كتاب ومؤلف: أمين محمود .. بين الترتيل التلحمي والبرية التعمرية
أحمد سلامة
القبة نيوز- لعل من الفنون التي أسهمت تكنولوجيا العلوم المعاصرة الخاصة في الاتصال في دحرها والتواطؤ على قيمتها، لعل من أهم تلك الفنون فن عرض الكتاب أو ما يعرف باستعراض أو تقديم الكتب الحديثة.
ومن المفارقات الغريبة التي أورثتها العولمة لمناهج البحث والتدريس هو عدم التلفت بعناية لصور الكتاب المطبوع حديثا . وقد أضحى تسويق الكتاب معتمداً بالدرجة الأولى على ما يثيره من مفاجآت وزوابع تثير صدمات لدى القارئ بغض النظر عن قيمتها العلمية ، كما أن البحث العلمي لم يعد بقادرعلى تسويق الأفكار البحثية دون الاستعانة بأدوات تكنولوجيا الاتصال الحديثة من ترويج وإعلان وتسويق.
بقي القول أن الكتاب كمفهوم تقليديٍ (خير جليسٍ في الزمان ) سيظل قادراً في الدفاع عن نفسه إن توفرت له العناصر الثلاثة التالية :
1- رزانة البحث العلمي
2- قدرة الباحث على الإتيان بجديد مؤصلاً وموثقاً ومدهشاً في علميته
والأمر الثالث ، شخص الباحث إذ أن شخص الباحث يشكل هوية البحث نفسه، ومن آخر نقطة أعني شخص الباحث أبدأ .
أدلف اليوم إلى بوابة من بوابات المباهاة التي أحرص على التشبث بها حين أكتب ذلك أن (الكتابة المتقاعدة) إذا التعبير قُبل تتسم بالبحث عن حافز عاطفي أو دافع أكاديمي أو وفاء شخصي كي تسترد الكتابة لحظة التقاعد من التقاعد ، و بهذا فإنني أعلن صراحة ً أن السفر الجديد الذي داهمني به أستاذي الذي أحرص على المفاخرة بأستاذيته وصديقي الذي أدعو الله له بطول العمر وبالصحة أستاذي الدكتور أمين محمود .
تشرفت بأن حظيت من الدكتور أمين محمود بنسخة من كتابه الجديد الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل ، الكتاب في طبعته الأولى الصادرة عن مؤسسة عَين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية سنة (2013 ) وأهداه الدكتور أمين إلى ذكرى والديه وفي ذلك ما سأعود إليه لاحقاً .
العذر من القارئ بإنني وعدت النفس أن لا أكتب عن أشخاص بعينهم بعد التجارب الصحفية المريرة التي حملتني أوزاراً تنوء بها الجبال، إذ كنت أكتب دائماً بعاطفتي عن الناس و كانت تفهم الدوافع و النوايا في ذلك خطأ من كل الناس، ولهذا هجرت هذا النوع من الصحافة (بورتريه). و بعد مرور ما يزيد عن سنين سبع هجرت الصحافة فيها و هجرتني- و تلك قصة أخرى سنكتب فيها ذات يوم- وجدت نفسي متحمساً لكتابة بورتريه عن كاتب و كتاب ؛ و أرجو الله أن لا أكررها.
لا تستقيم قراءة أي كتاب دون النظر بعناية وعمق إلى كاتبه ولهذا فإن جعفر بن يحيى الذي كان مؤدباً لهارون الرشيد قد نصحه ذات لحظة فكرية عارمة بالقول (ثلاثة تدلُ على صاحبها : (الهدية والكتاب والرسول) لقد كان قول جعفر من الحكم التي أحرص على تردادها وتذكرها في كل لحظة ٍ في حياتي ، وإذا كان الكتاب يدل على صاحبه فإن روح الكاتب وعلوّ همته تؤشران على مدى قيمة الكتاب !
على أول السطر أبدأ بأمين محمود المؤلف وأمين محمود الأستاذ قبل أن أتحدث عن الكتاب نفسه .
علمني منذ أربعين عاماً أول حروف الحب للفكر والسياسة ومنذ أربعين عاماً وأنا أعرف أمين محمود في الأربعين لم تهده الكهولة بل مدته بحكمة الحروف وشغفه بالعلم وظلَّلت معاينته آيات من الصبر والحكمة الوقورة. لا أستطيع التحدث بإذعان المعجبين بعد أن انتهيت من قراءة كتاب الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل دون أن أتحدث عن أمين ،أمين عبدالله محمود التعمري بروفيسور جورج تاون الذي تحدر من أسرة ثابرت على العلم وصنع نموذجاً للأستاذية التي تقوم على أركانٍ ثلاثة: التحدي في قهر الظروف، والوطنية التي تعني المواطنة التزاماً بحقوقها وواجباتها ، وثالثاً قدرتِه الخارقة -أي أمين- على تبسيط العلم بحيث يعطي مضمون العلم في ما يقول نكهة فلاح يصنع معجزة الزرع الخصب فيجعل من الأرض البُوّار غابة من علم.
أمين محمود دخل إلى قاعة الدرس في كلية الآداب ضيفاً من كلية التجارة قسم العلوم السياسية عام (1974) كنا شيئاً وعشرين يتلوا علينا درساً في القضية الفلسطينية .
كان يومها أمين محمود ظاهرة أربكتنا نحن طلبة اليسار في الجامعات فكل مضامينه كانت كلها يسار ولكنه يدرك دوماً باستنتاجاته الخط المحافظ.
كان يحببك في فلسطين بطريقته التي تقوم على استرداده الفذ للهجة تَلْحَمية (نسبة إلى بيت لحم) تثير دهشة المستمع في قدرته نطق المخارج على طريقة قباب فلسطين القديمة ومنازل بيت لحم الدهرية ويلح عليك في ذلك أمين حتى ترى كنيسة المهد تتلألأ بين يديه وكأنه يخترق حاجز الوهم وحاجز الاحتلال فيرتل فلسطينية لطلبته وكنت منهم وكأنه يضع (كرزة ) الآحاد في كنيسة المهد .
كان أمين فلسطينيَّ القلب أردني الهالة وأردني التوجه و عربي العماد وفي ذلك ما كان يحيرنا وكان أمين أيضاً صهر ذلك الأكاديمي العملاق الدكتور سري ناصر الذي أعيى المجتمع الأردني بمبادراته الاجتماعية المذهلة في سبعينيات القرن الماضي. كان أمين قريبا من الدكتور سري حدَّ التلاصق ولكنه كان بعيداً عنه في المنهج وفي التناول حدَّ التنائي . نسيت أن أقول كان أمين طويلا ونحيفا كنشيد ساحلي وكان يدخل قاعة الدرس مدججاً دوما بشيئين لا يفارقانه علبة سجائره الفيلادلفيا الحمراء الطويلة - ولم أعد أذكر إن كان يدخن في الفصل أم لا- لكنه كان مخلصاً لسيجارته وتلك واحدة من خصال ومزايا سبعينيات القرن الماضي بقي في محاولة استذكار لتلك الشخصية المريدة التي أعجبتنا وأقلقتنا وحيرتنا في تلك الحقبة ، حقبة الجامعة الأردنية في السبعينيات ،شلة أو مجموعة أساتذة العلوم السياسية: منذر عنبتاوي رحمه الله -أكثرهم وسامة وارستقراطية وثراءً، و فوزي غرايبة الذي ترأسها (الجامعة الأردنية) فيما بعد و فتح دروب العلم الأكاديمي لاقتصاد الضفة الغربية و دفع بالبحث الوقور فرية الهويات المتنافسة بين الضفتين، ومحمد الحلاج أكثرهم جرأة في نقده لأنظمة الحكم العربية وقت ذاك ومن ضمنها النظام الأردني نفسه، ومحمد يوسف علوان الذي كان ينثر عبق السوربون بروح البروفيسور الحنون لكنه قانوني حانق، وسري ناصر ملهم المجتمع الأردني في معنى العمل التطوعي والخدمة العامة ، وابراهيم عثمان
الذي علم جيلاً بأكمله بصبرٍ وأناة وحب معنى البحث العلمي وطرقه .
الله على عبدالسلام المجالي الذي ظلل برئاسته التي لم تتكرر أبداً في الأردن كل هذا الإبداع .
كان أمين في قلب القلب مما أسميت جلسة نادي الأساتذة ،تلك الجلسة التي صنعت أرقى الحوارات بين سيدنا الحسين رحمه الله والجامعة الأردنية أساتذة وطلبة واداريين. كان نادي الجامعة الأردنية مثل نادي القضاة في مصر مثل كل النوادي التي تصنع حزام أمانٍ لأعضائها ، ولما وقف ذات يوم حسن سعود النابلسي وقال للحسين رحمه الله: (أنا خجل وحزين لأنني لم أقدم لأمتي في جيلي ما كان يجب أن أقدمه) ورد عليه الحسين رحمه الله : (أنا لست خجلأ بما قدمته لكنني أسعى إلى تقديم المزيد) .
هذا المناخ هو المناخ الذي كان فيه أمين محمود في قلب القلب ثم مشت به الحياة وبنا صار رئيساً لعدة جامعات وخبيراً في التعليم العالي ووزيراً في حكومات عدة. لست أدري إن كان من باب الأدب أن أقول أن واقعة سأرويها تصلح أو تبرر كتابتي اليوم عن الدكتور أمين محمود وليس عن كتابه فقط، و ذلك وفاء و احساساً بعقدة الذنب .
كان الأستاذ الدكتور أمين محمود وزيراً للثقافة في حكومة الأستاذ الدكتور عبدالسلام المجالي أطال الله في عمره مفخرة الأردن في حكومته الأولى . وقبل توقيع معاهدة السلام كان التوجه أن يتم تعديلٌ شامل على حكومة (الباشا) لتضمن الحكومة راحة ً في تعاطيها مع معاهدة السلام برلمانياً. و أوكلت المهمة في ذلك الحين لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال حفظه الله وكنت أحد أفراد بطانته. وفي مساء أحد الأيام تحلقنا من حول سمو الأمير الحسن لإعانته في تلك المهمة الصعبة. في حينها استلم سموه رسالة من رئيس الحكومة تتضمن عشرة أسماء وفيها اسم الدكتور أمين محمود الذي كان أصلاً وزيرا للثقافة وأضيف اسم محمد سالم ذويب وهو كان نائبا في البرلمان، و التوجه في تلك اللحظة أقر إدخال برلمانيين للحكومة . سألني سمو الأمير الحسن الرأي وبدون مواربة في إخفاء النوايا كنت أسعى بأية صورة كي يكون أحد أهم رموز الوطنية الأردنية و أهم أستاذ لي في الإعلام المرحوم الحاج جمعة حمّاد وزيراً، ولاحت لي الفرصة فجأة حين وجدت اثنين من قبيلة واحدة مرشحين للوزارة فتساءلت أمام سمو الأمير الحسن: ما الحكمة الهاشمية يا سيدي في أن يكون لعشيرة واحدة غربيّ النهر أكثر من وزير، فسأل سموه مستنكرا من هي هذه العشيرة. فقلت له بصراحة إن عشائر بئر السبع أكثر عدداً من عشائر التعامرة ويستحقون التمثيل في الوزارة. و لم يكن يخطر على بالي أن أستاذي الدكتور أمين سيكون ضحية اجتهادي ذلك .. النتيجة أُخرج الدكتور أمين وأدخل الحاج جمعة حمّاد والنائب ذويب ؛ وتلك قصة أخرى . و لم يعرف الدكتور أمين سبب خروجه حينذاك إلا بعد سنوات كانت كفيلة بكشف بعض أسرار المقر السامي.
من المهم أن أقول أنني تعلمت على يدي الدكتور أمين علماً كان دوماً نافعاً لي ، لكنني تعلمت على كتبه أكثر وقد أجازف من دون أدنى تردد بالقول أن كتبا معدودة في حياة المرء تحفر فيه عمقاً جديداً لا ينسى.
وقد كان كتاب الدكتور أمين محمود في مشاريع الاستيطان اليهودي الذي صدر عن عالم المعرفة في التسعينات قد ترك فيَّ وعيا ومعرفة سأظل مديناً لها على مدى الوعي. وأقول بكل ثناء أن بحث الدكتور أمين محمود في مشاريع الاستيطان اليهودية في فلسطين لم يسبقه في فائدتها أحد ولم يدانيه من بعده باحث. وقد عدت مؤخراً إلى كتاب للدكتور أمين هو الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل فوجدت أن الكتاب قد فتح عليَّ باب التوضيح والمعرفة لإيجاد جواب علمي للسؤال المقلق: لماذا يصر اليهود وقادتهم على يهودية الدولة ؟ إن القراءة المتأنية للبحث الدقيق لجذور(العمل العبري ) الذي تتبعه الدكتور أمين منذ عام (1920) في كتابه الجديد يجيب كل مهتم ودارس لماذا يهودية الدولة؟ أما بالنسبة للفصل الذي خصصه الدكتور أمين للمسألة اليهودية فقد حل لغز لماذا نجحت اليهودية في تحويل المسألة اليهودية إلى قضية يهودية وقضية دولية وقضية إنسانية. كما أن الفصل الذي خصصه الدكتور أمين للدعم السوفييتي لاسرائيل خلال عام (1948) يؤشر على الرهانات الخاسرة والرابحة للشعوب والأمم و الاستخلاص الخطير الذي أدركه الباحث من أن كل مشروع الدولة اليهودية كان مشروع النجاح في إدارة الأزمة وليس مشروع النجاح في تكريس الدولة .
في الكتاب الجديد أستطيع الزعم بأن من قال (الدهن في العتاقي) كان يقصد فيما يبدو كتاب الدكتور أمين محمود " الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل " ، ذلك أن ما كثفه أمين من خبرة معرفية و من تعاطي بالمنهج العلمي الوقور يعطي القارئ فرصة للتبصر بخلفيات الأزمة اليهودية و تحولها إلى قضية رابحة ناجحة و في ذلك درس و حكمة.
أخيراً، في هذا الاستعراض غير الأكاديمي البحت أحببت أن أنتهي منه بالتوقف على علاقة البحث بمراجعه.
إن المراجع والمصادر التي طوعها أمين محمود لحشد وقائع و حقائق من التاريخ لإثبات وجهات نظره تعكس روحه المتوثبة و التي لم تفتر بحكم العمر و لا بحكم المشاغلة بالهموم اليومية المحيطة بل إنه توفر على شكل يستحق الثناء و الإكبار في انتخابه المراجع الدولية و العربية التي شكلت المادة الوفيرة و الناجحة لهذا الكتاب.
إن ما يجب أن يتم لفت النظر إليه افتقار وسائل الاتصال الحديثة، خاصة في نطاق محلياتنا العربية، افتقارها إلى الاهتمام بترويج الكتب ذات القضايا التي لم تزل حارة و ممتدة بين الأمس و اليوم و ستظل كذلك غداً.
إن تجربة تحويل (التاريخ) من حكايا تطرب أو تحزن إلى علم استخلاصي يصح أن يكون اشارة علمٍ على القادم من أيامنا، تلك تجربة صعبة لا يستطيع أن يفوز بها أو يعبر (سم خياطها) إلا علماء التاريخ أنفسهم. و أشهد الله أنني استمتعت بكتاب أمين محمود علماً ناجزاً ينتفع به.
شكراً للأستاذ الذي علمنا فيما مضى و يصر على أن يعلمنا و نحن كهولاً، و أطال الله في عمره و متعه بصحة يستحقها و ندعو له بها كي يظل قادراً أن يمدنا بما لا يقطعه عن العطاء في حياته.
و هذا كتاب أعتقد أنه ينطبق عليه الصدقة الجارية و العلم الذي ينتفع به..
اقرأوا كتاب الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل!
ومن المفارقات الغريبة التي أورثتها العولمة لمناهج البحث والتدريس هو عدم التلفت بعناية لصور الكتاب المطبوع حديثا . وقد أضحى تسويق الكتاب معتمداً بالدرجة الأولى على ما يثيره من مفاجآت وزوابع تثير صدمات لدى القارئ بغض النظر عن قيمتها العلمية ، كما أن البحث العلمي لم يعد بقادرعلى تسويق الأفكار البحثية دون الاستعانة بأدوات تكنولوجيا الاتصال الحديثة من ترويج وإعلان وتسويق.
بقي القول أن الكتاب كمفهوم تقليديٍ (خير جليسٍ في الزمان ) سيظل قادراً في الدفاع عن نفسه إن توفرت له العناصر الثلاثة التالية :
1- رزانة البحث العلمي
2- قدرة الباحث على الإتيان بجديد مؤصلاً وموثقاً ومدهشاً في علميته
والأمر الثالث ، شخص الباحث إذ أن شخص الباحث يشكل هوية البحث نفسه، ومن آخر نقطة أعني شخص الباحث أبدأ .
أدلف اليوم إلى بوابة من بوابات المباهاة التي أحرص على التشبث بها حين أكتب ذلك أن (الكتابة المتقاعدة) إذا التعبير قُبل تتسم بالبحث عن حافز عاطفي أو دافع أكاديمي أو وفاء شخصي كي تسترد الكتابة لحظة التقاعد من التقاعد ، و بهذا فإنني أعلن صراحة ً أن السفر الجديد الذي داهمني به أستاذي الذي أحرص على المفاخرة بأستاذيته وصديقي الذي أدعو الله له بطول العمر وبالصحة أستاذي الدكتور أمين محمود .
تشرفت بأن حظيت من الدكتور أمين محمود بنسخة من كتابه الجديد الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل ، الكتاب في طبعته الأولى الصادرة عن مؤسسة عَين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية سنة (2013 ) وأهداه الدكتور أمين إلى ذكرى والديه وفي ذلك ما سأعود إليه لاحقاً .
العذر من القارئ بإنني وعدت النفس أن لا أكتب عن أشخاص بعينهم بعد التجارب الصحفية المريرة التي حملتني أوزاراً تنوء بها الجبال، إذ كنت أكتب دائماً بعاطفتي عن الناس و كانت تفهم الدوافع و النوايا في ذلك خطأ من كل الناس، ولهذا هجرت هذا النوع من الصحافة (بورتريه). و بعد مرور ما يزيد عن سنين سبع هجرت الصحافة فيها و هجرتني- و تلك قصة أخرى سنكتب فيها ذات يوم- وجدت نفسي متحمساً لكتابة بورتريه عن كاتب و كتاب ؛ و أرجو الله أن لا أكررها.
لا تستقيم قراءة أي كتاب دون النظر بعناية وعمق إلى كاتبه ولهذا فإن جعفر بن يحيى الذي كان مؤدباً لهارون الرشيد قد نصحه ذات لحظة فكرية عارمة بالقول (ثلاثة تدلُ على صاحبها : (الهدية والكتاب والرسول) لقد كان قول جعفر من الحكم التي أحرص على تردادها وتذكرها في كل لحظة ٍ في حياتي ، وإذا كان الكتاب يدل على صاحبه فإن روح الكاتب وعلوّ همته تؤشران على مدى قيمة الكتاب !
على أول السطر أبدأ بأمين محمود المؤلف وأمين محمود الأستاذ قبل أن أتحدث عن الكتاب نفسه .
علمني منذ أربعين عاماً أول حروف الحب للفكر والسياسة ومنذ أربعين عاماً وأنا أعرف أمين محمود في الأربعين لم تهده الكهولة بل مدته بحكمة الحروف وشغفه بالعلم وظلَّلت معاينته آيات من الصبر والحكمة الوقورة. لا أستطيع التحدث بإذعان المعجبين بعد أن انتهيت من قراءة كتاب الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل دون أن أتحدث عن أمين ،أمين عبدالله محمود التعمري بروفيسور جورج تاون الذي تحدر من أسرة ثابرت على العلم وصنع نموذجاً للأستاذية التي تقوم على أركانٍ ثلاثة: التحدي في قهر الظروف، والوطنية التي تعني المواطنة التزاماً بحقوقها وواجباتها ، وثالثاً قدرتِه الخارقة -أي أمين- على تبسيط العلم بحيث يعطي مضمون العلم في ما يقول نكهة فلاح يصنع معجزة الزرع الخصب فيجعل من الأرض البُوّار غابة من علم.
أمين محمود دخل إلى قاعة الدرس في كلية الآداب ضيفاً من كلية التجارة قسم العلوم السياسية عام (1974) كنا شيئاً وعشرين يتلوا علينا درساً في القضية الفلسطينية .
كان يومها أمين محمود ظاهرة أربكتنا نحن طلبة اليسار في الجامعات فكل مضامينه كانت كلها يسار ولكنه يدرك دوماً باستنتاجاته الخط المحافظ.
كان يحببك في فلسطين بطريقته التي تقوم على استرداده الفذ للهجة تَلْحَمية (نسبة إلى بيت لحم) تثير دهشة المستمع في قدرته نطق المخارج على طريقة قباب فلسطين القديمة ومنازل بيت لحم الدهرية ويلح عليك في ذلك أمين حتى ترى كنيسة المهد تتلألأ بين يديه وكأنه يخترق حاجز الوهم وحاجز الاحتلال فيرتل فلسطينية لطلبته وكنت منهم وكأنه يضع (كرزة ) الآحاد في كنيسة المهد .
كان أمين فلسطينيَّ القلب أردني الهالة وأردني التوجه و عربي العماد وفي ذلك ما كان يحيرنا وكان أمين أيضاً صهر ذلك الأكاديمي العملاق الدكتور سري ناصر الذي أعيى المجتمع الأردني بمبادراته الاجتماعية المذهلة في سبعينيات القرن الماضي. كان أمين قريبا من الدكتور سري حدَّ التلاصق ولكنه كان بعيداً عنه في المنهج وفي التناول حدَّ التنائي . نسيت أن أقول كان أمين طويلا ونحيفا كنشيد ساحلي وكان يدخل قاعة الدرس مدججاً دوما بشيئين لا يفارقانه علبة سجائره الفيلادلفيا الحمراء الطويلة - ولم أعد أذكر إن كان يدخن في الفصل أم لا- لكنه كان مخلصاً لسيجارته وتلك واحدة من خصال ومزايا سبعينيات القرن الماضي بقي في محاولة استذكار لتلك الشخصية المريدة التي أعجبتنا وأقلقتنا وحيرتنا في تلك الحقبة ، حقبة الجامعة الأردنية في السبعينيات ،شلة أو مجموعة أساتذة العلوم السياسية: منذر عنبتاوي رحمه الله -أكثرهم وسامة وارستقراطية وثراءً، و فوزي غرايبة الذي ترأسها (الجامعة الأردنية) فيما بعد و فتح دروب العلم الأكاديمي لاقتصاد الضفة الغربية و دفع بالبحث الوقور فرية الهويات المتنافسة بين الضفتين، ومحمد الحلاج أكثرهم جرأة في نقده لأنظمة الحكم العربية وقت ذاك ومن ضمنها النظام الأردني نفسه، ومحمد يوسف علوان الذي كان ينثر عبق السوربون بروح البروفيسور الحنون لكنه قانوني حانق، وسري ناصر ملهم المجتمع الأردني في معنى العمل التطوعي والخدمة العامة ، وابراهيم عثمان
الذي علم جيلاً بأكمله بصبرٍ وأناة وحب معنى البحث العلمي وطرقه .
الله على عبدالسلام المجالي الذي ظلل برئاسته التي لم تتكرر أبداً في الأردن كل هذا الإبداع .
كان أمين في قلب القلب مما أسميت جلسة نادي الأساتذة ،تلك الجلسة التي صنعت أرقى الحوارات بين سيدنا الحسين رحمه الله والجامعة الأردنية أساتذة وطلبة واداريين. كان نادي الجامعة الأردنية مثل نادي القضاة في مصر مثل كل النوادي التي تصنع حزام أمانٍ لأعضائها ، ولما وقف ذات يوم حسن سعود النابلسي وقال للحسين رحمه الله: (أنا خجل وحزين لأنني لم أقدم لأمتي في جيلي ما كان يجب أن أقدمه) ورد عليه الحسين رحمه الله : (أنا لست خجلأ بما قدمته لكنني أسعى إلى تقديم المزيد) .
هذا المناخ هو المناخ الذي كان فيه أمين محمود في قلب القلب ثم مشت به الحياة وبنا صار رئيساً لعدة جامعات وخبيراً في التعليم العالي ووزيراً في حكومات عدة. لست أدري إن كان من باب الأدب أن أقول أن واقعة سأرويها تصلح أو تبرر كتابتي اليوم عن الدكتور أمين محمود وليس عن كتابه فقط، و ذلك وفاء و احساساً بعقدة الذنب .
كان الأستاذ الدكتور أمين محمود وزيراً للثقافة في حكومة الأستاذ الدكتور عبدالسلام المجالي أطال الله في عمره مفخرة الأردن في حكومته الأولى . وقبل توقيع معاهدة السلام كان التوجه أن يتم تعديلٌ شامل على حكومة (الباشا) لتضمن الحكومة راحة ً في تعاطيها مع معاهدة السلام برلمانياً. و أوكلت المهمة في ذلك الحين لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال حفظه الله وكنت أحد أفراد بطانته. وفي مساء أحد الأيام تحلقنا من حول سمو الأمير الحسن لإعانته في تلك المهمة الصعبة. في حينها استلم سموه رسالة من رئيس الحكومة تتضمن عشرة أسماء وفيها اسم الدكتور أمين محمود الذي كان أصلاً وزيرا للثقافة وأضيف اسم محمد سالم ذويب وهو كان نائبا في البرلمان، و التوجه في تلك اللحظة أقر إدخال برلمانيين للحكومة . سألني سمو الأمير الحسن الرأي وبدون مواربة في إخفاء النوايا كنت أسعى بأية صورة كي يكون أحد أهم رموز الوطنية الأردنية و أهم أستاذ لي في الإعلام المرحوم الحاج جمعة حمّاد وزيراً، ولاحت لي الفرصة فجأة حين وجدت اثنين من قبيلة واحدة مرشحين للوزارة فتساءلت أمام سمو الأمير الحسن: ما الحكمة الهاشمية يا سيدي في أن يكون لعشيرة واحدة غربيّ النهر أكثر من وزير، فسأل سموه مستنكرا من هي هذه العشيرة. فقلت له بصراحة إن عشائر بئر السبع أكثر عدداً من عشائر التعامرة ويستحقون التمثيل في الوزارة. و لم يكن يخطر على بالي أن أستاذي الدكتور أمين سيكون ضحية اجتهادي ذلك .. النتيجة أُخرج الدكتور أمين وأدخل الحاج جمعة حمّاد والنائب ذويب ؛ وتلك قصة أخرى . و لم يعرف الدكتور أمين سبب خروجه حينذاك إلا بعد سنوات كانت كفيلة بكشف بعض أسرار المقر السامي.
من المهم أن أقول أنني تعلمت على يدي الدكتور أمين علماً كان دوماً نافعاً لي ، لكنني تعلمت على كتبه أكثر وقد أجازف من دون أدنى تردد بالقول أن كتبا معدودة في حياة المرء تحفر فيه عمقاً جديداً لا ينسى.
وقد كان كتاب الدكتور أمين محمود في مشاريع الاستيطان اليهودي الذي صدر عن عالم المعرفة في التسعينات قد ترك فيَّ وعيا ومعرفة سأظل مديناً لها على مدى الوعي. وأقول بكل ثناء أن بحث الدكتور أمين محمود في مشاريع الاستيطان اليهودية في فلسطين لم يسبقه في فائدتها أحد ولم يدانيه من بعده باحث. وقد عدت مؤخراً إلى كتاب للدكتور أمين هو الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل فوجدت أن الكتاب قد فتح عليَّ باب التوضيح والمعرفة لإيجاد جواب علمي للسؤال المقلق: لماذا يصر اليهود وقادتهم على يهودية الدولة ؟ إن القراءة المتأنية للبحث الدقيق لجذور(العمل العبري ) الذي تتبعه الدكتور أمين منذ عام (1920) في كتابه الجديد يجيب كل مهتم ودارس لماذا يهودية الدولة؟ أما بالنسبة للفصل الذي خصصه الدكتور أمين للمسألة اليهودية فقد حل لغز لماذا نجحت اليهودية في تحويل المسألة اليهودية إلى قضية يهودية وقضية دولية وقضية إنسانية. كما أن الفصل الذي خصصه الدكتور أمين للدعم السوفييتي لاسرائيل خلال عام (1948) يؤشر على الرهانات الخاسرة والرابحة للشعوب والأمم و الاستخلاص الخطير الذي أدركه الباحث من أن كل مشروع الدولة اليهودية كان مشروع النجاح في إدارة الأزمة وليس مشروع النجاح في تكريس الدولة .
في الكتاب الجديد أستطيع الزعم بأن من قال (الدهن في العتاقي) كان يقصد فيما يبدو كتاب الدكتور أمين محمود " الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل " ، ذلك أن ما كثفه أمين من خبرة معرفية و من تعاطي بالمنهج العلمي الوقور يعطي القارئ فرصة للتبصر بخلفيات الأزمة اليهودية و تحولها إلى قضية رابحة ناجحة و في ذلك درس و حكمة.
أخيراً، في هذا الاستعراض غير الأكاديمي البحت أحببت أن أنتهي منه بالتوقف على علاقة البحث بمراجعه.
إن المراجع والمصادر التي طوعها أمين محمود لحشد وقائع و حقائق من التاريخ لإثبات وجهات نظره تعكس روحه المتوثبة و التي لم تفتر بحكم العمر و لا بحكم المشاغلة بالهموم اليومية المحيطة بل إنه توفر على شكل يستحق الثناء و الإكبار في انتخابه المراجع الدولية و العربية التي شكلت المادة الوفيرة و الناجحة لهذا الكتاب.
إن ما يجب أن يتم لفت النظر إليه افتقار وسائل الاتصال الحديثة، خاصة في نطاق محلياتنا العربية، افتقارها إلى الاهتمام بترويج الكتب ذات القضايا التي لم تزل حارة و ممتدة بين الأمس و اليوم و ستظل كذلك غداً.
إن تجربة تحويل (التاريخ) من حكايا تطرب أو تحزن إلى علم استخلاصي يصح أن يكون اشارة علمٍ على القادم من أيامنا، تلك تجربة صعبة لا يستطيع أن يفوز بها أو يعبر (سم خياطها) إلا علماء التاريخ أنفسهم. و أشهد الله أنني استمتعت بكتاب أمين محمود علماً ناجزاً ينتفع به.
شكراً للأستاذ الذي علمنا فيما مضى و يصر على أن يعلمنا و نحن كهولاً، و أطال الله في عمره و متعه بصحة يستحقها و ندعو له بها كي يظل قادراً أن يمدنا بما لا يقطعه عن العطاء في حياته.
و هذا كتاب أعتقد أنه ينطبق عليه الصدقة الجارية و العلم الذي ينتفع به..
اقرأوا كتاب الاتحاد السوفييتي وتأسيس دولة اسرائيل!