إلى تيسير السبول، بين يدي انتحاباته ..
- تاريخ النشر : 2019-02-15 15:08:02 -
القبة نيوز-مت واقفاً وتحمّل عبء المرحلة، ما كان الموت ليزورك يابن الشتات ويا نبي المهزلة... محمد سمّور الرفوع.
بَكَّرَ "عربيُّ" الطفيلة في الإنتحابِ أمام المشهد الرثّ. ناء بالحلم الثقيل، فاتخذ من مصرع القطة سبيلا للهروب. كانت عمّان ودمشق وبيروت بديلا مُواتياً لماء الجهير، وكانت الرصاصة خيار نفسه ونتاج انكساراته.
اِغْتَدَى، فتَسَنَّمَ التلال وأشرفَ على ضفة النهر، أَطْرَقَ حين تَوَسَّمَ النصر في أعالي الجباه، لكن قدماه خانتاه، فأيقن أن النشيد قد أَخْلفَ وَعْدَهُ، فآب للمقهى كَاسِفَ النفس شاجنا.
كان "عربي"، ملء العين عروبةً وثورة، كان في الطفيلة وفي عمّان، يقرأ على الشوارع ترانيم البيادر، ويعلّم الفتية نغم العَلَم.
قال لنا في ثنايا " أنت منذ اليوم"، ما قاله على الأثير، وفي المنابر. ما قاله وما لم يستطع أن يفصح عنه. وقرأ في "هندي احمر" نزق الشباب القَلِق في مقاهي بيروت، وصدمة الحضارة وإِبْطاء التقدّم.
أوغل في الحزن وهو يقرأ مرثية الشيخ أبيه، رجل البندقية الممتاز، وفي الجمال وهو يُترجم لفيتزجيرالد عن الإنجليزية رباعيات عمر الخيام، وفي النقد حين يتلمّس نفس المتنبي الممتلئة بالحسرات.
في أحزانه الصحراوية إِقْتَفَى أَثَرَ حداثة الشعر، تلك التي استقام عودها بكوليرا نازك الملائكة ومطر السيّاب، غير أنّه رغم تغليف حروفه في كل قصائده، بالحسرة والأسى، قد حقّق موطىء قدم مناسب، إزاء الكبار في الشعر وفي الثورة وفي الفكر.
تقاذفته تصاريف حياته القلقة بين الجنوب وفي كل الاتجاهات، بقي في طليعة قادة الفكر السياسي الناضج في خمسينات وستينات القرن الماضي، وقد وَسِعَ كلَّ الشعارات والهتافات في حروفه التقدمية الجميلة، فأضحى بإبداعه نموذجا متقدما لحياة حزبية مثلى يمكن للشاب الحزبي العارف أن يسلك طريقها غير عابىء.
اعْتُبِر تيسير السبول، أحد ثمار التجربة الريادية السياسية في عقد الخمسينات. كان يكفي آنذاك أن تَسِمَ الشاب بالحزبية لتلصق به تهمة الخيانة. لقد أفصح في إبداعه عن هواجس الشاب العربي في مرحلة العنفوان لليقظة العربية، لكنه أبدا لم يستسلم، وظل على الدوام يرفع عقيرته بالصراخ على بؤس المشهد وتداعيات الخيبات فيه.
كتب تيسير في السياسة والنقد، وفي الشعر، لكن أيّاً من أعماله لم تخلو من إشارة للإنكسارات، قرأ أشواق ابن عربي، وقال في استهلال بحثه أن الخفقة الأولى للشوق هي الهاجس، وقد رأى في حياة ماياكوفسكي وفي شعره، قصة حياته، فانتهى إلى ما انتهى إليه صاحب قصيدة غيمة في بنطال: الانتحار في نهاية سنوات عمريهما الثلاثين.
رحل تيسير حزيناً على مآلات الامة بعد حروبها الخاسرة، وأنهى حياته برصاصة الانتحار، وقد خلّف للتاريخ شهادته الكاملة في رواية وديوان شعر وسلسلة دراسات وأبحاث نقدية في الشعر والأدب والسياسة، وريادة كاملة في مدارس النقد والأسلوب الأدبي في القصة والرواية والشعر.
من المؤكد أن من قام بجمع الأعمال الكاملة لتيسير السبول هي زوجته المرحومة الدكتورة مي اليتيم، وقد كان ذلك حصيلة أوراق تيسير بخط يده، فيما طبعتها دار ابن رشد للطباعة والنشر عام 1980، وتقول زوجته حسبما ورد في الأعمال الكاملة طبعة دار ابن رشد، أن تيسير قد عكف طيلة عام كامل على كتاب كبير تضمن دراسات سياسية، لكنه أحرقه بعد أن انتهى من تأليفه، واستطاعت ان تجد أوراقا من الكتاب تحدث فيها تيسير عن الرسالة العربية وطريق الثقافة العربية المتجددة وعن المسألة اليهودية في شكلها المعاصر، وهي أوراق منشورة في أعماله الكاملة.
ما زال تيسير أحجية غامضة. لقد صنعت له ارجوحة الحياة دُوَاراً وقلق، لكنه رحل بعد أن ترك إرثاً من الإبداع خالدا.
لروحه السلام.
تابعوا القبة نيوز على