عاطف أبو حجر يكتب... وجع الرفاق
بقلم: عاطف أبو حجر
يبدو أن المقابر ليست فقط محطاتٍ للوداع، بل ساحاتِ اعترافٍ جماعي بحقيقةٍ واحدة:
أننا كبرنا… وأن أجسادنا سبقت أرواحنا إلى الشيخوخة.
فما إن نقف في طابور عزاء على المقابر، حتى يبدأ سباقٌ خفيٌّ بيننا:
من الأكثر تعبًا؟
من الأكثر إجراءً للعمليات؟
وكأن الألم صار وسامَ خبرة، والمستشفيات صفحاتٍ في السيرة الذاتية لكلٍّ منا.
في تلك الأجواء الثقيلة، وبين دعاءٍ صامت ونظرةٍ شاردة، ودّعنا قبل أيام صديقًا عزيزًا إلى مثواه الأخير. وهناك شاءت الصدفة أن تجمعنا المقبرة نحن… رفاق الصف، الذين فرّقتهم انشغالات الحياة وجمعتهم جنازة صديق.
وبينما كنا نسأل عن أحوال بعضنا، كأننا نعيد فتح دفتر المدرسة بحبرٍ باهت، بدأ صديقنا الأول حديثه قائلًا، بصوتٍ فيه شيء من الفخر البريء:
«على فكرة يا إخوان… أنا والمرحوم جيل واحد، بس أنا رسبت سنة».
لم تمرّ ثوانٍ حتى تدخّل صديقٌ ثانٍ ليضع بصمته في المشهد، وقال:
«أنا والمرحوم سوّينا قسطرة للقلب بنفس اليوم قبل عشرين سنة».
وهنا، وقبل أن نلتقط أنفاسنا، جاء صوت صديقنا الثالث كالرعد، موجّهًا حديثه للصديق الثاني، وكأنه يوبّخه على ادّعاءٍ عظيم:
«وهل تظن أنك الوحيد الذي عمل قسطرة؟ اسمعوا يا جماعة الخير… بجوز أنا أكثر واحد أجرى عمليات في الأردن!»
ثم أخذ يسرد سجله الجراحي كما يسرد جنرالٌ بطولاتِ المعارك، وكأن جسده مستشفى متنقّل:
– عمليتا قلب مفتوح.
– عملية بواسير.
– تفتيت حصى.
– عملية بروستات.
– عمليات مفاصل للركبتين.
– سبع وثلاثون عملية قسطرة للقلب.
– إحدى عشرة عملية تنظير للمعدة والمريء.
– ست عمليات تنظير للقولون.
ثم رفع حاجبيه، وكأنه يخفي خلفهما أسرارًا طبية محرّمة، قائلًا:
«أما الزائدة، والدمل، واللوز، والظفر، والأسنان… فصراحةً استحييت أن أذكرها».
هنا لم يبقَ لنا إلا أن نُعجب بهذا الإنجاز الطبي الفريد؛ رجلٌ لا تعتريه الشيخوخة، بل تبدو حياته سلسلةَ عملياتٍ تُعدّ بالعداد!
عندها انفجر صديقنا الأول ضاحكًا، وقال له بجدّية ساخرة:
«هاظ أنت منتهى وعلى حافة قبرك… وين بتحب ندفنك؟»
لم يغضب صديقنا الثالث، بل ضحك، وضحكنا معه جميعًا.
وخلاصة القول: إننا في الجنازات نتذكّر هشاشتنا، وننصت لصوت الرحيل، لكن يبدو أن بيننا دائمًا من يحاول تحويل المقبرة إلى مؤتمرٍ طبيٍّ يستعرض فيه بطولاته الجراحية. ومع ذلك، يبقى شيء واحد مؤكدًا: أننا كلما كبرنا، ازداد حديثنا عن الأمراض والعمليات، وكأنها شهادات خبرة في سباق العمر.
ومع أن صديقنا العزيز قد اقترب – كما قال الآخر – من «حافة القبر»، فإننا نعلم أن أعمارنا جميعًا، على اختلاف أطوالها، معلّقة بخيطٍ رفيع… وأن ما يبقى فعلًا ليس عدد العمليات، بل عدد الضحكات التي نتركها في ذاكرة من نحب.
















