نقابة المعلمين الأردنيين ومغامرة التفكير أفقياً
د. منذر الحوارات
القبة نيوز- اعتاد المجتمع الأردني أن يتذمر يومياً من تعمّق ظاهرة المؤسسات ما قبل الدولة، مثل التجمعات المناطقية، والقبلية، والإثنية، والإقليمية، والتي كانت تفصح عن نفسها بمظاهر عديدة، مطلبية وسياسية، إلى الدرجة التي قادتها إلى فرض سلوك عام على الدولة، عزّز مكانة تلك التقسيمات، وأعطاها الأولوية في كل شيء، فمنها يُختار النواب والسياسيون والموظفون الكبار، فكونت صيغةً من التعاون الزبائني بينها وبين مؤسسات الدولة كافة، ضَمِنَ لها استفادة متبادلة تحقق الربح المستدام من مشاريع الدولة المختلفة، وكذلك ضمِن للدولة صيغةً مستقرّةً من المنفعة المتبادلة تمكّنها من تدوير حالةٍ من الاستقرار والثبات، معتمدةً على دائرة واحدة منضبطة في ولائها ووضوح رؤيتها لما تريد، وما هو مطلوب منها، ولها آلتها الإعلامية التي تتبنّى هذه الصيغة، وتدافع عنها بصرامة واستماتة، طبعاً مقابل حصة من كعكة المنافع.
أسفرت تلك الصيغة عن إيجاد نخبة تدير البلد على الصعيدين، السياسي والاقتصادي، لها كل الأدوات والوسائل الإعلامية والسياسية والخدمية، فاستثمرت أدواتها تلك في تطويع القطاع الأعظم من المجتمع، غير المعني، وغير المستفيد من هذه التقسيمة، كي تصل به إلى قناعة راسخة بأن هذه الحال هي أفضل ما يمكن العمل به، فكانت مقولة الأمن والاستقرار الذي يتمتع به البلد هو الحالة الفريدة في الإقليم، إلى درجة أن المؤسسات الإعلامية أجهدت نفسها في ساعات بث طويلة، للمقارنة بين حالة الاستقرار التي يتمتع بها الأردن وحالة دول أخرى فكّر مواطنوها في التغيير، فتم استثمار كل قتيل وجريح في الجوار للتأكيد على مقولة الأمن أولاً وأخيراً، والذي يُفضي، في النهاية، إلى أن النخبة الحالية والصيغة التي أنتجتها هي الأفضل والأجود.
ولكن مهلاً، صحيح أن هذا الأسلوب قاد ظاهرياً إلى الاستقرار، ولكنه في المقابل كان يفصح يوماً بعد يوم عن مظاهر هائلة من الخلل في مستويات التنمية، في كل القطاعات، العمودية والأفقية. ففي بداية تجربة احتكار السلطة والاقتصاد على مستوى عمودي، كان المختارون يوزّعون المكاسب على بعض أتباعهم لشراء تعاونهم وولائهم، إلا أن ذلك انقطع الآن، لأن تلك النخب ضمنت علاقة قوية مبنية على مصلحة متبادلة مع مؤسسات الدولة، تمكّنها من قمع أي تمرّد داخل كل قطاع، وهذا ما نرى مثالاً عليه من توريث المناصب السياسية والاقتصادية والوجاهات الاجتماعية التي في جُلها استحدثت مع هذا التقسيم، وسيقود ذلك كله رويداً رويداً إلى القناعة التامة بأن لا حل ممكنا مع بقاء الوضع بهذا الشكل المختل.
غطت مساحة المستاءين الأردن كاملاً، فالتنمية تكاد تكون مقتصرةً ومقننةً بالقدر الذي يخدم أولئك الأثرياء، والامتيازات مغلقة تماماً عليهم، ولهم وحدهم كل شيء، ما عدا العذاب والفقر والبطالة، فهذه للمجموع العام من المجتمع، بغضّ النظر عن فئته. وهذا حال لا يمكن أن يستمر، فلا بد أن ينتفض المتضرّرون آجلاً أم عاجلاً.
في هذه اللحظة بالذات، صعدت إلى السطح مطالب المعلمين المعبّرة عن مظلمتهم من سوء المعيشة وتدنّي الدخل. وكانت محاولتهم للخروج إنذاراً مبكّراً بحراك اجتماعي يتسع ليغطي كل قطاعات المجتمع. من هنا، وبنتيجة خوف الكتلة الصلبة من النخبة المسيطرة، ما يحدث ليس مجرّد حالة ستقتصر على المعلمين، وإنما ستتسع لتشكل طوفانا قد يأخذهم ومصالحهم في طريقه. لذلك، كان القمع المفرط لحراك المعلمين كي يبقى في مهده.
ولكن المعلمين في المدارس الحكومية الأردنية الذين يبدو أن معاناتهم طوّرت لديهم أسلوباً تجاوزوا فيه المتعارف، فأول ما فعلوه أضافوا إلى مطالبهم اعتذار الحكومة، وأعلنوا الإضراب، وتبنّوا خطاباً هادئاً ومتزناً جعل كل أدوات الدولة التي استدعيت على عجلٍ لاختراع صيغةٍ تجرّم المعلمين، وتدينهم، وتُؤلب المجتمع عليهم، لكن ذلك كله لم يكشف إلا عن ضحالة تلك النخب بمستوياتها المتعدّدة، سواء على الصعيد السياسي أو القانوني، فسقطت سقوطًا ذريعاً، هي وكل الذرائع التي ابتدعتها لوضع المعلمين في موقع المعادي للمصلحة العامة.
وبنتيجة الفشل السابق في استخدام القوة مع المعلمين، لجأ هؤلاء الآن إلى استخدام قوة القوانين وتوليفاتها المتحرّكة، فدانوا الإضراب، وتمكنوا من إصدار حكم قضائي ضدّه، تناوله المجتمع بمختلف أشكال الهزء والتندّر.
وقبل ذلك لم يلجأوا إلى الحوار السياسي، ليس لأنهم غير قادرين، بل لأنهم لا يريدون الإقرار بأن واقعاً جديداً يتكوّن، وينسف أسس وجودهم إن هم اعترفوا به. ولذلك استمر عنادهم ورفضهم ما يطلبه المعلمون، ولكنهم، في النهاية، سوف يرضخون للأمر الواقع، حفاظاً على بقائهم وليس حباً في ذلك، فالثقل الذي يملكه المعلمون، وتعاضد المجتمع معهم، أوجدا وزناً سياسياً سيؤدي تجاهله إلى انتحارٍ على الصعيد السياسي.
أصبح الأمر معقداً بسبب ذلك، وبات الناس في حيرةٍ متى سينتهي. ولأن نقابة المعلمين الأردنيين تبنّت أسلوباً متحرّكاً في التعامل مع الموقف، فقد استخدمت القرار القانوني نفسه الذي دان الإضراب، لتعلن من خلاله أنها ليست حراكاً خارجاً عن القانون، بل في صميمه، وهي ليست في مواجهةٍ مع المجتمع، بل في صلبه، ومن رحمه، فعلّقت الإضراب.
وهي هنا رضخت للقانون ولم تنهزم للحكومة، اللهم إلا إذا كانت الأخيرة ترى أن المؤسسة القضائية ليست مستقلة، تقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع. وإذ انتهت أزمة إضراب المعلمين الحكوميين الذي استمر شهرا، باتفاق بين نقابتهم والحكومة، نالوا فيه علاوات جيدة على رواتبهم، فذلك يعني، من بين حزمة ما يعنيه، أن المجتمع الأردني حينما يفكر أفقياً، بعيداً عن تقسيمات ما قبل الدولة المذكورة سابقاً، سيكون قادراً على إدراك طبيعة مصالحه، وبالتالي سيختار النوعية المناسبة لتحقيق تلك المصالح، وهذا ما أثبته المعلمون، وهذا ما أدركته النخبة المسيطرة. لأجل كل تلك المقدمات، استطالت هذه الاًزمة، لأن فيها ولادة لأردن جديد يفكر بشكل مختلف وبنخبة مختلفة، ينتجها المجتمع كله، وليست قلة قليلة منه.
العربي الجديد
أسفرت تلك الصيغة عن إيجاد نخبة تدير البلد على الصعيدين، السياسي والاقتصادي، لها كل الأدوات والوسائل الإعلامية والسياسية والخدمية، فاستثمرت أدواتها تلك في تطويع القطاع الأعظم من المجتمع، غير المعني، وغير المستفيد من هذه التقسيمة، كي تصل به إلى قناعة راسخة بأن هذه الحال هي أفضل ما يمكن العمل به، فكانت مقولة الأمن والاستقرار الذي يتمتع به البلد هو الحالة الفريدة في الإقليم، إلى درجة أن المؤسسات الإعلامية أجهدت نفسها في ساعات بث طويلة، للمقارنة بين حالة الاستقرار التي يتمتع بها الأردن وحالة دول أخرى فكّر مواطنوها في التغيير، فتم استثمار كل قتيل وجريح في الجوار للتأكيد على مقولة الأمن أولاً وأخيراً، والذي يُفضي، في النهاية، إلى أن النخبة الحالية والصيغة التي أنتجتها هي الأفضل والأجود.
ولكن مهلاً، صحيح أن هذا الأسلوب قاد ظاهرياً إلى الاستقرار، ولكنه في المقابل كان يفصح يوماً بعد يوم عن مظاهر هائلة من الخلل في مستويات التنمية، في كل القطاعات، العمودية والأفقية. ففي بداية تجربة احتكار السلطة والاقتصاد على مستوى عمودي، كان المختارون يوزّعون المكاسب على بعض أتباعهم لشراء تعاونهم وولائهم، إلا أن ذلك انقطع الآن، لأن تلك النخب ضمنت علاقة قوية مبنية على مصلحة متبادلة مع مؤسسات الدولة، تمكّنها من قمع أي تمرّد داخل كل قطاع، وهذا ما نرى مثالاً عليه من توريث المناصب السياسية والاقتصادية والوجاهات الاجتماعية التي في جُلها استحدثت مع هذا التقسيم، وسيقود ذلك كله رويداً رويداً إلى القناعة التامة بأن لا حل ممكنا مع بقاء الوضع بهذا الشكل المختل.
غطت مساحة المستاءين الأردن كاملاً، فالتنمية تكاد تكون مقتصرةً ومقننةً بالقدر الذي يخدم أولئك الأثرياء، والامتيازات مغلقة تماماً عليهم، ولهم وحدهم كل شيء، ما عدا العذاب والفقر والبطالة، فهذه للمجموع العام من المجتمع، بغضّ النظر عن فئته. وهذا حال لا يمكن أن يستمر، فلا بد أن ينتفض المتضرّرون آجلاً أم عاجلاً.
في هذه اللحظة بالذات، صعدت إلى السطح مطالب المعلمين المعبّرة عن مظلمتهم من سوء المعيشة وتدنّي الدخل. وكانت محاولتهم للخروج إنذاراً مبكّراً بحراك اجتماعي يتسع ليغطي كل قطاعات المجتمع. من هنا، وبنتيجة خوف الكتلة الصلبة من النخبة المسيطرة، ما يحدث ليس مجرّد حالة ستقتصر على المعلمين، وإنما ستتسع لتشكل طوفانا قد يأخذهم ومصالحهم في طريقه. لذلك، كان القمع المفرط لحراك المعلمين كي يبقى في مهده.
ولكن المعلمين في المدارس الحكومية الأردنية الذين يبدو أن معاناتهم طوّرت لديهم أسلوباً تجاوزوا فيه المتعارف، فأول ما فعلوه أضافوا إلى مطالبهم اعتذار الحكومة، وأعلنوا الإضراب، وتبنّوا خطاباً هادئاً ومتزناً جعل كل أدوات الدولة التي استدعيت على عجلٍ لاختراع صيغةٍ تجرّم المعلمين، وتدينهم، وتُؤلب المجتمع عليهم، لكن ذلك كله لم يكشف إلا عن ضحالة تلك النخب بمستوياتها المتعدّدة، سواء على الصعيد السياسي أو القانوني، فسقطت سقوطًا ذريعاً، هي وكل الذرائع التي ابتدعتها لوضع المعلمين في موقع المعادي للمصلحة العامة.
وبنتيجة الفشل السابق في استخدام القوة مع المعلمين، لجأ هؤلاء الآن إلى استخدام قوة القوانين وتوليفاتها المتحرّكة، فدانوا الإضراب، وتمكنوا من إصدار حكم قضائي ضدّه، تناوله المجتمع بمختلف أشكال الهزء والتندّر.
وقبل ذلك لم يلجأوا إلى الحوار السياسي، ليس لأنهم غير قادرين، بل لأنهم لا يريدون الإقرار بأن واقعاً جديداً يتكوّن، وينسف أسس وجودهم إن هم اعترفوا به. ولذلك استمر عنادهم ورفضهم ما يطلبه المعلمون، ولكنهم، في النهاية، سوف يرضخون للأمر الواقع، حفاظاً على بقائهم وليس حباً في ذلك، فالثقل الذي يملكه المعلمون، وتعاضد المجتمع معهم، أوجدا وزناً سياسياً سيؤدي تجاهله إلى انتحارٍ على الصعيد السياسي.
أصبح الأمر معقداً بسبب ذلك، وبات الناس في حيرةٍ متى سينتهي. ولأن نقابة المعلمين الأردنيين تبنّت أسلوباً متحرّكاً في التعامل مع الموقف، فقد استخدمت القرار القانوني نفسه الذي دان الإضراب، لتعلن من خلاله أنها ليست حراكاً خارجاً عن القانون، بل في صميمه، وهي ليست في مواجهةٍ مع المجتمع، بل في صلبه، ومن رحمه، فعلّقت الإضراب.
وهي هنا رضخت للقانون ولم تنهزم للحكومة، اللهم إلا إذا كانت الأخيرة ترى أن المؤسسة القضائية ليست مستقلة، تقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع. وإذ انتهت أزمة إضراب المعلمين الحكوميين الذي استمر شهرا، باتفاق بين نقابتهم والحكومة، نالوا فيه علاوات جيدة على رواتبهم، فذلك يعني، من بين حزمة ما يعنيه، أن المجتمع الأردني حينما يفكر أفقياً، بعيداً عن تقسيمات ما قبل الدولة المذكورة سابقاً، سيكون قادراً على إدراك طبيعة مصالحه، وبالتالي سيختار النوعية المناسبة لتحقيق تلك المصالح، وهذا ما أثبته المعلمون، وهذا ما أدركته النخبة المسيطرة. لأجل كل تلك المقدمات، استطالت هذه الاًزمة، لأن فيها ولادة لأردن جديد يفكر بشكل مختلف وبنخبة مختلفة، ينتجها المجتمع كله، وليست قلة قليلة منه.
العربي الجديد