facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

آخر المتزلفين

آخر المتزلفين

يوسف غيشان


القبة نيوز-الغريب أن الوالد والوالدة استقبلا القاتل بترحاب لا يليق بقامته ولا بظهره المحدودب لكأنه الممثل البديل في فيلم (احدب نورتردام) في الواقع كانوا يستقبلون الموظف الحكومي بالترحاب والخوف في ذلك الزمان ، مع أن هذا النمر المزيف لم يكن سوى موظف بلدية صغير أنيطت به مهمة تسميم الكلاب ، كلما انتشر مرض السعار في المنطقة .

لا أذكر كيف أدركت اللعبة لحظة دخول الرجل إلى حوش البيت، ربما كنت بالسادسة.

حتى الجرو أحس بهول ما يحدث؛ فازداد التصاقا بي وهو يرتعد؛ فاحتضنته ثم شرعت مع إخوتي بالزعيق. شقيقي لم يكتف بالمشاركة في الكورال ،بل انغمس أيضا في أداء رقصة تعبيرية ،وانهمك في التمرغ فوق تراب الحوش الملضوم بمخلفات الدجاج والأرانب التي تربيها الوالدة معنا في ذات (الفيلا) . أما أختي الصغرى، ريما، التي لم تكن قد أكملت عامها الثاني بعد – حسب تقديري- فقد دوزنت صرخاتها الهستيرية مع رقصة المرمغة التعبيرية التي كان يؤديها شقيقي بكل كفاءة واقتدار. نبيلة اختي الثانية..كانت أقل كربا منا ، لذلك فقد كانت تغش ...إذ تفتح فمها على مصراعيه دون أن تصدر أصواتا تذكر، متوهمة بأننا في ظل حالة الحداد المبكر لن نكتشف خديعتها.

بالكثير من التبجح نهض الرجل، وأخرج قطعة لحم حمراء مكعبة بشكل لافت. غمسها بمسحوق أبيض ثم قرّب يده الممدودة من الجرو الذي لعقها بامتنان، لم يدرك إلا متأخرا بأنه لعق يد الرجل غير المناسب وفي الوقت غير المناسب إطلاقا. استدرك؛ فقد نسيت حالة الحداد وهجمت على قطع اللحم وحاولت اختطافها من كف الرجل قبل أن يقضمها الجرو. لكن ذلك الشرس استأسد علي وردني بوحشية، فيما أكملت الأم المقرر وأوسعتني ضربا وشتما وهي تصرخ مثل طرزان. وتقول وتكرر:

ــ ولك مسمومة يا بغل !!!!!!

لم افهم في البداية ماذا تعني كلمة «مسمومة»، على اعتبار أنى فهمت كلمة بغل تماما (اسم الدلع) ...قطعة لحم حمراء رائعة توهب لجروي الذي توهمت بأنهم يتآمرون عليه، بينما يتعين عليّ الصمود لشهر أو أكثر قبل الحصول على قطعة مشابهة على الغداء.

أقعيت متلمظا وأنا أحدق بالجرو وهو يلتهم قطعة اللحم بكل أبهة حتى أجهز عليها .... أصابته أولا حالة من المرح الزائد فور ازدراد المكعبات اللحمية، ثم صار يطارد ذيله ويدور حول ذاته مثل أي كلب مدلل. بعد قليل صارت حركاته أكثر عشوائية، ثم شرع يقع ويقوم بشكل مرتبك مثل سكران.

توقفنا عن العويل حينما بدأ الجرو يتمايل ..... صمت يشبه جرحا مفاجئا ، لم يقطعه سوى عويل الجرو المسكين لكأنه طفل حديث الولادة ... سقط ثم قام ... سقط ثم قام، ثم سقط.... ثم لم يستطع النهوض، فانجعى على جانبه ، جاهد ليأخذ وضعا اقعائيا لكنه لم يفلح ، نجح فقط في أن يركي ذقنه على قدميه .... نظر إلينا بقنوط..ثم نام ... نام إلى الأبد.

ــ ادفنوه كويس ....!!!!

ثم حيّـــانا الرجل وخرج .

كانت هذه أول مواجهة لي مع الموت، ارتعبت من الداخل وهزني قلق وجودي لا يليق بعمري، إذ كان علي أن أهرق المزيد من السنوات قبل أن أدرك أنني أيضا قادر على الموت..و أني سوف أتناول قطعتي المسمومة رغما عني. لكني تعلمت ألا أتعاطى اللحم من أيدي الآخرين وان لا أتناوله إلا مع (العرق) وبعض الجهد.

الدستور


تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير