facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

بشار المجالي يكتب :سلطان القائد في رجاله رحلة الإدارة من قصور بني أمية إلى مكاتبنا

بشار المجالي يكتب :سلطان القائد في رجاله رحلة الإدارة من قصور بني أمية إلى مكاتبنا
بقلم -  بشار عبدالمجيد المجالي

لما جاء رسول العراق إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن أمير عشائر بني قيس قد حشد الجيوش لمحاربة الحجاج، وأن القوم لا يرضيهم إلا قتله أو عزله عن العراق، بدا المشهد وكأن الكفة تميل لمصلحة أهل العراق وشروطهم، فتضخيم الفتنة في العراق آخر ما يتمناه أمير المؤمنين. فما كان من البعض إلا أن أشار على أمير المؤمنين أن يأخذ الأمان للحجاج إن حضره القوم، فيخرج من العراق إلى الشام سالماً، درءاً لفتنة ليس أوانها. غير أن الوليد بن عبد الملك كان له رأي آخر، فالحجاج في العراق ليس مجرد شخص، بل هو صورة لاختيار أمير المؤمنين وامتداد لسلطانه؛ وإضعافه أو تسليمه شرطاً لمن تمرّدوا عليه هو في الحقيقة إضعاف لمقام الخليفة نفسه.

 فإذا هان الوالي هان من ولاّه، وإذا خضع الأمير لابتزاز من تحته خضع معهم لمنطق الفتنة. ورأى الوليد أن الحل ليس في التنازل، بل في إمداد الحجاج بمن يعينه، ليبقى قرار الدولة فوق تقلبات الأهواء، وهكذا كان.

هذه الحكاية ليست مجرد فصل من تاريخ بني أمية الزاخر بالقصص والحِكم والعجائب، بل مرآة لواقع الإدارة في كل زمان. فالمدير اليوم هو "أمير المؤمنين” في نطاق عمله، والموظف هو صورته التي تخرج للناس. فإذا كان الوالي ـ في منطق ذلك الحوار ـ تجسيداً لاختيار الخليفة، فإن الموظف في منطق العمل "الحديث" تجسيد لأسلوب مديره، عدالته ورؤيته. كل كلمة يقولها الموظف أمام الجميع و كل موقف يتخذه مع زملائه، كل مستوى يقدمه في الجودة أو الالتزام، إنما يرسل رسالة صامتة عن نوعية القيادة التي تقف خلفه.

من هنا يصبح دعم الموظف وتطويره وتحصينه بالمعرفة والمهارة والثقة واجباً لا خياراً. فالمدير حين يستثمر في تدريب فريقه، ويمنحهم المسؤوليات المناسبة، ويحميهم من العبث والضغوط العشوائية، إنما يحمي اختياره هو، ويحافظ على هيبته أمام الإدارة العليا وبيئة العمل معاً. أما حين يتركهم نهباً للأخطاء دون توجيه، أو يرضى أن يظهروا ضعفاء مترددين، فإنه يعلن ـ من حيث لا يشعر ـ ضعفاً في قراره الأول حين اختارهم، أو عجزاً عن استكمال بناء صورتهم المهنية.

وعلى الوجه الآخر فإن اللجوء إلى العقاب السريع والنقد والتدقيق المستمر في التفاصيل ليست إدارة بقدر ما هي تعبير عن خوف وفقدان في ثقة القرار. فالموظف الذي يعيش تحت عين المراقبة الدقيقة وتهديد العقوبة الدائمة لا يحمل الجرأة على الابتكار، ولا يبادر بالحلول، بل يكتفي بأدنى ما يبرئ ساحته دوماَ. هذه السياسة لا تضعف المرؤوس وحده، بل تضعف صورة المدير أيضاً؛ لأنه يُرى كمن لا يثق بأحد، ولا يحسن تمكين أحد، ولا يصنع من حوله رجالاً يقفون في الميدان باسمه.

لقد مارست الجيوش قديماً أرقى أشكال الإدارة في ساحات المعارك؛ تنظيم، وتسلسل قيادي، وتمرير للخبرة من جيل إلى جيل. كان القائد الحكيم يصنع من قواده وعمّاله امتداداً لقراره، فيرتفعون برفعته ويثبتون سلطانه عند غيابه. وما حوّل هذه القوة إلى فتنة إلا حين ابتعد القوم عن رأي الجماعة وتفرد صاحب القرار برأيه، يخشى أن يشاركه أحد ، فيُضعِف رجاله كي يبقى هو الأعلى. وهذا بعينه ما يحدث حين يخاف المدير من تميز موظفيه، فيحجمهم بدل أن يرفعهم، ويكتم أصواتهم بدل أن يسمعهم.

العبرة التي تحملها تلك الواقعة أن من يستخف بقيمة من ولاهم، إنما يستخف بقيمته هو. فالمدير الرشيد من يدرك أن كل موظف هو فرصة أن يكون صورة مشرّفة له، فيمنحه العلم، ويحوطه بالثقة، ويقومه بالعدل لا بالخوف، فيرث بذلك اسماً حسناً وأثراً ممتداً، ولو تبدلت المناصب وتعاقبت الأجيال.
تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير