثير من (المختصين و الكُتّاب و المهتمين بالشأن الاقتصادي الأردني) داعيةً إلى الخروج من نمطية تفكير الليبراليين الجدد و أتباع مقررات مؤتمر بريتون وودز (جماعة البنك و صندوق النقد الدوليين) التي تعالج ظاهر المشكلة الاقتصادية و ليس جوهرها في الأردن، وذلك منذ أن شَرع (الفريق الاقتصادي) في حكومة ( د. عمر الرزّاز ) في خطته "الإصلاحية" و التي تكلّلت بقانون الضريبة الجديد.
اليوم تُثبت مؤشرات الأداء الاقتصادي و المالي للدولة عدم نجاح الإجراءات المُتّبعة و تؤكد تراجع العوائد الضريبية و استمرار تفاقم عجز الموازنة العامة و تنامي نسبة الدين إلى الدخل القومي.
مشكلة الأردن الحقيقية تكمن في شقها الرئيسي بهيكل السلطات و نفوذ اتخاذ القرار في مراكز القوى، متزامنة مع سوء إدارة و فساد لا يخفى على مُطّلع، و في جانبها الآخر فهي مشاكل موضوعية بحكم صغر حجم السوق و ضآلة الاستثمار و الاعتماد على النفط المستورد و الهبات و المنح الخارجية، و علاوةً على ذلك فإن حالة عدم الاستقرار في جميع الدول المحيطة قد أثرت مباشرةً على التجارة و التصدير، وفوق كل ذلك موجات اللجوء و تبعاتها الإنسانية و الاقتصادية التي لا تنفك.
جميع تلك المشكلات تتمظهر على هيئة عجز مزمن في الموازنة العامة يتم تعويضه بالاستدانة من السوقين المحلي و الأجنبي، مما يُرتّب أعباءً إضافية لخدمة الدين المتفاقمة.
الركود التضخمي:
يمر الاقتصاد الأردني بحالة اقتصادية شاذة منذ بضع سنوات، وهي حالة (Stagflation) الركود التضخمي، وهذه الحالة لا تنشأ نتيجة حركية السوق الرأسمالي الحر الطبيعية، حيث أن آليات الاقتصاد و كنتيجة لتوازنات العرض و الطلب هي كفيلة بالوصول لممارسات (التصحيح الذاتي) للمؤشرات الاقتصادية والتي تعطي الأشياء قيمتها و مكانتها الطبيعية في السوق.
حالة الركود التضخمي هذه تنشأ في حالة الاقتصاد الأردني كنتيجة طبيعية للظروف الموضوعية؛ فالركود هو نتيجة تآكل المداخيل، و تراجع القدرة الشرائية للمستهلكين، وتراجع الطلب نتيجة ذهاب الجزء الأكبر من الدخل لتكاليف المشتقات النفطية و التدفئة و التعليم و المعالجات الصحية، وهذا نتاج تردي الخدمات العامة في مجال الصحة و التعليم الحكوميَين. كما أن تراجع تحويلات المغتربين في الخليج قد ساهمت بذلك أيضًا، بعد سياسات توطين الوظائف وآثار تمويل الحروب، ولا ننس تراجع الدعم المالي الدولي للموازنة العامة كجزء من الضغوط السياسية في ظل حساسية المرحلة؛ أما التضخم فهو نتيجة لارتفاع التكاليف التشغيلية الإنتاجية بسبب استيراد المواد الخام و تكلفة النفط (الطاقة) كعامل رافع للتكاليف، بالإضافة للعبء الضريبي المتنامي والذي يمثل بدوره رافع رئيس و مباشر على جملة التكاليف الإنتاجية. ولا ننس الأثر التضخمي للأسعار بسبب طلب اللاجئين السوريين الطارئ والممول خارجيًا على السلع والخدمات و الإسكان.
حالة الركود التضخمي مرشحة للتفاقم أكثر كنتيجة مباشرة لمعطيات قانون الضريبة الجديد؛ فارتفاع العبء الضريبي سيقود لرفع الكلف، الأمر الذي سيقود لرفع الأسعار، وهذا يعني تراجع الطلب نتيجة عدم نمو المداخيل بذات النسبة، مما يعني الكساد، و هذه صورة نمطية من الركود التضخمي المتفاقم. هذه الحالة ستؤدي لاحقًا لتراجع واردات الدولة من الضرائب نتيجة تراجع الأرباح و ما يترتب عليها من ضرائب. الحقيقة تقول بأن سياسات خفض الضرائب هي ما سيقود للاستثمار و تحفيز الطلب و لاحقًا تعزيز الإيرادات العامة كنتاج للنشاط الاقتصادي وتناميه.
المشكلة الاقتصادية والحل:
في حال عانت دولة ما من الركود الاقتصادي و تراجع مؤشرات النمو و التوظيف والطلب العام، فإن على الحكومة أن تتخذ تدابير عامة عبر (أدواتها التقليدية كالسياسة المالية و النقدية) بحيث يتم تحفيز الطلب و خفض البطالة و تعزيز النمو، ومن أبرز التدابير هي خفض الضرائب لتوسيع الدخل الخاضع للإنفاق مما سيُعزز الطلب، و تشجيع الاستثمار بخطوات حقيقية جاذبة لرؤوس الأموال و المستثمرين مثل إعفاءات ضريبية و تقديم أراضٍ مجانية و أسعار مخفضة للماء و الطاقة وغيرها من جواذب الاستثمار. ما نعانيه هو ضيق الأفق و قِصَر النظر و الاكتفاء بقراءة مالية مجردة لواقع (مؤشرات الدين العام و عجز الموازنة) و اللجوء لسياسات (جباية ضريبية) تثقل كاهل الأفراد و الشركات و تُعزز الركود و التباطؤ الاقتصادي بدون أية عواقب حميدة على المدى المتوسط و البعيد سوى إفقار الطبقة الوسطى، و تجويع الطبقة الفقيرة.
الإدارة اقتصادية أم مالية للدولة؟
منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1989 كانت خطيئة استبدال (الإدارة الاقتصادية) بعقلية (إدارة الأزمات بالتمويل) حيث وقع كامل الطاقم الاقتصادي في فخ (فقه الأولويات الطارئة) على حساب (المنظور الكلي المستدام) المَعنيّ بحل جذور الأزمة، لا الاكتفاء بمعالجات أعراضها، فكانت النشأة الأولى لنهج (الجباية) بدلًا عن نهج (التحفيز) و دخل الأردن في سلسلة لا تكاد تنفك من المعالجات المُشتَتة و غير المتواترة من خطط تصحيح لم تنجح في تصحيح شئ على أرض الواقع، فالحكومات المتتالية و فرقها الاقتصادية نشأت على فكرة متداولة تسمى محليًا (المشمشية) حيث الاستغراق في (قِصَر النظر) و استرطاب شخصنة التقرير، و الاستسلام أمام استحالة الاستمرارية للخطط و الاستراتيجيات المُقرَرة بسبب فقدان عامل الديمومة والاستقرار لطاقم المتابعة و التنفيذ الذي يَرْحَل مع كل إقالة و تكليف حكومي.
الضريبة كإيراد للنفقات العامة:
الضرائب مؤشر اقتصادي هام؛ ففي دالة الدخل القومي (وهي مؤشر النمو الاقتصادي الأهم) تُشكل النفقات العامة أحد خمسة مكونات في الدالة، جنبًا إلى جنب مع الاستهلاك و الاستثمار و صافي الصادرات بعد خصم المستوردات. مما يعني بأن تعزيز الإنفاق العام في الموازنة العامة يؤثر مباشرةً على مقياس النمو السنوي، و لهذا يخشى الكثيرون من التقشف في الإنفاق العام نظرًا لانعاكسه على النشاط و النمو الاقتصادي. من هنا ندرك أهمية الضرائب في النشاط الاقتصادي؛ فكل دولار تنفقه الحكومة سوف يدخل في الدورة الاقتصادية ليُحرك الطلب و يدعم مؤشر النمو. كما أن حجم الإنفاق الحكومي على (الخدمات العامة كمًا و نوعًا و على الرفاه المجتمعي) يتسق مع حجم الأعباء الضريبية على دافعيها.
الضريبة كتكلفة:
الضرائب تحمل معانيٍ كثيرة لكل طرف من أطراف المعادلة الاقتصادية؛ فالمواطن العادي (المستهلك النهائي) يرى (ضريبة الدخل) كاقتطاع من دخله القابل للإنفاق، مما يقلل ميوله للاستهلاك أو الاستثمار. و الشركات ترى (ضريبة المبيعات) تكلفة من شأنها رفع السعر مما يقلل الطلب، خاصةً في حالة صعوبة تحمل أغلب العبء الضريبي من طرف الشركة و ترحيله إلى المستهلك كزيادة سعرية، مع تجاهل حساسية بعض السلع للتغيُّر السعري و مدى تأثر الطلب بذلك.
كما أن الأحمال الضريبية من شأنها رفع كلفة الإنتاج و تكلفة مدخلاته من مواد خام، و رفع الأجور كذلك للعمال.
الطبقة الوسطى:
من الواضح تمامًا على أرض الواقع و حتى في الإصدارات الرسمية بأن ثَمّة تآكل مُخيف يقع على نسبة المندرجين في نطاق الطبقة الوسطى، وهذا عائدٌ في حقيقة الأمر لجملةٍ من العوامل هي:
(1) التعليم والصحة: نظرًا للانحدار الكبير في مستوى جودة التعليم و الخدمات الصحية للقطاع العام فقد لجأ غالبية أفراد الطبقة الوسطى لتعليم و معالجة أبنائهم في مرافق القطاع الخاص، و بات ملحوظًا ارتفاع تكلفة ذلك على موازنة الإنفاق للأسر، الأمر الذي أثّر سلبًا على قدرتهم الشرائية في أوجه الإنفاق الأخرى.
(2) النظام الضريبي: من الملاحظ في الأردن بأن (ضريبة المبيعات) تستهدف كافة المستهلكين بغض النظر عن دخلهم، الفقراء و الأثريا معًا، في حين أن قانون (ضريبة الدخل) الذي من شأنه إخضاع غالبية أفراد و أسر الطبقة الوسطى لنسب ضريبية معينة، سوف تقتطع جزءًا مهولًا من دخولهم كضرائب، أي تحويلهم لطبقة فقيرة عملانيًا. برغم أن هدف الضرائب الاجتماعي و الاقتصادي هو الاقتطاع من دخول الأثرياء لصالح الفقراء، و ليس الجباية من الطبقة الوسطى لتحويلها لفقيرة.
(3) الركود الاقتصادي و الكساد العقاري: منذ عام 2015 بدأت معالم (الركود التضخمي) تلوح في الأفق، واقترن ذلك مع كساد ملحوظ في تجارة العقارات و الشقق الإسكانية، الأمر الذي تَسبّب في سحق طبقة اقتصادية أُثرِيَت بِفُحشٍ في فترة (طفرة العقار) أبان اللجوء العراقي و السوري للأردن، من جهة أخرى، فقد تأثّر سلبًا غالبية (التجار و المستوردين و كبار الأطباء و المهندسين و المحامين) نظرًا لحالة الركود الاقتصادي و تراجع الطلب العام.
(4) حوالات المغتربين و التوظيف: نظرًا لتراجع أسعار النفط و انخراط بعض الدول في حرب اليمن و سوريا، فقد حدث تراجع ملحوظ في حجم النشاط الاقتصادي هناك، الأمر الذي أثّر مباشرةً على عدد الوظائف و قيمة التحويلات من تلك الدول، ومن المعلوم بأن جزءًا واسعًا من أبناء الطبقة الوسطى هم ممّن عملوا وادخروا و استثمروا في الفرصة الاقتصادية التي طرأت منذ السبعينات في الخليج العربي.
(5) استنفاد المدخرات و بيع الأصول المتوارثة: أحد أسباب انتعاش الطبقة الوسطى في الأردن و خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين هو الاعتماد على بيع الأراضي الموروثة، والتي تم استنفاذها تزامنا مع تضاعف أسعارها بشكل جنوني. هذه الأراضي تعتبر مصدرا ناضبا للثروة و الدخل بعد أن اضطر الناس لبيعها في سبيل تمويل النفقات الاستهلاكية اليومية.
بعد تآكل مساحة الطبقة الوسطى لصالح اتساع الطبقة الفقيرة فإن حجم الاستهلاك سيكون هو الضحية الأبرز، و الاستهلاك هو المولد للعوائد الضريبية، و هو أحد العوامل الخمسة في بناء دالة الدخل القومي، بسبب ذلك ستتأثر جميع المؤشرات الاقتصادية سلبا.
اليوم تُثبت مؤشرات الأداء الاقتصادي و المالي للدولة عدم نجاح الإجراءات المُتّبعة و تؤكد تراجع العوائد الضريبية و استمرار تفاقم عجز الموازنة العامة و تنامي نسبة الدين إلى الدخل القومي.
مشكلة الأردن الحقيقية تكمن في شقها الرئيسي بهيكل السلطات و نفوذ اتخاذ القرار في مراكز القوى، متزامنة مع سوء إدارة و فساد لا يخفى على مُطّلع، و في جانبها الآخر فهي مشاكل موضوعية بحكم صغر حجم السوق و ضآلة الاستثمار و الاعتماد على النفط المستورد و الهبات و المنح الخارجية، و علاوةً على ذلك فإن حالة عدم الاستقرار في جميع الدول المحيطة قد أثرت مباشرةً على التجارة و التصدير، وفوق كل ذلك موجات اللجوء و تبعاتها الإنسانية و الاقتصادية التي لا تنفك.
جميع تلك المشكلات تتمظهر على هيئة عجز مزمن في الموازنة العامة يتم تعويضه بالاستدانة من السوقين المحلي و الأجنبي، مما يُرتّب أعباءً إضافية لخدمة الدين المتفاقمة.
الركود التضخمي:
يمر الاقتصاد الأردني بحالة اقتصادية شاذة منذ بضع سنوات، وهي حالة (Stagflation) الركود التضخمي، وهذه الحالة لا تنشأ نتيجة حركية السوق الرأسمالي الحر الطبيعية، حيث أن آليات الاقتصاد و كنتيجة لتوازنات العرض و الطلب هي كفيلة بالوصول لممارسات (التصحيح الذاتي) للمؤشرات الاقتصادية والتي تعطي الأشياء قيمتها و مكانتها الطبيعية في السوق.
حالة الركود التضخمي هذه تنشأ في حالة الاقتصاد الأردني كنتيجة طبيعية للظروف الموضوعية؛ فالركود هو نتيجة تآكل المداخيل، و تراجع القدرة الشرائية للمستهلكين، وتراجع الطلب نتيجة ذهاب الجزء الأكبر من الدخل لتكاليف المشتقات النفطية و التدفئة و التعليم و المعالجات الصحية، وهذا نتاج تردي الخدمات العامة في مجال الصحة و التعليم الحكوميَين. كما أن تراجع تحويلات المغتربين في الخليج قد ساهمت بذلك أيضًا، بعد سياسات توطين الوظائف وآثار تمويل الحروب، ولا ننس تراجع الدعم المالي الدولي للموازنة العامة كجزء من الضغوط السياسية في ظل حساسية المرحلة؛ أما التضخم فهو نتيجة لارتفاع التكاليف التشغيلية الإنتاجية بسبب استيراد المواد الخام و تكلفة النفط (الطاقة) كعامل رافع للتكاليف، بالإضافة للعبء الضريبي المتنامي والذي يمثل بدوره رافع رئيس و مباشر على جملة التكاليف الإنتاجية. ولا ننس الأثر التضخمي للأسعار بسبب طلب اللاجئين السوريين الطارئ والممول خارجيًا على السلع والخدمات و الإسكان.
حالة الركود التضخمي مرشحة للتفاقم أكثر كنتيجة مباشرة لمعطيات قانون الضريبة الجديد؛ فارتفاع العبء الضريبي سيقود لرفع الكلف، الأمر الذي سيقود لرفع الأسعار، وهذا يعني تراجع الطلب نتيجة عدم نمو المداخيل بذات النسبة، مما يعني الكساد، و هذه صورة نمطية من الركود التضخمي المتفاقم. هذه الحالة ستؤدي لاحقًا لتراجع واردات الدولة من الضرائب نتيجة تراجع الأرباح و ما يترتب عليها من ضرائب. الحقيقة تقول بأن سياسات خفض الضرائب هي ما سيقود للاستثمار و تحفيز الطلب و لاحقًا تعزيز الإيرادات العامة كنتاج للنشاط الاقتصادي وتناميه.
المشكلة الاقتصادية والحل:
في حال عانت دولة ما من الركود الاقتصادي و تراجع مؤشرات النمو و التوظيف والطلب العام، فإن على الحكومة أن تتخذ تدابير عامة عبر (أدواتها التقليدية كالسياسة المالية و النقدية) بحيث يتم تحفيز الطلب و خفض البطالة و تعزيز النمو، ومن أبرز التدابير هي خفض الضرائب لتوسيع الدخل الخاضع للإنفاق مما سيُعزز الطلب، و تشجيع الاستثمار بخطوات حقيقية جاذبة لرؤوس الأموال و المستثمرين مثل إعفاءات ضريبية و تقديم أراضٍ مجانية و أسعار مخفضة للماء و الطاقة وغيرها من جواذب الاستثمار. ما نعانيه هو ضيق الأفق و قِصَر النظر و الاكتفاء بقراءة مالية مجردة لواقع (مؤشرات الدين العام و عجز الموازنة) و اللجوء لسياسات (جباية ضريبية) تثقل كاهل الأفراد و الشركات و تُعزز الركود و التباطؤ الاقتصادي بدون أية عواقب حميدة على المدى المتوسط و البعيد سوى إفقار الطبقة الوسطى، و تجويع الطبقة الفقيرة.
الإدارة اقتصادية أم مالية للدولة؟
منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1989 كانت خطيئة استبدال (الإدارة الاقتصادية) بعقلية (إدارة الأزمات بالتمويل) حيث وقع كامل الطاقم الاقتصادي في فخ (فقه الأولويات الطارئة) على حساب (المنظور الكلي المستدام) المَعنيّ بحل جذور الأزمة، لا الاكتفاء بمعالجات أعراضها، فكانت النشأة الأولى لنهج (الجباية) بدلًا عن نهج (التحفيز) و دخل الأردن في سلسلة لا تكاد تنفك من المعالجات المُشتَتة و غير المتواترة من خطط تصحيح لم تنجح في تصحيح شئ على أرض الواقع، فالحكومات المتتالية و فرقها الاقتصادية نشأت على فكرة متداولة تسمى محليًا (المشمشية) حيث الاستغراق في (قِصَر النظر) و استرطاب شخصنة التقرير، و الاستسلام أمام استحالة الاستمرارية للخطط و الاستراتيجيات المُقرَرة بسبب فقدان عامل الديمومة والاستقرار لطاقم المتابعة و التنفيذ الذي يَرْحَل مع كل إقالة و تكليف حكومي.
الضريبة كإيراد للنفقات العامة:
الضرائب مؤشر اقتصادي هام؛ ففي دالة الدخل القومي (وهي مؤشر النمو الاقتصادي الأهم) تُشكل النفقات العامة أحد خمسة مكونات في الدالة، جنبًا إلى جنب مع الاستهلاك و الاستثمار و صافي الصادرات بعد خصم المستوردات. مما يعني بأن تعزيز الإنفاق العام في الموازنة العامة يؤثر مباشرةً على مقياس النمو السنوي، و لهذا يخشى الكثيرون من التقشف في الإنفاق العام نظرًا لانعاكسه على النشاط و النمو الاقتصادي. من هنا ندرك أهمية الضرائب في النشاط الاقتصادي؛ فكل دولار تنفقه الحكومة سوف يدخل في الدورة الاقتصادية ليُحرك الطلب و يدعم مؤشر النمو. كما أن حجم الإنفاق الحكومي على (الخدمات العامة كمًا و نوعًا و على الرفاه المجتمعي) يتسق مع حجم الأعباء الضريبية على دافعيها.
الضريبة كتكلفة:
الضرائب تحمل معانيٍ كثيرة لكل طرف من أطراف المعادلة الاقتصادية؛ فالمواطن العادي (المستهلك النهائي) يرى (ضريبة الدخل) كاقتطاع من دخله القابل للإنفاق، مما يقلل ميوله للاستهلاك أو الاستثمار. و الشركات ترى (ضريبة المبيعات) تكلفة من شأنها رفع السعر مما يقلل الطلب، خاصةً في حالة صعوبة تحمل أغلب العبء الضريبي من طرف الشركة و ترحيله إلى المستهلك كزيادة سعرية، مع تجاهل حساسية بعض السلع للتغيُّر السعري و مدى تأثر الطلب بذلك.
كما أن الأحمال الضريبية من شأنها رفع كلفة الإنتاج و تكلفة مدخلاته من مواد خام، و رفع الأجور كذلك للعمال.
الطبقة الوسطى:
من الواضح تمامًا على أرض الواقع و حتى في الإصدارات الرسمية بأن ثَمّة تآكل مُخيف يقع على نسبة المندرجين في نطاق الطبقة الوسطى، وهذا عائدٌ في حقيقة الأمر لجملةٍ من العوامل هي:
(1) التعليم والصحة: نظرًا للانحدار الكبير في مستوى جودة التعليم و الخدمات الصحية للقطاع العام فقد لجأ غالبية أفراد الطبقة الوسطى لتعليم و معالجة أبنائهم في مرافق القطاع الخاص، و بات ملحوظًا ارتفاع تكلفة ذلك على موازنة الإنفاق للأسر، الأمر الذي أثّر سلبًا على قدرتهم الشرائية في أوجه الإنفاق الأخرى.
(2) النظام الضريبي: من الملاحظ في الأردن بأن (ضريبة المبيعات) تستهدف كافة المستهلكين بغض النظر عن دخلهم، الفقراء و الأثريا معًا، في حين أن قانون (ضريبة الدخل) الذي من شأنه إخضاع غالبية أفراد و أسر الطبقة الوسطى لنسب ضريبية معينة، سوف تقتطع جزءًا مهولًا من دخولهم كضرائب، أي تحويلهم لطبقة فقيرة عملانيًا. برغم أن هدف الضرائب الاجتماعي و الاقتصادي هو الاقتطاع من دخول الأثرياء لصالح الفقراء، و ليس الجباية من الطبقة الوسطى لتحويلها لفقيرة.
(3) الركود الاقتصادي و الكساد العقاري: منذ عام 2015 بدأت معالم (الركود التضخمي) تلوح في الأفق، واقترن ذلك مع كساد ملحوظ في تجارة العقارات و الشقق الإسكانية، الأمر الذي تَسبّب في سحق طبقة اقتصادية أُثرِيَت بِفُحشٍ في فترة (طفرة العقار) أبان اللجوء العراقي و السوري للأردن، من جهة أخرى، فقد تأثّر سلبًا غالبية (التجار و المستوردين و كبار الأطباء و المهندسين و المحامين) نظرًا لحالة الركود الاقتصادي و تراجع الطلب العام.
(4) حوالات المغتربين و التوظيف: نظرًا لتراجع أسعار النفط و انخراط بعض الدول في حرب اليمن و سوريا، فقد حدث تراجع ملحوظ في حجم النشاط الاقتصادي هناك، الأمر الذي أثّر مباشرةً على عدد الوظائف و قيمة التحويلات من تلك الدول، ومن المعلوم بأن جزءًا واسعًا من أبناء الطبقة الوسطى هم ممّن عملوا وادخروا و استثمروا في الفرصة الاقتصادية التي طرأت منذ السبعينات في الخليج العربي.
(5) استنفاد المدخرات و بيع الأصول المتوارثة: أحد أسباب انتعاش الطبقة الوسطى في الأردن و خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين هو الاعتماد على بيع الأراضي الموروثة، والتي تم استنفاذها تزامنا مع تضاعف أسعارها بشكل جنوني. هذه الأراضي تعتبر مصدرا ناضبا للثروة و الدخل بعد أن اضطر الناس لبيعها في سبيل تمويل النفقات الاستهلاكية اليومية.
بعد تآكل مساحة الطبقة الوسطى لصالح اتساع الطبقة الفقيرة فإن حجم الاستهلاك سيكون هو الضحية الأبرز، و الاستهلاك هو المولد للعوائد الضريبية، و هو أحد العوامل الخمسة في بناء دالة الدخل القومي، بسبب ذلك ستتأثر جميع المؤشرات الاقتصادية سلبا.