العجارمة يكتب : أبجديّةُ الاستقلالِ حروفٌ مِنْ رصاص
د. نواف العجارمة
القبة نيوز- وطنٌ أرضُهُ مرصّعةٌ بالشّهداءِ، بَدءًا بمؤتةَ وحتّى الكرامةِ، مخضّبةٌ بدمائِهِمُ الزّكيّةِ، كيفَ لا يكونُ الاستقلالُ وسمًا في سمائِهِ، ودحنونًا قانيًا في باحاتِهِ وأرجائِهِ. وحُمرةً تُشعُّ في راياتِهِ، خفّاقةً أبيّةً.
لوْ لمْ أكنْ ابنَ هذهِ الأرضِ الطّهورِ، ودَدْتُ لوْ أكونُ. لوْ لمْ أتعطّرْ بشذاها حينَ تُمطرُها السّماءُ، فتعانقُ حبّاتُ المطرِ ذرّاتِ ترابِها ناشرةً مسكَ الشّهداءِ والحنّاء في أجوائِها، لقضيتُ عمري باحثًا عنْ ذاكَ الشّذا، وما وجدتُهُ. لوْ لمْ تكنْ هذي المرابعُ ملاعبَ الطّفولةِ والصّبا، وأحلامَ الشّبابِ لما كانَ لي ماضٍ ولا حاضرٌ ولا مستقبلٌ. لوْ لمْ أملأ صدريَ بهوائِها لَما تعلّمتُ الحبَّ ولا الوفاءَ. لوْ لم أناظرْ سماءَها لَما تعلّمْتُ العزّةَ والشّموخَ.
للّهِ هذا الثّرى الطّيّبُ ما أثمنَهُ؛ إذْ تحرّرَ بصلابةِ الصّدورِ، وبقوَّةِ المعرفةِ المُنتزعةِ منْ قلبِ السُّطورِ، للهِ مَنْ قضى في سبيلِهِ؛ لِيحيا عزيزًا كريمًا، للهِ منْ باعَ الرّوحَ ليشتريَهَ، للهِ منْ قبضَ على جمرِ محبّتِهِ كيْ تظلَّ جمرتُهُ متّقدةً، وشوكتُهُ مسلولةً أمامَ كلِّ عينٍ طامعةٍ!
وطنٌ تحرّرَ بالإرادةِ قبلَ الإمكاناتِ، واستقلَّ بالعزيمةِ قبلَ السّلاحِ، جنودُهُ معلّمونَ متمرِّسونَ، ومعلّموهُ جنودٌ بواسلُ، أتقنَ المزجَ بينَ الوعيِ والقوّةِ، وأدركَ أنَّ وجودَهُ متّكئٌ على أساسيْنِ: العلمِ والشّجاعةِ، فكافحَ بالبندقيّةِ والقلمِ، في خندقٍ واحدٍ، وسجّلَ المفاخرَ بالرَّصاصِ ذخيرةً وقلمًا، ونقلَ خبراتِهِ بالكرمِ الأردنيِّ المعهودِ لكلِّ مَنِ استغاثَهُ، واستعانَ بهِ تاركًا تلكَ البصمةَ الأردنيَّة النّبيلةّ الّتي تأبى أنْ تُطأطئَ هاماتِها، وأنْ تمرَّ منْ غيرِ أنْ تحفرَ معالمَها في روحِ كلِّ مَنْ عرفَها، نواةً صلبةً بَنَتْ عليْها كثيرٌ منَ الدّولِ نهضتَها وتطوّرَها.
نتطلّعُ لتوسيعِ مفهومِنا للاستقلالِ متجاوزينَ مفهومَهُ التّقليديَّ، إلى التَّخلِّص مِنْ كلِّ أشكالِ التّبعيّة الأخرى؛ لنواصلَ دورَنا الإقليميَّ والإنسانيَّ في نقلِ عدوى الاستقلالِ بمفهومِه الشّاملِ، فالهُويَّةُ الأردنيّةُ الفتيّةُ منذُ كينونتِها الأولى هويّةٌ لا ترضى بأنْ تكونَ على الهامشِ، أو في الظِّلّ، رغمَ ما حيكَ لها لتلقى في غيابةِ الجُبِّ.
مدينونَ نحنُ جميعًا لكلِّ فردٍ منْ ربعِ الكِفافِ الحُمرِ بأكثرَ ممّا يتعلَّقُ بالاستقلالِ السّياسيِّ، فالاستقلالُ ليسَ حدثًا عابرًا، إنّما هوَ دورةُ حياةٍ، مدينونَ لهم باستقلالِنا عنْ كلِّ المخاوِفِ، مدينونَ باجتماعِنا وتجمُّعِنا، مدينونَ بالدِّفءِ الّذي يعمرُ بيوتَنا، ويغمرُ أرواحَنا. مدينونَ لهمْ إذْ يرافقونَ أرواحَنا في كلِّ حينٍ، يُهدهدونَها في مهدِ الأمنِ والأمانِ، أنّى كانَتْ أوضاعُ الدّنيا حولَنا، تمامًا كما نحنُ مدينونَ لأولئك الّذينَ أمسكوا بأكفِّنا الصّغيرةِ، ونحنُ نخطّ كلماتِنا الأولى؛ كيْ لا تنزلقَ أحرفُنا عنِ السّطورِ المستقيمةِ.
مدينونَ بالوجودِ، وبما يضمنُ استمراريّةَ هذا الوجودِ، بما يليقُ بالأردنِّ وبالأردنيّينَ. مدينونَ بما هوَ أعظمُ مِنْ أنْ تحتويَهُ الأسطرُ، وتتضمَّنَهُ الأفكارُ، وتتغنّى بهِ القصائدُ؛ فمحاولاتُنا في إيفاءِ الجندِ حقَّهُم تُشبهُ محاولةَ اختزالِ فضاءاتِ الشّمسِ داخلَ مصباحٍ، همْ أوّلُ الحاضرينَ، وآخرُ منْ يغادرُ، لَكأنَّما حياتُنا سكونٌ بينَ نقطتيْنِ مُسيّجتينِ بصمودِهِم، وسلامٌ ما كانَ لولا عراكُهُمْ معَ جحافلِ الظّلامِ.