"الكرامة" .. "في الصّورة"
إبراهيم السواعير
* نص أدبي للفتيان
اللوحة الأولى
هل أنتَ مستعدٌّ لأن تغادر الإطار؟!.. أقصد أن تدخل الصّورة؟!!... لقد تتبّعتك وأنت تصافح الصّورة فتذهب عنها ثم تعود!... إنّها غضّة، طريّة، خرجت للتوّ من عدسةٍ قديمة!
لا رتوش، لا تزويق، ولا حتّى "لونٌ إضافي"!... صُوري "الثمانون" جميعها التي تصافح الزوّار يومياً تبدو نُسخاً أصيلةً عن هذه الصّورة!!... لم يقبل أحدٌ أن يدخل، يكتفون بنظرةٍ وشيءٍ من الاستذكار ثم يذهبون، أمّا أنت فمنذورٌ للدخول!.. نعم!.. نعم!.. أنت!.. أنت!.. هل تحاول؟!
لم يترك لي القيّمُ على المعرض فرصةً للرّد أو السّؤال، بل واصل حديثه عن عالمٍ يمكن أن أعيشه في دقائق؛ فلن ينتبه أحدٌ، وسأعود إلى صحبي سريعاً من التجربة بذكرى هي الأروع والأحبُّ إليّ في كلّ ما مرّ عليّ!..
لن تخسر شيئاً، ستكون إنساناً آخر، ستعود بـ"إكسير الحياة"... ستحصل على "شهادة" ضدّ الموت، لن تموت!!.. نعم!... ستعيش أبد الدّهر، ستعود برخصة الحياة، أو بشهادة الحياة!.. فرصة لن تتهيّأ لك إن أعرضت عنها، فـ..جرّب!.. جرّب!.. حاولتُ مع كثيرين قبلك، كانوا يرون فيَّ مجنوناً أرهقت عقله الوساوس وصور الموت والحياة التي يهذي بها كلّ يوم!!.. وهذه الوجوه التي أناوب على خدمتها في الصبح والمساء!.. مع أنّ التجربة أشبه ما تكون بحلم!.. حلم، لا أجمل ولا أحلى!.. جرّب!
ولكي يغريني بالتجريب، فرض شروطَه المسبقة، مثل واثقٍ بقوّة عرضه الغريب هذا: لكنّ الدّخول للصّورة يحتاج شروطاً ربّما تكون قاسيةً، ولكنْ، آمل أن تُوَفّق في اجتيازها، أولاً عليك أن تقرر أن تكون داخل التاريخ لا خارجه!.. عليك أن تحب الولوج إلى عرض "النهر"، وألاّ تفرح بالضفاف!...؛.. هذا إلى جانب شروط الثقة بالقوّة والمواجهة والنجاح!.. صعبة!.. أليس كذلك؟!.. كلّ ما تفعله قبل الولوج إلى الدّاخل هو أن تتمثّل ما قلت، وبمجرّد النجاح في التقمّص ستدخل دون صعوبات، وسأكون معك!.. نعم!.. سأكون معك!
اللوحة الثانية
لم أدرِ كيف أغمضتُ عينيَّ على نيّة الدخول إلى الصورة ومغادرة الإطار، وبالطبع فقد تمثّلت نصائحه في أن أدخل التاريخ وأن ألج النهر وألاّ أفرح بالضفاف، لم يجد هو كبير عناء في الدخول، كنّا كطائرينِ نحوم في دوّامةٍ من العتمة، ياااااه!.. لم أكن أعلم أنّ للصورة كلّ هذا العمق!..
طريق التيه طويلٌ طويلٌ طويلٌ للخروج من العتمة باتجاه النّور!.. قال مشفقاً عليّ وأنا ألوم نفسي بسبب تجربة أضعت فيها نفسي وأهلي باتجاهٍ لا أعلمه، وتابع: لا بدّ لكلّ مخاضٍ من آلام، والمهمّ ألا يضيع ما تمثّلتَه قبل مرحلة الولوج، وستحلو بعينك التجربة لتغدو حقيقةً بعد قليل!
مرّت الدّنيا كلّها عليَّ وأنا أرجو لهذا التيه أن ينتهي، والرجل ما بين لائمٍ ومشفقٍ ومعددٍ لفضائل ما بعد التيه، حتّى كان النّور!!
اللوحة الثالثة
أينَ النّور؟!.. وأين إكسير الحياة التي وعدتَ؟!.. لا أرى غير أناسٍ يتجمهرون حول بائعٍ، وآخرين يحررون شهادات ميلادٍ، وحواجز يتدافع عليها الناس!
أنعم النظر، قال، وقد عذرني في سؤالي، سترى حياةً بطولها وعرضها،.. لا بأس، ربّما نستريح في مقهى قريب!..
كان يوماً قائظاً يقلع عين الدّيك، كما نقول، وكان صاحبي قد أدرك ما بي من توجّسٍ وقلقٍ، فأحبّ أن يروّح عنّي وأن يكشف لي عن شيءٍ من قدراته الخارقة: ستظللك طيورٌ في هذا الجوّ الحار، وما هي إلا حركة من أصبعيه، حتى ظللتنا طيورٌ ذات ريشٍ كثيف، اللافت في وجوهها أنّ تفاصيل آدميّة لوجوه المعرض تخللتها، كانت عيون الطيور، أقصد العيون الآدميّة، تكتفي بابتسامةٍ واطمئنان، وفيما أنا أعدُّ الوجوه، أو الطيور، أو العيون- يبدو أنّ الأمر اختلط عليّ- كان ثمّة مرتادون للمقهى تظللهم طيور بينما لا يحظى بهذا المنظر الساحر آخرون، وإذ أدرك صاحبي حيرتي، شرح بأنّ هؤلاء الذين تغلي رؤوسهم من الحرّ لم يشتروا بطاقة حياة أو تُحرر لهم شهادة حياة، وظلّوا على فتورهم هذا يعانون بالرغم مما يشربون!
لم أعِ ما قال، رغم قوّة المنظر الذي لم يخرجني منه إلا استئناف صاحبي الحديث: خدمتنا الطيور لأنّني بادرت مبكراً بقطع(الحصول) شهادة حياة؛ هل تفكّر في قطع شهادة حياة؟!.. تعال!
كان الصّف طويلاً، وكان موظّفٌ ومراجعون متلهّفون لقطع النظام والسرعة في الحصول على شهادات الحياة، حرروا له شهادة حياة!.. يقول الموظّف المسؤول بعد أن تيقّن من أحد المراجعين، الذي أخذ يتفحّص الشهادة غير مصدّقٍ من شدة الفرح، فيما الموظف يلتفت إلى الآخرين مطالباً بأن يصبروا، فلن تغيب شمس اليوم حتى يحصل الجميع على شهادات حياة!
قلت: معنى ذلك أنّ التي في حوزتي إنّما هي شهادة وفاة!!.. لم يُعر صاحبي سؤالي الناقد كثير اهتمامٍ، وقال إنّ شهادة الحياة، وفضلاً عن استخداماتها المعتادة، إلا أنّ الميزة الكبرى التي توفّرها هي مشاهدة مسرحية "المشهد"، التي أخرجها وأمثّل فيها، وستعجبك كثيراً بعد أن تتمكّن من تحرير شهادة الحياة!
كان الحاصلون على شهادة الحياة كأنّما هم في سفر؛ إذ ظلّت دموع أهليهم الممزوجة بالفرح في خطاهم، بينما كانوا هم تغمض أعينهم على أحلامهم بمشاهدة مسرحيّة "المشهد"، وربّما التمثيل فيها، فكانوا مبتسمين أشدّ الابتسام على هذا الحلم الرائع الجميل!
اللوحة الرابعة
دعنا نستخدم بطاقة الحياة الجديدة! قال صاحبي فرحاً بسرعة معاملتي في الحصول عليها، ضعها في الأماكن المخصصة لتُفتح لك الحواجز!
يا الله!.. الكلّ ينحني باحترام!!... هناك أحدهم يبدو أنّه ليس لديه بطاقة حياة!!!!... هيه!.. أنتَ!.. هل تريد مساعدة؟!!.. هل أضعت بطاقة الحياة؟!.... للأسف، لقد أضعتها!!... كيف؟!!... في الطريق!!.. في الطريق؟!!!... نعم!.. في الطريق إلى الحياة!!!.. أردتُ أن أحيا فأضعتُ بطاقة الحياة؟!!.. ليتني!!
لم أفهم هذه المترادفات كثيراً، ولم أعد أفرّق بين الحياة والموت، وفيما الرجل يعرب عن أسفه ممنياً نفسه بأن يقطع في الصباح الباكر شهادة حياة ويتخلّى عن شهادة الوفاة التي بين جوانبه، كان صاحبي قد ثارت أشجانه وهو يردد: البيت!.. البيت!
ذكّرتني بالبيت وأهلي!... قلتُ، فيما هزّ رأسه وقال إنّه يعني بيت الشعر القائل: والناس صنفان: موتىً في حياتهمو/ وآخرون ببطن الأرض أحياءُ!
"المشهد"
يبدو صليل سيوف ووقع حوافر خيل ونداءات وغبار معركة!...بل معارك!... يفتخر صاحبي وهو يطالع المداخل الأربعة نحو مسرحيّة "المشهد"، وفيما الزوّار يبرزون شهادات الحياة ويدخلون مداخل شتّى من أبواب: مؤتة، واليرموك، والكرامة، قُدّر لنا أن نسير في مدخل "الكرامة" باتجاه المسرح الرئيس الذي تؤدّي إليه كلّ المداخل المزيّنة بنقوش وأشعار وهالة من الأهازيج والحداء.
لقد وصلنا إلى القاعة!.. قاعة الشّرف!... تتكوّن المسرحيّة من ثلاثة فصول، ويبدو أننا سنشارك هذه المرّة في مشاهد من فصل "الكرامة"؛ فعلاوةً على كوني مخرجاً للعمل، فأنا أحب التمثيل، وسيكون لك دورٌ كبير في مشاهد حرجة من الكرامة، وقد حشدتُ من معارض كثيرة نخبةً من فرسان المسرحيّة، كنت أنتخبهم من المدارس والجامعات ومن هواة التاريخ، ومن روّاد معارض الصّور الحيّة، كما فعلتُ معك!..
يتأكّد صاحبي قبل موعد العرض من جاهزيّة الصّدور لحفظ التعاليم ولتجسيد معنى والتضحية والاستبسال، وبينما يقدّم وصفاً للمشهد يبرز وصفاً كُتبَ عليه بخطٍّ عريض:
الزمن: 21 آذار 1968
المكان: الكرامة.. بلدة في الأردن...
مؤثثات المشهد: نهر رقراق عذب يسمى نهر الأنبياء
يتأكّد صاحبي، ويدعوني للتأكّد معه، من جاهزية القتال على أرض الكرامة شرقي النهر، والتحام الجيش والفدائيين مع قوّاتٍ مجهّزة عبرت النهر، ليظلّ يحفز الهمم في القتال الذي تشيب لهوله الولدان، مستميتاً في الدفاع والمقاومة، ممزقاً كلّ مناشير العدوّ الرامية إلى النيل من معنوية الأبطال، ليرفع أعلاماً وبيارق على غور الصّافي.... وادي شعيب... العارضة.....ناعور.... الشّونة.....عمان..
أريد لغةً شعريّةً عالية المستوى في وصف الاشتباك الدائر، وبحجم همّة الأبطال!.. يقول صاحبي موجّهاً حديثه للشعراء الذين يظهرون وقد علا صوتهم بالهتاف كلّما أسقط الأبطال طائرةً أو عطّل آليّة!
ثمّ، يمتحن صوتاً ينبعث بقّوةٍ ولهفة من إذاعة شرقي النهر:
"في تمام السّاعة الخامسة والنّصف من صباح اليوم قام جيش العدوّ بشنّ هجوم واسع في منطقة شرق النهر من ثلاث أماكن: جسر داميا وجسر سويمة وجسر الملك حسين.. وقد اشتبكت معها قواتنا بجميع الأسلحة واشتركت الطائرات التابعة للعدو في العمليّة، ودُمّر للعدو حتى الآن أربع دبابات وأعداد من الآليات وما زالت المعركة قائمة بين قوّاتنا وقوّاته حتى هذه اللحظة!".
ثمّ يطالب بأن يتضمّن الصّوت الإذاعيّ سخرية الأبطال من دعوة العدوّ لصحفييه للغداء على مرتفعات أراضي الأبطال ظهر ذلك اليوم!
فجأة، يمتلئ المكان بالحضور، ما بين بطلٍ في "المشهد" أو مشجّعٍ للنزال والاشتباك ومُهللٍ بالنصر، ليكون التجسيد.
لكنْ، يبدو أنّ شيئاً ما قد حصل أثناء التجسيد، المخرج يعطي أوامره بالانسحاب التكتيكي، فيما الجنود ما يزالون يستبسلون!...
يستجيب مخرج المشهد لهذا الخروج البطولي على النّص، وسط زغاريد وأهازيج وصراع حقيقي للبقاء، فيكون النصر، ويرتدّ العدوّ إلى غرب النّهر، وسط ملحمة عظيمة جدّاً تحت عنوان "الكرامة".
اللوحة الخامسة
- هل تريد العودة.. لقد أضاعك أهلك أو استبطأووك؟!!
- قل لهم إنني الآن في الصورة ولست في الإطار!!!... بقيت كثيراً في الإطار... ليتهم يدخلون الصورة ليتعرفوا على سحرها ومفاجآتها ومسرحيّتها.. الإطار ليس غير وصف!.. صدقني الصورة هي الأساس!!!.. قلتُ ذلك، فقال وقد آمن أشدّ الإيمان بي: ولكنّك يجب أن تشرح لهم عن الإطار والصورة!!...
- لا.. اذهب أنت... ودلّهم على الصورة ليتجسدوا فيها....
- لا أستطيع أن أخرج من الصورة... قلتُ، وتابعتُ: هل نسيت الشروط!!.. إنّها شروط أحببتها جداً بالرغم من صعوبتها!!!!.. لقد دخلت التاريخ!.. وبتُّ في منتصف النّهر، ولن أعود إلى الضّفاف بعد اليوم!
- ولكنّهم سيبحثون عنك!!!..
- لن أكون بعيداً!!... الصورة قريبة من الإطار، هم قريبون جداً مني وأنا قريبٌ منهم، وسيجدونني؛ وربما يدخلون معي الإطار!!.. قل لهم إنني في الصورة!!!.. فلينعموا النظر بعد الإطار بقليل، فسيجدونني ربما في "المشهد" أو في إجراءات البحث لهم عن "شهادة حياة" بدلاً من شهادات الوفاة هذه التي يحملونها خارج الإطار!!!... قل لهم إنني في "الكرامة" أحاول إعادة رصّ الصفوف وترتيب "المقتربات" وشحن المعنويّة وشرح الدروس...
- حسناً!.. سأذهب إلى "صرح الشهيد" لأظفر بأحياء جدد مثلك يطيلون النظر في الصّورة والإطار!!
- لا عليك، ولكنْ،......!!
ولكنْ،....، ولكن!.. يا أخ؛ انتهى الدّوام!... دوام المعرض، نريد أن نغلق!...اقطع "تذكرة" لغدٍ لأنّ جامعات ومدارس ستزور "الصرح"؛ أنصحك بذلك،..و!....
اللوحة الأولى
هل أنتَ مستعدٌّ لأن تغادر الإطار؟!.. أقصد أن تدخل الصّورة؟!!... لقد تتبّعتك وأنت تصافح الصّورة فتذهب عنها ثم تعود!... إنّها غضّة، طريّة، خرجت للتوّ من عدسةٍ قديمة!
لا رتوش، لا تزويق، ولا حتّى "لونٌ إضافي"!... صُوري "الثمانون" جميعها التي تصافح الزوّار يومياً تبدو نُسخاً أصيلةً عن هذه الصّورة!!... لم يقبل أحدٌ أن يدخل، يكتفون بنظرةٍ وشيءٍ من الاستذكار ثم يذهبون، أمّا أنت فمنذورٌ للدخول!.. نعم!.. نعم!.. أنت!.. أنت!.. هل تحاول؟!
لم يترك لي القيّمُ على المعرض فرصةً للرّد أو السّؤال، بل واصل حديثه عن عالمٍ يمكن أن أعيشه في دقائق؛ فلن ينتبه أحدٌ، وسأعود إلى صحبي سريعاً من التجربة بذكرى هي الأروع والأحبُّ إليّ في كلّ ما مرّ عليّ!..
لن تخسر شيئاً، ستكون إنساناً آخر، ستعود بـ"إكسير الحياة"... ستحصل على "شهادة" ضدّ الموت، لن تموت!!.. نعم!... ستعيش أبد الدّهر، ستعود برخصة الحياة، أو بشهادة الحياة!.. فرصة لن تتهيّأ لك إن أعرضت عنها، فـ..جرّب!.. جرّب!.. حاولتُ مع كثيرين قبلك، كانوا يرون فيَّ مجنوناً أرهقت عقله الوساوس وصور الموت والحياة التي يهذي بها كلّ يوم!!.. وهذه الوجوه التي أناوب على خدمتها في الصبح والمساء!.. مع أنّ التجربة أشبه ما تكون بحلم!.. حلم، لا أجمل ولا أحلى!.. جرّب!
ولكي يغريني بالتجريب، فرض شروطَه المسبقة، مثل واثقٍ بقوّة عرضه الغريب هذا: لكنّ الدّخول للصّورة يحتاج شروطاً ربّما تكون قاسيةً، ولكنْ، آمل أن تُوَفّق في اجتيازها، أولاً عليك أن تقرر أن تكون داخل التاريخ لا خارجه!.. عليك أن تحب الولوج إلى عرض "النهر"، وألاّ تفرح بالضفاف!...؛.. هذا إلى جانب شروط الثقة بالقوّة والمواجهة والنجاح!.. صعبة!.. أليس كذلك؟!.. كلّ ما تفعله قبل الولوج إلى الدّاخل هو أن تتمثّل ما قلت، وبمجرّد النجاح في التقمّص ستدخل دون صعوبات، وسأكون معك!.. نعم!.. سأكون معك!
اللوحة الثانية
لم أدرِ كيف أغمضتُ عينيَّ على نيّة الدخول إلى الصورة ومغادرة الإطار، وبالطبع فقد تمثّلت نصائحه في أن أدخل التاريخ وأن ألج النهر وألاّ أفرح بالضفاف، لم يجد هو كبير عناء في الدخول، كنّا كطائرينِ نحوم في دوّامةٍ من العتمة، ياااااه!.. لم أكن أعلم أنّ للصورة كلّ هذا العمق!..
طريق التيه طويلٌ طويلٌ طويلٌ للخروج من العتمة باتجاه النّور!.. قال مشفقاً عليّ وأنا ألوم نفسي بسبب تجربة أضعت فيها نفسي وأهلي باتجاهٍ لا أعلمه، وتابع: لا بدّ لكلّ مخاضٍ من آلام، والمهمّ ألا يضيع ما تمثّلتَه قبل مرحلة الولوج، وستحلو بعينك التجربة لتغدو حقيقةً بعد قليل!
مرّت الدّنيا كلّها عليَّ وأنا أرجو لهذا التيه أن ينتهي، والرجل ما بين لائمٍ ومشفقٍ ومعددٍ لفضائل ما بعد التيه، حتّى كان النّور!!
اللوحة الثالثة
أينَ النّور؟!.. وأين إكسير الحياة التي وعدتَ؟!.. لا أرى غير أناسٍ يتجمهرون حول بائعٍ، وآخرين يحررون شهادات ميلادٍ، وحواجز يتدافع عليها الناس!
أنعم النظر، قال، وقد عذرني في سؤالي، سترى حياةً بطولها وعرضها،.. لا بأس، ربّما نستريح في مقهى قريب!..
كان يوماً قائظاً يقلع عين الدّيك، كما نقول، وكان صاحبي قد أدرك ما بي من توجّسٍ وقلقٍ، فأحبّ أن يروّح عنّي وأن يكشف لي عن شيءٍ من قدراته الخارقة: ستظللك طيورٌ في هذا الجوّ الحار، وما هي إلا حركة من أصبعيه، حتى ظللتنا طيورٌ ذات ريشٍ كثيف، اللافت في وجوهها أنّ تفاصيل آدميّة لوجوه المعرض تخللتها، كانت عيون الطيور، أقصد العيون الآدميّة، تكتفي بابتسامةٍ واطمئنان، وفيما أنا أعدُّ الوجوه، أو الطيور، أو العيون- يبدو أنّ الأمر اختلط عليّ- كان ثمّة مرتادون للمقهى تظللهم طيور بينما لا يحظى بهذا المنظر الساحر آخرون، وإذ أدرك صاحبي حيرتي، شرح بأنّ هؤلاء الذين تغلي رؤوسهم من الحرّ لم يشتروا بطاقة حياة أو تُحرر لهم شهادة حياة، وظلّوا على فتورهم هذا يعانون بالرغم مما يشربون!
لم أعِ ما قال، رغم قوّة المنظر الذي لم يخرجني منه إلا استئناف صاحبي الحديث: خدمتنا الطيور لأنّني بادرت مبكراً بقطع(الحصول) شهادة حياة؛ هل تفكّر في قطع شهادة حياة؟!.. تعال!
كان الصّف طويلاً، وكان موظّفٌ ومراجعون متلهّفون لقطع النظام والسرعة في الحصول على شهادات الحياة، حرروا له شهادة حياة!.. يقول الموظّف المسؤول بعد أن تيقّن من أحد المراجعين، الذي أخذ يتفحّص الشهادة غير مصدّقٍ من شدة الفرح، فيما الموظف يلتفت إلى الآخرين مطالباً بأن يصبروا، فلن تغيب شمس اليوم حتى يحصل الجميع على شهادات حياة!
قلت: معنى ذلك أنّ التي في حوزتي إنّما هي شهادة وفاة!!.. لم يُعر صاحبي سؤالي الناقد كثير اهتمامٍ، وقال إنّ شهادة الحياة، وفضلاً عن استخداماتها المعتادة، إلا أنّ الميزة الكبرى التي توفّرها هي مشاهدة مسرحية "المشهد"، التي أخرجها وأمثّل فيها، وستعجبك كثيراً بعد أن تتمكّن من تحرير شهادة الحياة!
كان الحاصلون على شهادة الحياة كأنّما هم في سفر؛ إذ ظلّت دموع أهليهم الممزوجة بالفرح في خطاهم، بينما كانوا هم تغمض أعينهم على أحلامهم بمشاهدة مسرحيّة "المشهد"، وربّما التمثيل فيها، فكانوا مبتسمين أشدّ الابتسام على هذا الحلم الرائع الجميل!
اللوحة الرابعة
دعنا نستخدم بطاقة الحياة الجديدة! قال صاحبي فرحاً بسرعة معاملتي في الحصول عليها، ضعها في الأماكن المخصصة لتُفتح لك الحواجز!
يا الله!.. الكلّ ينحني باحترام!!... هناك أحدهم يبدو أنّه ليس لديه بطاقة حياة!!!!... هيه!.. أنتَ!.. هل تريد مساعدة؟!!.. هل أضعت بطاقة الحياة؟!.... للأسف، لقد أضعتها!!... كيف؟!!... في الطريق!!.. في الطريق؟!!!... نعم!.. في الطريق إلى الحياة!!!.. أردتُ أن أحيا فأضعتُ بطاقة الحياة؟!!.. ليتني!!
لم أفهم هذه المترادفات كثيراً، ولم أعد أفرّق بين الحياة والموت، وفيما الرجل يعرب عن أسفه ممنياً نفسه بأن يقطع في الصباح الباكر شهادة حياة ويتخلّى عن شهادة الوفاة التي بين جوانبه، كان صاحبي قد ثارت أشجانه وهو يردد: البيت!.. البيت!
ذكّرتني بالبيت وأهلي!... قلتُ، فيما هزّ رأسه وقال إنّه يعني بيت الشعر القائل: والناس صنفان: موتىً في حياتهمو/ وآخرون ببطن الأرض أحياءُ!
"المشهد"
يبدو صليل سيوف ووقع حوافر خيل ونداءات وغبار معركة!...بل معارك!... يفتخر صاحبي وهو يطالع المداخل الأربعة نحو مسرحيّة "المشهد"، وفيما الزوّار يبرزون شهادات الحياة ويدخلون مداخل شتّى من أبواب: مؤتة، واليرموك، والكرامة، قُدّر لنا أن نسير في مدخل "الكرامة" باتجاه المسرح الرئيس الذي تؤدّي إليه كلّ المداخل المزيّنة بنقوش وأشعار وهالة من الأهازيج والحداء.
لقد وصلنا إلى القاعة!.. قاعة الشّرف!... تتكوّن المسرحيّة من ثلاثة فصول، ويبدو أننا سنشارك هذه المرّة في مشاهد من فصل "الكرامة"؛ فعلاوةً على كوني مخرجاً للعمل، فأنا أحب التمثيل، وسيكون لك دورٌ كبير في مشاهد حرجة من الكرامة، وقد حشدتُ من معارض كثيرة نخبةً من فرسان المسرحيّة، كنت أنتخبهم من المدارس والجامعات ومن هواة التاريخ، ومن روّاد معارض الصّور الحيّة، كما فعلتُ معك!..
يتأكّد صاحبي قبل موعد العرض من جاهزيّة الصّدور لحفظ التعاليم ولتجسيد معنى والتضحية والاستبسال، وبينما يقدّم وصفاً للمشهد يبرز وصفاً كُتبَ عليه بخطٍّ عريض:
الزمن: 21 آذار 1968
المكان: الكرامة.. بلدة في الأردن...
مؤثثات المشهد: نهر رقراق عذب يسمى نهر الأنبياء
يتأكّد صاحبي، ويدعوني للتأكّد معه، من جاهزية القتال على أرض الكرامة شرقي النهر، والتحام الجيش والفدائيين مع قوّاتٍ مجهّزة عبرت النهر، ليظلّ يحفز الهمم في القتال الذي تشيب لهوله الولدان، مستميتاً في الدفاع والمقاومة، ممزقاً كلّ مناشير العدوّ الرامية إلى النيل من معنوية الأبطال، ليرفع أعلاماً وبيارق على غور الصّافي.... وادي شعيب... العارضة.....ناعور.... الشّونة.....عمان..
أريد لغةً شعريّةً عالية المستوى في وصف الاشتباك الدائر، وبحجم همّة الأبطال!.. يقول صاحبي موجّهاً حديثه للشعراء الذين يظهرون وقد علا صوتهم بالهتاف كلّما أسقط الأبطال طائرةً أو عطّل آليّة!
ثمّ، يمتحن صوتاً ينبعث بقّوةٍ ولهفة من إذاعة شرقي النهر:
"في تمام السّاعة الخامسة والنّصف من صباح اليوم قام جيش العدوّ بشنّ هجوم واسع في منطقة شرق النهر من ثلاث أماكن: جسر داميا وجسر سويمة وجسر الملك حسين.. وقد اشتبكت معها قواتنا بجميع الأسلحة واشتركت الطائرات التابعة للعدو في العمليّة، ودُمّر للعدو حتى الآن أربع دبابات وأعداد من الآليات وما زالت المعركة قائمة بين قوّاتنا وقوّاته حتى هذه اللحظة!".
ثمّ يطالب بأن يتضمّن الصّوت الإذاعيّ سخرية الأبطال من دعوة العدوّ لصحفييه للغداء على مرتفعات أراضي الأبطال ظهر ذلك اليوم!
فجأة، يمتلئ المكان بالحضور، ما بين بطلٍ في "المشهد" أو مشجّعٍ للنزال والاشتباك ومُهللٍ بالنصر، ليكون التجسيد.
لكنْ، يبدو أنّ شيئاً ما قد حصل أثناء التجسيد، المخرج يعطي أوامره بالانسحاب التكتيكي، فيما الجنود ما يزالون يستبسلون!...
يستجيب مخرج المشهد لهذا الخروج البطولي على النّص، وسط زغاريد وأهازيج وصراع حقيقي للبقاء، فيكون النصر، ويرتدّ العدوّ إلى غرب النّهر، وسط ملحمة عظيمة جدّاً تحت عنوان "الكرامة".
اللوحة الخامسة
- هل تريد العودة.. لقد أضاعك أهلك أو استبطأووك؟!!
- قل لهم إنني الآن في الصورة ولست في الإطار!!!... بقيت كثيراً في الإطار... ليتهم يدخلون الصورة ليتعرفوا على سحرها ومفاجآتها ومسرحيّتها.. الإطار ليس غير وصف!.. صدقني الصورة هي الأساس!!!.. قلتُ ذلك، فقال وقد آمن أشدّ الإيمان بي: ولكنّك يجب أن تشرح لهم عن الإطار والصورة!!...
- لا.. اذهب أنت... ودلّهم على الصورة ليتجسدوا فيها....
- لا أستطيع أن أخرج من الصورة... قلتُ، وتابعتُ: هل نسيت الشروط!!.. إنّها شروط أحببتها جداً بالرغم من صعوبتها!!!!.. لقد دخلت التاريخ!.. وبتُّ في منتصف النّهر، ولن أعود إلى الضّفاف بعد اليوم!
- ولكنّهم سيبحثون عنك!!!..
- لن أكون بعيداً!!... الصورة قريبة من الإطار، هم قريبون جداً مني وأنا قريبٌ منهم، وسيجدونني؛ وربما يدخلون معي الإطار!!.. قل لهم إنني في الصورة!!!.. فلينعموا النظر بعد الإطار بقليل، فسيجدونني ربما في "المشهد" أو في إجراءات البحث لهم عن "شهادة حياة" بدلاً من شهادات الوفاة هذه التي يحملونها خارج الإطار!!!... قل لهم إنني في "الكرامة" أحاول إعادة رصّ الصفوف وترتيب "المقتربات" وشحن المعنويّة وشرح الدروس...
- حسناً!.. سأذهب إلى "صرح الشهيد" لأظفر بأحياء جدد مثلك يطيلون النظر في الصّورة والإطار!!
- لا عليك، ولكنْ،......!!
ولكنْ،....، ولكن!.. يا أخ؛ انتهى الدّوام!... دوام المعرض، نريد أن نغلق!...اقطع "تذكرة" لغدٍ لأنّ جامعات ومدارس ستزور "الصرح"؛ أنصحك بذلك،..و!....