facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

العنف ضد المرأة: جرح مستمر ومسار ضروري للتغيير

العنف ضد المرأة: جرح مستمر ومسار ضروري للتغيير


بقلم : الأستاذة نور المصري

العنف ضد المرأة ليس مجرد حادثة عابرة أو موقف منفرد، بل هو نتيجة تراكم طويل من ممارسات اجتماعية وثقافية وقانونية أدت إلى خلق واقعٍ صعب تعيشه النساء يوميًا. هذا الواقع يُجبر المرأة على مواجهة الخوف والعزلة، في وقت يجب أن يكون فيه الأمان والكرامة من حقوقها الأساسية. في العديد من المجتمعات، يُبرَّر العنف الأسري بالمفاهيم التقليدية المتعلقة بالشرف والخصوصية، بينما يبقى الدعم القانوني والمجتمعي ضعيفًا أو متأخرًا. وفي الأردن، كما في الكثير من الدول العربية، تكشف البيانات والإحصاءات أن العنف ضد المرأة ليس قضية فردية، بل ظاهرة وطنية تتطلب اهتمامًا مستمرًا من الدولة والمجتمع معًا.

تشير نتائج المسح الديموغرافي والصحي لعام 2017-2018 إلى أن خمسة وعشرين فاصل تسعة بالمئة من النساء المتزوجات في الأردن أبلغن عن تعرضهن لعنف جسدي أو نفسي أو جنسي من الزوج خلال حياتهن. من بينهن، أفادت نسبة عشرين فاصل ستة بالمئة بتعرضهن لعنف نفسي أو عاطفي، وسبع عشرة فاصل خمسة بالمئة لعنف جسدي، وخمس فاصل واحد بالمئة لعنف جنسي. هذه الإحصاءات تشير إلى أن امرأة من كل أربع نساء تقريبًا تحمل في تاريخها تجربة عنف، ما يجعل الظاهرة واسعة الانتشار وليست استثناءً.

وفي دراسة أخرى أجرتها منظمة الصحة العالمية على عيادات الصحة الإنجابية في الأردن، أفادت نسبة كبيرة من النساء بأنهن تعرضن للعنف النفسي أو السيطرة العاطفية أو الاقتصادية بنسبة ثلاثة وسبعين فاصل أربعة بالمئة، فيما تعرضت ثلاثون فاصل اثنان بالمئة لعنف جسدي، وثماني عشرة فاصل ثمانية بالمئة لعنف جنسي. هذه البيانات توضح أن العنف لا يقتصر على الاعتداء البدني، بل يمتد ليشمل أبعادًا نفسية واجتماعية تعمّق المعاناة وتمنع النساء في كثير من الحالات من التحدث عن تجاربهن.

من المهم الإشارة إلى أن كثيرًا من حالات العنف لا تُبلّغ أبدًا، بسبب الخوف من الانتقام أو وصمة العار الاجتماعي أو عدم الثقة في الإجراءات القانونية. وبالتالي، فإن الأرقام الفعلية قد تكون أعلى بكثير مما يظهر في المسوح الرسمية. هذه الحقيقة تجعل من الضروري النظر إلى العنف كظاهرة مستمرة ومعقدة تتطلب مقاربة شاملة.

على المستوى الإقليمي، تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن امرأة واحدة من كل ثلاث نساء تتعرض للعنف الجسدي أو الجنسي من شريك حميم خلال حياتها. هذه النسبة تضع الأردن ضمن سياق عالمي واسع، لكنها أيضًا تسلط الضوء على التحديات الخاصة بالثقافة والعادات والقوانين المحلية التي تؤثر في شكل العنف وكيفية التعامل معه. المناطق التي تشهد نزاعات أو أزمات اقتصادية أو صحية، مثل جائحة كورونا، أظهرت زيادة ملحوظة في العنف ضد المرأة، بسبب التوتر والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن ضعف شبكات الحماية والخدمات المساندة.

العنف ضد المرأة يترك آثارًا متعددة تتجاوز الألم الجسدي. كثير من النساء يعانين من اضطرابات نفسية شديدة تشمل الاكتئاب، القلق، اضطرابات النوم، والشعور المستمر بعدم الأمان. بعضهن يعشن حياة مليئة بالخوف والرعب، وقد تستمر آثار العنف لسنوات طويلة بعد انتهاء العلاقة العنيفة. هذه النتائج تؤكد أن العنف لا يؤثر على الفرد فقط، بل يمتد أثره إلى الأسرة والمجتمع بأكمله.

دراسة تحليلية حديثة أظهرت أن العنف الأسري يكلف المجتمع كلفة اقتصادية كبيرة تشمل الخدمات الصحية، الدعم النفسي، فقدان الإنتاجية، وتكاليف حماية الضحايا. هذه الكلفة تثقل كاهل الأسر والدولة، وتؤثر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. بالتالي، فإن تجاهل العنف ضد المرأة ليس خيارًا محايدًا، بل هو قرار يؤدي إلى استمرار الجرح المجتمعي وتأخر التنمية.

لماذا تستمر هذه الحلقة؟ هناك عدة عوامل رئيسية تسمح باستمرار العنف ضد المرأة. أولاً، ثقافة الصمت والوصمة. كثير من النساء يخشين الإفصاح عن المعاناة خوفًا من الانتقام أو السخرية أو التشهير، وفي كثير من الحالات يُعتبر الحديث عن مشكلات الأسرة خرقًا للخصوصية أو تهديدًا للسمعة. ثانيًا، قصور في تنفيذ القوانين. رغم وجود تشريعات لحماية المرأة من العنف الأسري، تعاني العديد من الحالات من بطء الإجراءات ونقص الدعم القانوني والنفسي والملاجئ. ثالثًا، غياب التوعية. البرامج التعليمية والإعلامية لم توفّر التوجيه الكافي لتغيير المفاهيم التقليدية المتعلقة بالمرأة ودورها، مما يترك النساء عرضة للتمييز والاعتداء. رابعًا، الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على الأسرة بشكل مباشر وتزيد من احتمالات وقوع العنف.

تجارب واقعية (مجهولة الهوية) تؤكد هذه الصورة. امرأة في الثلاثين من عمرها، أم لطفلين، عاشت سنوات من العنف النفسي والجسدي، وكانت تتجنب الحديث عنه خوفًا من نظرة المجتمع، حتى اكتفت بالصمت. امرأة أخرى فقدت عملها بسبب تعرضها لضغط نفسي من زوجها، فزاد اعتمادها المالي عليه، ما جعلها محاصرة ومجبرة على الاستمرار في العلاقة المؤذية. هذه النماذج تعكس واقع ملايين النساء اللواتي يواجهن العنف بصمت، وتبرز أهمية وجود سياسات حماية حقيقية واستجابة فورية.

القضاء على العنف ضد المرأة يتطلب رؤية شاملة ومتكاملة. يجب أن يشمل هذا تنفيذًا فعالًا للقوانين مع ضمان حماية النساء الناجيات من أي تهديد، إنشاء ودعم مراكز حماية وملاجئ مؤقتة، خطوط ساخنة للاستجابة، خدمات قانونية ونفسية متاحة على الفور. كما يتطلب برامج توعية مستمرة تبدأ من التعليم الأساسي، مرورًا بالإعلام، وصولًا إلى مؤسسات المجتمع المدني والديني، لتغيير المفاهيم الخاطئة وتبني قيم المساواة والاحترام.

التمكين الاقتصادي والاجتماعي للمرأة يعد جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية. تعليم المرأة، تمكينها من العمل، واستقلالها المالي يقلل من هشاشتها أمام العنف ويمنحها القدرة على اتخاذ قرارات تحمي نفسها وأسرتها. دعم مؤسسات المجتمع المدني والمبادرات النسوية يلعب دورًا مركزيًا في رصد الانتهاكات، تقديم الدعم الفوري، والمناصرة من أجل الحقوق. بالإضافة إلى ذلك، يجب إجراء مسوح ودراسات دورية لتحديث البيانات وفهم حجم المشكلة الحقيقي وتطوير استراتيجيات فعالة للتعامل معها.

العنف ضد المرأة ليس قضية تخص الضحية فقط، بل هو اختبار لعقلية المجتمع، لقوانينه، لقيمه. المجتمع الذي يسمح بالاعتداء أو يتغاضى عنه هو مجتمع يضعف نفسه داخليًا، ويعرّض استقراره للخطر. الاحترام والكرامة ليسا قضية رأي، بل حقوق أساسية يجب أن تحظى بالحماية الكاملة.

إذا أردنا مجتمعًا عادلًا ومستقرًا، يجب أن يكون احترام المرأة وحمايتها جزءًا لا يتجزأ من قيمنا وممارساتنا اليومية. الاعتراف بالمعاناة، توفير الدعم، وتعزيز الحقوق والتمكين ليست مجرد مسؤوليات أخلاقية، بل أساس بناء مجتمع متماسك وآمن. النساء نصف المجتمع، وحمايتهن حماية للمجتمع بأسره.


Nooralmasri147@gmail.com


 

 

تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير