facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

وهمُ المعرفة .. ومَلكات العقول!

وهمُ المعرفة .. ومَلكات العقول!

أ. د. صلحي الشحاتيت

القبة نيوز- الإنسان بطبيعته يبحث عن المعرفة دائمًا، ويحاول كشف المجهول بشتى الطرق الممكنة، فمنذ العصور القديمة كان البحث عن المعرفة والاكتشاف أكثر ما يميز الإنسان؛ فقد عرف الطقس وتغيراته، وكيفية صيد الحيوانات، وبناء المساكن والزراعة بشتى أنواعها، بالإضافة إلى ما تميزت به المرأة في تلك العصور من معرفة أمور تتعلق بالطهي والحمل والرضاعه والعناية بالأطفال وتدبير شؤونها اليومية.


لكن يبقى السؤال الأقوى؛ هل ينطبق ذلك على الإنسان في العصر الحديث؟ الإجابة طبعًا لا! فالإنسان في عصرنا الحالي يواجه مشكلة كبيرة؛ ألا وهي إدّعاء المعرفة إلى حد كبير، وعن أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين عن الخليل بن أحمد أنه قال: الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري انه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه. فما مدى معْرِفَتُنَا عن مقدار مَعْرِفَتِنَا؟ فالذي يدّعي العلم بكل شيء "واهِم المعرفة"، وهذا من أخطر الأنواع على الإطلاق، يقول عالم الفيزياء الشهير ستيفن هويكنج: "أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل؛ وإنما وهم المعرفة"، فمن الصعب علينا أن نعترف بأننا نعيش في وهم في ظل الكم الهائل الذي نحصل عليه من المعلومات من الانترنت، والتي نعتبرها امتداد طبيعي لمخزوننا المعرفي؛ وبالتالي ننظر لأنفسنا بأننا أذكياء متوهمين بحجم قدراتنا ومكتسباتنا، ومغلقين أعيننا عن المعرفة الحقيقية التي نمتلكها فعلاً داخل عقولنا. وأننا دائما نحاول الحصول عليها من الانترنت دون أيّ جهد يذكر، رغم أنّ الكثير من المثقفين وأصحاب الأختصاص والذين يعتقدون أيضاً أنهم وصلوا لمرحلة متقدمة من العلم والمعرفة والخبرة التي يمكن أن تؤهلهم للإجابة عن الأسئلة في قضية ما قد تكون جديدة؛ وهذا قد يجعلهم يتوقفون عن عمليات البحث المستمرة للمعلومات حتى وأن كانت حديثة وغريبة عن مخزونهم المعرفي الذي يمتلكونه!

إنّ وهم المعرفة قد يأخذ أشكالاً عدة؛ وقد يرافقه غالباً تضخيم الأنا لدى البعض منهم، ظناً منهم أنّ كل ما يقولونه صحيح ولا مجال للشك فيه، وكل قراراتهم لا تحتاج إلى إعادة النظر فيها، في الواقع هم أشخاص نرجسيون معجبين بأنفسهم كثيراً، ولا يعترفون بأي نقص أو عيب في شخصيتهم.

هذا المزج الخطير بين أدواتنا الإدراكية الشخصية، قد يوقعنا في فخ "وهم المعرفة"؛ لأنّ الكثير منّا لا يفرق بين معلومات عامة يخزنها وبين المعرفة، كما أنّ الكثير لا يرغب في أن يجيب ب "لا أعرف"، ويصعب عليه قول "ليس لدي خلفية واضحة عن هذا الموضوع"، أو أن يقول" لم أبحث لأتأكد"، بل يجد نفسه يسترسل بالإجابة والشرح والفلسفة، مع أنّه ليس لديه أدنى معرفة سابقة عن الموضوع، هذا من شأنه أن يسبب الكثير من المشاكل، فقد نقع بالخطأ أو نعطي معلومات مغلوطة، وحتى أنه يوقفنا عن تمرين ذاكرتنا بحجة أننا نستقبل معلومات كثيره عوضاً عن ذلك، مما يؤدي إلى الحد من قدرتنا على التحليل والاستقصاء والبحث والاكتشاف.

طرح ستيفن سلمن وفيليل فرنباخ وهما متخصصان في الإدراك المعرفي (cognitive science)، "وهو علم يحاول معرفة كيفية عمل دماغ الفرد"؛ في مؤلفها الفريد "وهم المعرفة - خرافة الفكر الانفرادي وقوة الحكمة الجماعية"؛ مثالاً عرضته زميلة لهما (وهي عالمة متخصصة) على مجموعة من الأشخاص. تم سؤالهم ما إذا كانوا يعرفون الدراجة الهوائية وكيفية عملها، فكانت الإجابة: نعم، بالإجماع. ظنوا أنهم يعرفونها، إلى أن عادت وطلبت منهم رسم الدراجة الهوائية، والنتيجة كانت أن أغلبهم لم يتمكن من رسمها بالشكل الصحيح، مع أنهم يشاهدونها يومياً، وقد شاهدوها قبل ذلك آلاف المرات.

هنا كانت المشكلة فقد ظن الناس أنهم يعرفون الموضوع، لكن سرعان ما اكتشفوا مدى جهلهم به، فعصرنا الحالي يعج بالمدارس والجامعات وعشرات الملايين من حملة الشهادات المختلفة، ويستمرون بالزيادة وطلب العلم إلا أن هذه الاستزادة لا تنتج عقولاً معرفية، بل المزيد من العقول المصابة بوهم المعرفة، فمن المفترض أنّ التعليم والعملية التعليمية بغض النظر عن مراحلها ومستوياتهم؛ فهي تعمل بهدف ثابت ألا وهو إنتاج عقول تمتلك المعرفة وليس وهم المعرفة، عقول ناضجة مدركة تماما لما تتعلمه، ومبدعة مفكرة لا تحفظ وتخزن من أجل التخزين فقط، عقول تستطيع أن تقرأ الواقع بشكل صحيح وتضع رؤى وأفكار جديدة، أو على الأقل أن يكون هذا العقل بعيداً عن السطحية وطرق التفكير القديمة. وأخيراً، فمعرفتنا تبدأ بمعرفة أوهامنا، "أن تعرف هو أن تدرك إلى أي درجة أنت واهم".

تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير