الشرمان يكتب : أيهما أولى الرأس أم الذنب
الدكتور عديل الشرمان
القبة نيوز- رؤساء وزراء ووزراء سابقون، ورجال أعمال، ومتنفذون صدرت بحقهم أحكاما صارمة بالسجن لأكثر من عشر سنوات، وصودرت أموالهم بتهم فساد، وقضايا تتعلق بالاستفادة من العديد من الامتيازات العقارية والجمركية، والظفر بـصفقات عمومية بطريقة غير قانونية، وتهم تتعلق بتبديد أموال عمومية، ومنح امتيازات غير مبررة للغير، وسوء استغلال الوظيفة، هذه عناوين لأحكام نافذة تناقلتها مواقع اخبارية في واحدة من الدول العربية الشقيقة قبل أيام.
أما في مواقعنا الإخبارية المحلية فنطالع عناوين: توقيف عدد من الأشخاص على ذمة التحقيق في مركزي إصلاح وتأهيل الجويدة والبلقاء، بعضهم لمدة 15 يوماً وبعضهم الآخر لمدة أسبوع، على خلفية قضية استيراد شحنة ثوم وبرتقال لشركة "رسبت بالفحص المخبري"، إلاّ أنه تم إدخالها دون وجه حق، وعلى خلفية تعبئة خزانات الديزل في أحد المستشفيات بكميات تبيّن أنها غير حقيقية، وعلى خلفيات تهم أخرى.
عندنا نستخدم سياسة الهرم المقلوب، فنتدحرج من أسفل إلى فوق، فبدلا من أن نقطع الرأس الذي يحوي السم نذهب إلى ذنب الأفعى ونترك الرأس خوفا، مسكين ذلك الذنب فذنبه أنه ظل تابعا يتبع الرأس في كل حركاته، ويستخدمه للروغان، ويدفع به الأذى عن نفسه، وليتبين أنه في لحظة معينة يمكن للرأس أن يتخلى عنه ويعيش بدونه. كافة الحكومات الأردنية المتعاقبة خلال العقدين الماضيين تعهدت ضمن برامجها بمحاربة الفساد، وعضّت أصابعها وهي تهدد وتتوعد، ودقّت على صدورها للإيحاء بجديتها، ومع كل وعد كان يهزّنا الشوق إلى فوق، وكنا نتفاءل خيرا لعلنا نجده، ويوما بعد يوم يتراجع التفاؤل ويضعف، ويطول الانتظار، لنجد أنفسنا نفقد بارقة الأمل إلا بارقة التوجيهات الملكية في هذا السياق والتي تجدد الأمل فينا وتمنحنا دفعة جديدة من التفاؤل.
لقد تبين لنا أن تلك التعهدات لا تعدو كونها في معظمها قرقعة، وحبال لعبت عليها الحكومات كسبا للوقت، وتهدئة للرأي العام، وإبر مخدرة استطاعت تخدير المواطنين بعض الوقت لحين رحيل هذه الحكومات، لتبدأ حلقة أخرى من الوعود والعهود مع كل حكومة جديدة، في حين تبقى ملفات الفساد تراوح مكانها.
تبددت الكثير من أحلام المواطنين في هذا الملف الهام، وراح يروج البعض من المواطنين من شركاء هذا الطابور لاستحالة القيام بهذه المهمة لأسباب واعتبارات كثيرة متعلقة بوعورة الطريق، وبقدرات الفاسدين الكبيرة الذين تمكنوا من خداع الحكومات وايهامها بقوة نفوذهم وقدراتهم الوهمية الخارقة، وباتساع ارتباطاتهم وقواعدهم الشعبية والعشائرية، وتهديد البعض منهم بفتح ملفات تطال غيرهم وتفضح الكثير من المخفي والمستتر، في حين راح بعض من المتملقين المتنفعين والمأجورين ممن يدّعي الحكمة ورجاحة العقل يطالب بفتح صفحة بيضاء وينادي بالعفو عن ما مضى.
لا يتضح من الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة أنها جادة بما يكفي في مكافحة الفساد، وليس أدل على ذلك من عملية تدوير المسؤولين التي تدور حولهم الشبهات بين مواقع المسؤولية والقيادة بشكل يفاجئ المواطنين ويصيبهم بصدمة، ليبدو للكثيرين وكأنه نوع من العناد والتحدي للرأي العام، وكسر لأنوف المطالبين بمكافحة الفساد ومنتقدي الحكومات وسياساتها.
وفي ذات السياق يتم الترويج للتسويات التي تتم مع الفاسدين والتي يفضي بعضها لاسترجاع بعض المال المنهوب منهم على أنها نوع من الحلول العقلانية الرشيدة، ويجري الترويج لها لتبدو وكأنها حلول مثالية في ظل ظروف معقدة، وفي الحقيقة ما هي إلا تعزيز لنهج الفساد، وتشجيع على استمراره، وأحد أسوأ أساليب المواجهة والتصدي، فضلا عن كونها طرق فاسدة تحارب الفساد بالفساد، بدلا من مصادرة أموال الفاسدين والزج بهم في السجون باعتباره أحد أفضل أساليب الردع لهم ولغيرهم.
غضّ الطرف، أو التراخي عن محاربة الفساد من أخطر المؤشرات التي توحي بتورط وارتباط وخوف البعض ممن عهد إليهم القيام بهذه المهمة، وممن هم في مواقع القيادة والمسؤولية من أن تطالهم يد العدالة، وأن يكونوا مع الخوالف، أو يحل بهم غضب الفاسدين.
القضاء على الفساد أو الحد منه لا يحتاج إلى تعهدات واستحداث أجهزة رقابية فقط، لكنه يتطلب اتخاذ قرارات صارمة، وتنازلات تؤلم البعض، وتطال الرؤوس التي أينعت ولا مناص ولا منجا منها إلا بقطافها. لقد آن الأوان إلى حتمية أن تقوم الحكومة بتقديم قدوات مثالية على قمة الهرم الوظيفي في كافة مؤسسات الدولة، وتفعيل وتطوير النظم الإلكترونية في كافة التعاملات المالية، إلى جانب بناء سلسلة ومنظومة من الإجراءات التعليمية والأخلاقية والإدارية والاجتماعية والرقابية ذات الطابع المستمر لخلق بيئة مجتمعية سليمة طاردة للفساد والفاسدين.
يكفينا قرارات ارتجالية مزاجية عبثية يصحبها تبريرات وتصريحات تمثيلية تستخف بعقول أصحابها ولا محل لها من الإعراب، فالمواطن ليس بوسعه الانتظار طويلا، وبغير اتخاذ خطوات جادة وسريعة في مكافحة الفساد تصبح عملية إعادة بناء ثقة المواطن بالحكومات بعيدة المنال ومن سابع المستحيلات، ولن يستقيم حالنا بغير ذلك أبد الدهر.