أبو رمان يكتب.. عن الأستاذ.. أبي السعيد
د.محمد ابو رمان
القبة نيوز- لم يرحل عدنان أبو عودة، السياسي والمفكر الأردني أمس، إلاّ بعد أن قدّم الكثير للأردن، في مراحل عاصفة من تاريخه وفي محطات مفصلية ومهمة، وفي الأعوام الماضية بوصفها محاضراً ومناقشاً ومحاوراً ومؤلفاً، فنشر يومياته أولاً، ثم المستدرك، بعد أن وجدوا أوراقاً كانت مفقودة خلال عملية صيانة الطابق الأرضي في منزله، وكان بصدد إنهاء مذكراته، التي تعمل عليها الزميلة فرح مرقة، قبل أن يخطفه منا الموت.
لن أتحدث عن فكر أبي السعيد ولا عن دوره التاريخي، فتلك موضوعات تتطلب عملاً أكبر من مقالٍ يومي، لكن سأتحدث اليوم عن أبي السعيد الأستاذ والإنسان..
أبو سعيد أستاذ حقّاً في السياسة الأردنية وفي فهم القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية وفي فهم السياسة الأميركية في المنطقة. تميّز أبو السعيد في أنّه كان سياسياً ومثقفاً نقدياً في الوقت نفسه، دخل النظام الأردني في الستينيات من خلال بوابة المخابرات العامة، وتميّز في قسم التحليل السياسي، ولم يتوان أن يقول للملك الحسين (في العام 1968): سيهتز عرشك بعد عامين، كان حديثه صادماً للملك وللمحيطين به، لكنه كان مناسبة – كما يتذكر أبو السعيد نفسه- ليلتفت إليه الملك، ويبدأ بعملية إعداده عن بعد، من دون أن يشعر هو ولا الطبقة السياسية، إلى حين استدعاه في الحكومة العسكرية في أحداث أيلول 1970، وزيراً للإعلام، ثم استمر عمل أبو السعيد في وزارة الإعلام، ثم الديوان الملكي، ثم الدبلوماسية الأردنية، وفي كل الحلقات السابقة كان قريباً من الملك ومستشاراً له، سواء كان في موقع رسمي أو غير رسمي.
أستذة أبي السعيد تتمثل في قدرته على تأطير الأحداث وفهم سياقاتها وقراءة أعماقها، وكان في حديثه يصر على أهمية الـConceptualization ، حتى نربط التفاصيل والأحداث ونصل إلى فهم السردية والسياق والأهدف، من هنا حظيت مفاهيم رئيسة باهتمام أبي السعيد في فهم السياسات الأردنية، وهو ابن «المطبخ المصغر» للراحل الحسين، فأخذ مفهوم الجيوبوليتيك وارتباطه بالعمق الاستراتيجي اهتماماً خاصاً لديه (قدّم محاضرة حوارية في معهد السياسة والمجتمع متخصصة بذلك، ونشرها المعهد ضمن كتابه الشباب الأردني ومئوية الدولة) وربط قراءة القضية الفلسطينية والسياسات الأميركية نحوها بفهم الحركة الصهيونية واستراتيجيتها وديناميكتها، مما لفت انتباه العلماء والسياسيين الإسرائيليين إليه (بعد أن نشر مقالة مهمة عن القدس في منتصف الثمانينيات).
الاستثنائية الأخرى لأبي السعيد أنّه فهم السياسة الأردنية بعمق، وتلاحظ في يومياته ومحاضراته أنه يتجاوز سرد الأحداث إلى تقديم تأطير وتحليل لماذا وقعت؟ وما هي الديناميكيات التي تقف وراءها، ولا اظن أنّ رجلاً قدّم في فهم السياسة الأردنية وتحليلها وتوثيقها كما فعل أبو السعيد، فيومياته بحد ذاتها مصدر لا غنى عنه لأي باحث في السياسة الأردنية، داخلياً وخارجياً، ومن غير الممكن أن نتصور بألا تدرس في الكليات والجامعات، ضمن مواد العلوم السياسية والتاريخ السياسي الأردني.
استثنائية أبي السعيد تأتي أيضاً من أنه فهم تماماً الملك الحسين وعرف كيف يفكر؛ وكيف يصنع القرار، وكان – أستاذنا- في الوقت نفسه من أقرب الشخصيات السياسية لوصفي التل، كان أكثر فهماً وإدراكاً لوصفي من أغلب من ادّعى أنه امتداد له، بل وحارب أبو السعيد بشراسة وبوضوح عملية اختطاف وصفي واختزاله في سياقات غير حقيقية، وتبتعد به عن مشروعه الذي خصص أبو السعيد نقاشات وحوارات عديدة في شرحه.
إذا كان مصطلح «أستاذ» يطلق في السياسة الأردنية على أشخاص محددين، فأبو السعيد في مقدمتهم مع شخصيات أخرى اختلفت في الخط السياسي معه، لكنّها هضمت السياسة الأردنية بصورة عميقة، وجمعت بين الفكر والمعرفة والتطبيق العملي.
أمّا عن أبي السعيد الإنسان، فذلك إشراق آخر من إشراقات شخصيته الجميلة، كان متواضعاً أديباً نشيطاً مشرقاً دوماً متحفزاً للنقاش والحوار ومتابعاً للمقالات والسجالات الثقافية، لا يتردد في إبداء رأيه وأفكاره، لكن ما قد يصدم الكثيرين هو عشقه لجيل الشباب وإصراره على الجلوس معهم والنقاش والحوار بصورة مستمرة، كان يأتي إلى معهد السياسة والمجتمع ويجلس مع الشباب الباحثين والمتدربين ويدخل معهم في نقاشات معمقة، ويقول لهم «تعلموا مني السياسة الأردنية قبل أن أرحل» وكأنّها مهمة مقدسة نذر نفسه لها!
يمكن أن يتحدث معك على الهاتف فقط ليخبرك عن مقالة علمية مهمة وعن فكرة تستحق البحث والمتابعة أو كتاب ينصح بقراءته، ولم يتردد في تلبية دعوات معهد السياسة والمجتمع لجلسات حوارية مع الشباب في أكثر من مناسبة، وبالرغم من سنه الكبيرة فقد كان شعلة نشاط وحيوية وإشراق فكري، تشعر كأن عمره في العشرينيات لهمته وطاقته وعطائه.
مع كل هذا التاريخ والسيرة والفكر والثقافة والإنجاز والعطاء، والعمل في أعلى المناصب الرسمية على مرّ ثلاثة عقود، ودور رئيس في أحداث مفصلية في تاريخ الأردن، فإنك عندما تذهب إلى بيت أستاذنا ستجده منزلاً متواضعاً بسيطاً في حيّ صويلح الشعبي، لا يملك ثروات ولا أموالا، وفي مقارنته ببعض السياسيين الذين تولوا مناصب لفترات قصيرة ستندهش لحجم هذه المفارقة..
رحم الله أبا السعيد، فرحيله خسارة فادحة لنا، وكم كنت آمل أن يخصص محاضرات وندوات أكثر لطلاب الدراسات العليا في السياسة والتاريخ ليستفيد منه الجيل الجديد ويتعلّم ما يصعب أن يجده في أغلب الأدبيات التي تتناول السياسات الأردنية