ما وراء رسائل الملك عبد الله الثاني
د. محمد أبو رمان
القبة نيوز-حملت تصريحات الملك عبد الله الثاني (في حواره قبل أكثر من أسبوع مع مجلة دير شبيغل الألمانية)، تصعيداً غير مسبوق ضد إسرائيل، عندما حذّر من أنّ إصرار إسرائيل على ضم أجزاء من الضفة الغربية والأغوار سيؤدي إلى "صدام كبير مع المملكة الأردنية الهاشمية".
توتر العلاقات الأردنية الإسرائيلية ليس جديداً، فمنذ أعوام وهنالك ما يشبه "الحرب الديبلوماسية" بين الملك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقد سبق ذلك بقرابة ستة أشهر تصريح للملك (في جلسة حوارية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي يمثّل اللوبي الصهيوني في أميركا)، بأنّ العلاقة مع إسرائيل "في أسوأ حالاتها".
وعند سؤال الملك عن معاهد السلام الأردنية الإسرائيلية (في مقابلة دير شبيغل)، عما إذا كانت ستوضع مرّة أخرى على الطاولة، أجاب إنّ الأردن سيبحث الخيارات كافّة، ولم يستبعد إعادة النظر في جوهر عملية السلام مع إسرائيل، وهو الأمر الذي كان يعتبر بمثابة مسلّمةٍ في دوائر القرار الإسرائيلي، أي أنّ الأردن لن يفكّر بهذا الخيار ولن يبحثه.
إذاً ما هي الرسائل التي تقف وراء تصريحات الملك غير التقليدية؟ الجواب يكمن في أنّ الأردن، بالفعل، يرى في خطة السلام الأميركية التي أعلنها قبل أشهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأُطلق عليها صفقة القرن، بمثابة تهديد للأمن الوطني الأردني، لأنّها تلغي عملياً أي معنىً للحلم الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة، ذات سيادة، وهي بذلك تعيد إحياء الهواجس الأردنية مما يسمى بـ"الخيار الأردني" أو "الوطن البديل".
ليس سرّاً أنّ هناك اليوم صوتاً إسرائيلياً أكثر وضوحاً وقوةً يتحدّث عن الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين. وما لم يقله الديبلوماسيون الأردنيون صراحةَ أنّ الرئيس ترامب قد لمّح، في أكثر من مناسبة، إلى هذا الخيار، وهو الأمر الذي أكّد الملك في جلسات مغلقة وتصريحات علنية، ومن ضمنها لاءاته الثلاث (لا لنقل السفارة الأميركية للقدس، لا للوطن البديل، لا لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن)، على رفضه مبدئياً.
عندما تمّ الإعلان عن صفقة القرن، كانت دوائر القرار في عمّان تضع الاحتمالات والسيناريوهات، وتقلّب الخيارات والبدائل، وكان الهاجس الأكبر في تصعيد الضغوط الأميركية على الأردن واستثمار الاختراق الإسرائيلي للمحيط العربي لعزل الموقف الأردني ديبلوماسياً، وكان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، خلال تلك الفترة، في ما يشبه "الحرب الديبلوماسية" المفتوحة، من أجل ترصيص الموقف العربي وتحجيم الاختراق، والتأثير على الموقف الأوروبي لرفض الخطوات الأميركية وأي خطوات إسرائيلية أحادية الجانب.
وعلى الرغم من أنّ وباء كورونا "فرمل" شهية الرئيس ترامب للمسارعة في تطبيق الخطة، عشية الانتخابات الأميركية إرضاءً للوبي الصهيوني، إلا أنّ نتنياهو، الذي نجح في البقاء والاستمرار، أظهر عزيمته الصلبة والصارمة لضم أراضي الضفة والأغوار، وإغلاق الطريق أمام الأردن والسلطة الفلسطينية في إجهاض الخطة الأميركية.
لموقف اليوم أكثر خطورة على أرض الواقع، ففي مواجهة التهديد الوجودي للسلطة الفلسطينية، اتخذت الأخيرة قراراً بوقف التنسيق الأمني كاملاً مع الإسرائيليين، والتحدّي، فعلياً، في جدّية التطبيق. أمّا الرسالة فكانت الوصول بالوضع الراهن إلى "حافّة الهاوية".
ولكن ما هي الخيارات الفلسطينية والإسرائيلية والأردنية المترتبة على هذه التحولات العميقة؟ فلسطينياً، تعزّزت القناعة لدى الرئيس محمود عباس والسلطة بأنّ الأمور وصلت إلى ما يقارب خط النهاية، وأنّ المشروع الإسرائيلي المدعوم أميركياً ليس فقط "أقل من دولة فلسطينية"، بل قد يكون، كما لمّح أحد المحللين الإسرائيليين، هو مشروع "الإمارات الفلسطينية"، أو الجزر السكانية المعزولة، أو بعبارة أدق "البلديات الفلسطينية" والحكم الذاتي. وهنا بيت القصيد، فالملك يعلم تماماً أنّ هذا السيناريو الذي بات الأقوى، في ظل ممانعة السلطة الخطة الأميركية - الإسرائيلية، يعني انهيار السلطة الفلسطينية، أو نهايتها، وعملياً إعلان وفاة اتفاقية أوسلو، وهو الأمر الذي ربما يكون قد حرّك مخاوف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي تكشف وثائق أنّها تعارض مخططات نتنياهو، لأنّها قد تشعل الضفة الغربية، وتعيد الجميع إلى "المربع الأول"، وتعزّز من احتمالات الانتفاضة الشعبية، وعودة العمل المسلّح إلى الضفة وتبديد النعيم الإسرائيلي مع "احتلال الديلوكس" حالياً!
عندئذٍ ما معنى اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية؟ وما قيمتها؟ فالأردن لم يوقع معاهدة السلام إلّا بعدما وقع الفلسطينيون على تسويةٍ مع إسرائيل. ومن ناحية أخرى، انهيار السلطة وحدوث الفوضى في الأراضي المحتلة بالضرورة سيؤثران على الأردن من أكثر من اتجاه، سواء عبر الحالة الشعبية الداخلية التي ستتصاعد ضد إسرائيل، وسيكون احتفاظ الأردن بالسلام غير منطقي ولا واقعي، وسيعزّز هذا الوضع، في حال وصل إلى صدامات وعمليات، حالة الغليان الداخلي، وسيعطي الشرعية والقوة لكل الأصوات التي شكّكت في الأصل في معاهدات السلام والعلاقة مع الإسرائيليين.
يرسل الملك، عبر هذه اللقاءات، برقيات واضحة إلى الأوروبيين والدوائر الغربية والأميركية، مفادها أنّ الوضع مرشّح للانفجار، وأنّ الاستهتار الذي أبداه الرئيس ترامب، ولا يزال، تجاه تصريحات الملك المتتالية، بخاصة عشية الإعلان عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ينمّ عن حالةٍ من العمى لمآل مثل هذه الخطط وخطورتها على أمن المنطقة بأسرها... وفي المجمل، واضح أنّ هنالك قراءات حقيقية لسيناريوهات خطيرة هي التي رفعت الخطاب الملكي إلى هذا المستوى من التصعيد، ودفعت معه رسائل عديدة إلى العالم بأنّ تمرير الصفقة الأميركية بالقوة لن يؤدي إلا إلى تفجير الحالة الفلسطينية، بل ربما المنطقة برمّتها.
العربي الجديد
توتر العلاقات الأردنية الإسرائيلية ليس جديداً، فمنذ أعوام وهنالك ما يشبه "الحرب الديبلوماسية" بين الملك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقد سبق ذلك بقرابة ستة أشهر تصريح للملك (في جلسة حوارية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي يمثّل اللوبي الصهيوني في أميركا)، بأنّ العلاقة مع إسرائيل "في أسوأ حالاتها".
وعند سؤال الملك عن معاهد السلام الأردنية الإسرائيلية (في مقابلة دير شبيغل)، عما إذا كانت ستوضع مرّة أخرى على الطاولة، أجاب إنّ الأردن سيبحث الخيارات كافّة، ولم يستبعد إعادة النظر في جوهر عملية السلام مع إسرائيل، وهو الأمر الذي كان يعتبر بمثابة مسلّمةٍ في دوائر القرار الإسرائيلي، أي أنّ الأردن لن يفكّر بهذا الخيار ولن يبحثه.
إذاً ما هي الرسائل التي تقف وراء تصريحات الملك غير التقليدية؟ الجواب يكمن في أنّ الأردن، بالفعل، يرى في خطة السلام الأميركية التي أعلنها قبل أشهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأُطلق عليها صفقة القرن، بمثابة تهديد للأمن الوطني الأردني، لأنّها تلغي عملياً أي معنىً للحلم الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة، ذات سيادة، وهي بذلك تعيد إحياء الهواجس الأردنية مما يسمى بـ"الخيار الأردني" أو "الوطن البديل".
ليس سرّاً أنّ هناك اليوم صوتاً إسرائيلياً أكثر وضوحاً وقوةً يتحدّث عن الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين. وما لم يقله الديبلوماسيون الأردنيون صراحةَ أنّ الرئيس ترامب قد لمّح، في أكثر من مناسبة، إلى هذا الخيار، وهو الأمر الذي أكّد الملك في جلسات مغلقة وتصريحات علنية، ومن ضمنها لاءاته الثلاث (لا لنقل السفارة الأميركية للقدس، لا للوطن البديل، لا لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن)، على رفضه مبدئياً.
عندما تمّ الإعلان عن صفقة القرن، كانت دوائر القرار في عمّان تضع الاحتمالات والسيناريوهات، وتقلّب الخيارات والبدائل، وكان الهاجس الأكبر في تصعيد الضغوط الأميركية على الأردن واستثمار الاختراق الإسرائيلي للمحيط العربي لعزل الموقف الأردني ديبلوماسياً، وكان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، خلال تلك الفترة، في ما يشبه "الحرب الديبلوماسية" المفتوحة، من أجل ترصيص الموقف العربي وتحجيم الاختراق، والتأثير على الموقف الأوروبي لرفض الخطوات الأميركية وأي خطوات إسرائيلية أحادية الجانب.
وعلى الرغم من أنّ وباء كورونا "فرمل" شهية الرئيس ترامب للمسارعة في تطبيق الخطة، عشية الانتخابات الأميركية إرضاءً للوبي الصهيوني، إلا أنّ نتنياهو، الذي نجح في البقاء والاستمرار، أظهر عزيمته الصلبة والصارمة لضم أراضي الضفة والأغوار، وإغلاق الطريق أمام الأردن والسلطة الفلسطينية في إجهاض الخطة الأميركية.
لموقف اليوم أكثر خطورة على أرض الواقع، ففي مواجهة التهديد الوجودي للسلطة الفلسطينية، اتخذت الأخيرة قراراً بوقف التنسيق الأمني كاملاً مع الإسرائيليين، والتحدّي، فعلياً، في جدّية التطبيق. أمّا الرسالة فكانت الوصول بالوضع الراهن إلى "حافّة الهاوية".
ولكن ما هي الخيارات الفلسطينية والإسرائيلية والأردنية المترتبة على هذه التحولات العميقة؟ فلسطينياً، تعزّزت القناعة لدى الرئيس محمود عباس والسلطة بأنّ الأمور وصلت إلى ما يقارب خط النهاية، وأنّ المشروع الإسرائيلي المدعوم أميركياً ليس فقط "أقل من دولة فلسطينية"، بل قد يكون، كما لمّح أحد المحللين الإسرائيليين، هو مشروع "الإمارات الفلسطينية"، أو الجزر السكانية المعزولة، أو بعبارة أدق "البلديات الفلسطينية" والحكم الذاتي. وهنا بيت القصيد، فالملك يعلم تماماً أنّ هذا السيناريو الذي بات الأقوى، في ظل ممانعة السلطة الخطة الأميركية - الإسرائيلية، يعني انهيار السلطة الفلسطينية، أو نهايتها، وعملياً إعلان وفاة اتفاقية أوسلو، وهو الأمر الذي ربما يكون قد حرّك مخاوف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التي تكشف وثائق أنّها تعارض مخططات نتنياهو، لأنّها قد تشعل الضفة الغربية، وتعيد الجميع إلى "المربع الأول"، وتعزّز من احتمالات الانتفاضة الشعبية، وعودة العمل المسلّح إلى الضفة وتبديد النعيم الإسرائيلي مع "احتلال الديلوكس" حالياً!
عندئذٍ ما معنى اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية؟ وما قيمتها؟ فالأردن لم يوقع معاهدة السلام إلّا بعدما وقع الفلسطينيون على تسويةٍ مع إسرائيل. ومن ناحية أخرى، انهيار السلطة وحدوث الفوضى في الأراضي المحتلة بالضرورة سيؤثران على الأردن من أكثر من اتجاه، سواء عبر الحالة الشعبية الداخلية التي ستتصاعد ضد إسرائيل، وسيكون احتفاظ الأردن بالسلام غير منطقي ولا واقعي، وسيعزّز هذا الوضع، في حال وصل إلى صدامات وعمليات، حالة الغليان الداخلي، وسيعطي الشرعية والقوة لكل الأصوات التي شكّكت في الأصل في معاهدات السلام والعلاقة مع الإسرائيليين.
يرسل الملك، عبر هذه اللقاءات، برقيات واضحة إلى الأوروبيين والدوائر الغربية والأميركية، مفادها أنّ الوضع مرشّح للانفجار، وأنّ الاستهتار الذي أبداه الرئيس ترامب، ولا يزال، تجاه تصريحات الملك المتتالية، بخاصة عشية الإعلان عن نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ينمّ عن حالةٍ من العمى لمآل مثل هذه الخطط وخطورتها على أمن المنطقة بأسرها... وفي المجمل، واضح أنّ هنالك قراءات حقيقية لسيناريوهات خطيرة هي التي رفعت الخطاب الملكي إلى هذا المستوى من التصعيد، ودفعت معه رسائل عديدة إلى العالم بأنّ تمرير الصفقة الأميركية بالقوة لن يؤدي إلا إلى تفجير الحالة الفلسطينية، بل ربما المنطقة برمّتها.
العربي الجديد