التعليم العالي على مفترق طرق
د. موسى شتيوي
القبة نيوز-شكّل ولا يزال التعليم والتعليم العالي علامة فارقة في مسيرة التنمية بالأردن في العقود الماضية. نموذج التعليم العالي كان يقوم على التعليم أكثر منه على البحث العلمي، قد يكون هذا مفهومًا لأن المهمة الرئيسية للتعليم العالي تمثلت برفد الدولة والمجتمع بخريجين يتمتعون ببعض المهارات الضرورية للعمل في المؤسسات العامة والخاصة ولكن هذا النموذج بدأ يفقد بريقه لتغير متطلبات التنمية والتي تحتاج إلى إنتاج المعرفة التقنية والعلمية الضرورية للتقدم الاقتصادي والمنافسة الاقتصادية إقليميا ودوليا والذي يقوم على الإبداع والابتكار والتطوير والتقدم التكنولوجي.
أحد أهم عناصر التفوق الاقتصادي والعسكري والسياسي اليوم يقوم على البحث العلمي الذي يعتمد على الجامعات بشكل أساس. بالتأكيد الجامعات الأردنية تقوم بالبحث العلمي من خلال الباحثين الموجودين لديها ولكن أغلب أساتذة الجامعات لا يمكن تصنيفهم كباحثين وعلماء وإنما أساتذة ومدرسون ومطلوب منهم أن يقوموا بإجراء بحوث ودراسات أغلبها لمتطلبات الترقية ومتطلبات إدارية أخرى.
وفي الغالب فإن عملية التدريس منفصلة عن عملية البحث ولا تقوم أغلب الجامعات بإدماج طلبة الدراسات العليا بأبحاث أساتذتهم وفي أغلب الحالات فإن الجامعات لا تخرّج باحثين بقدر ما تخرج مدرسين بالرغم من التفاوت بهذا المجال من تخصص إلى آخر.
أغلب الجامعات الرسمية تعاني من مشاكل مالية بعد تراجع الدعم الحكومي لها مما دفعها للتوسع في أعداد القبولات وخاصة بالبرنامج الموازي والدولي على أمل حل مشكلتها المالية. وبالمقابل فإن الجامعات الخاصة هي أيضًا ليست جامعات بحثية وبالرغم من أنها مسجلة كشركات غير ربحية إلا أن تحقيق الربح يبقى عاملًا مهمًا لدى هذه الجامعات. البحث العلمي السائد في أغلب الأحيان يقوم على نموذج الباحث الفرد. بينما من المعروف اليوم أن أغلب النشاطات العلمية والبحثية عالميا يغلب عليها طابع العمل الجماعي والمؤسسي وليس الفردي.
مشكلة البحث العلمي تتجاوز الجامعات وترتبط بمدى رؤية الدولة للبحث العلمي ودوره في الأهداف التنموية والذي يكاد يكون غائبيًا عن الحكومات المتعافية التي أغلبها لا يحمل مشاعر إيجابية للعلماء والخبراء الأردنيين وتقوم بالمقابل باللجوء إلى الخبراء الأجانب والشركات الأجنبية لإجراء دراساتها والحصول على استشاراتها بأسلوب تنقصه الشفافية. بالمقابل فإن الحكومات لا توفر الإمكانيات والمصادر المالية اللازمة للنهوض في البحث العلمي وربطه بالأهداف الاقتصادية للدولة.
تقدم الأمم يقاس اليوم بمقدار استثمارها في البحث العلمي والإنفاق عليه وحسب إحصاءات اليونسكو للعام 2017 فإن الأردن تنفق أقل من نصف بالعشر بالمائة من الناتج المحلي على البحث العلمي بينما بالمقابل تتصدر كوريا الجنوبية وإسرائيل نسبة الإنفاق على البحث العلمي والتطوير عالميا بنسبة 4.3 % من الناتج المحلي الإجمالي بالطبع تبقى الولايات المتحدة الأكثر إنفاقًا بالأرقام المطلقة على البحث العلمي تليها الصين.
في كتابه بعنوان «جامعات عظيمة» يوثق عالم الاجتماع الأميركي جوناثان كول سر نجاح نموذج الجامعات الأميركية والتي تعتبر عاملًا رئيسيًا في التفوق الاقتصادي والتكنولوجي للولايات المتحدة والسر برأيه يكمن في أهم الجامعات الأميركية تقوم على نموذج التدريس والبحث العلمي معا وأن أكثر من 70 % من الابتكارات التكنولوجية تأتي من هذه الجامعات.
المسألة الأخرى المهمة التي أشار لها الكتاب هو الدور الكبير الذي يلعبه القطاع الخاص بالإضافة للحكومة في تمويل البحث العلمي للجامعات وهو الدور شبه الغائب أو المحدود جدا بالحالة الأردنية.
إن مؤسسات التعليم العالي على مفترق طرق فإما أن تغير النموذج الذي حكمها بالعقود الماضية والقائم على التدريس أو تبدأ بعملية التحول وتبني النموذج الناجح عالميًا القائم على البحث بالإضافة للتدريس. هذه العملية لا تتم بقرار وإنما تتطلب رؤية وطنية مدركة ومقتنعة بأن التعليم العالي يجب أن يكون المحرك لعملية التنمية والنهضة المنشودة وأن هناك ضروره لتوفير المصادر المالية الكافية للجامعات للقيام بهذه المهمة واختيار نخبة أكاديمية قادرة على قيادة هذا التحول وبالشراكة مع القطاع. الغد