هيئة تحرير الشام: من النخبة والحلقة المقربة من أحمد الشرع؟
القبة نيوز- بين ليلة وضحاها باتت هيئة تحرير الشام حديث العالم العربي، والأوساط السياسية الغربية، بعدما كانت لفترة طويلة خارج دائرة الضوء، تمثّل تنظيمًا هامشيًّا في نظر العديد من السياسيين والباحثين، وشأنًا إقليميًّا تركيًّا- إيرانيًّا- روسيًّا في أحسن الأحوال، وبالرغم من أنّ الهيئة باتت موضوع التغطيات الإعلامية والنقاشات السياسية، إلاّ أنّ الحديث حولها ما يزال أسير الانطباعات والمواقف المسبقة أو الأفكار العامة، وما تزال التحليلات السياسية والأمنية تطرح تساؤلات عديدة عن لغز تحولات أبو محمد الجولاني والتطور السريع في خطابه السياسي، من شخصية مغمورة في تنظيم القاعدة وأحد السجناء السابقين في السجون الأميركية في العراق، إلى قائد فعلي في سورية الجديدة.
على الطرف المقابل فإنّ الأسئلة الأخرى عن الهيئة والنخبة السياسية والتنظيمية الفاعلة حول الجولاني تبدو أكثر مخاتلةً وتعقيداً، ويقفز بصورة رئيسية سؤال جوهري: من هم رفاق الجولاني؟ ومن هم صناع القرار في الهيئة؟ هل هو متفرد في حكم الهيئة أم هنالك قيادات ساهمت وقامت بدورٍ فاعل في هذه التحولات الأيديولوجية والسياسية؟ ومن هي هذه الشخصيات البارزة؟ ماذا عن رئيس الحكومة الانتقالية الجديدة، محمد البشير، هل هو عضو في هيئة تحرير الشام؟ وهل الأعضاء الآخرون في الحكومة يمثلون خطًّا أيديولوجيًّا معينًا؟.
الخطوط العريضة في الهيكل التنظيمي
كان للتحول الذي طرأ على تنظيم "جبهة النصرة” بين عامي 2016-2017، وما رافقها من إعلان انشقاق "النصرة” عن تنظيم القاعدة، بالترافق مع اندماج فصائل وكتائب معارضة للنظام السوري السابق (نظام الأسد)، دورًا في نشوء تنظيم هيئة تحرير الشام، وذلك ضمن بيئة من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، الذي شكل ولادة من رحم أيدولوجية إسلامية انتهجت مسارًا مغايرًا برزت ملامحه في أدبيات التنظير والواقع الميداني للهيئة، حيث عملت على "سورنة” التنظيم والتركيز على النزاع المحلي في سوريا.
كحال البنى التنظيمية للحركات الجهادية كان لجبهة النصرة "أمير” يترأس التنظيم، بالإضافة إلى مجلس "شورى المجاهدين”، إلا أن التحول إلى تنظيم الهيئة تولى فيها "القائد العام” -أبو محمد الجولاني- قيادتها عام 2017 بعدما كانت القيادة بيد هاشم الشيخ، ويتبع للقيادة مجلس شورى عام يرتبط به جملة من الأقسام أو المكاتب المتعلقة بالأمن، والدعوة، والخدمات، والاقتصاد، والإعلام، والسياسة، والعسكرة، ويعمل كل قسم أو مكتب ضمن هيكلية إدارية متعددة الجوانب، فتوصف بنية التنظيم بتعقدها ويشوبها عدم القدرة على الوصول إلى كافة زواياها، إلا أنه سيتم عرض أهم وأبرز المناصب.
كان يعتبر أبو ماريا القحطاني من أهم الشخصيات في هيئة تحرير الشام، حيث شغل منصب رئيس مجلس الشورى في الهيئة[1]، قبل أن تندلع الخلافات بين تياري الهيئة، والتي تنقسم بين تيار "بنش” وتيار "الشرقية”، وذلك نتيجة للاختلافات الأيدولوجية في مسار العمل، وملفات أخرى تتعلق بقضية "العمالة” و”مخططات الانقلاب”، بالإضافة إلى محاربة هيئة تحرير الشام لتنظيم "حراس الدين” المنشق عنها، وانبثق عن "صراع الأجنحة” قيادة "تيار بنش” من قبل عدة شخصيات أبرزها "قتيبة بدوي” والملقب بـ "المغيرة بنش”، وهو المسؤول الاقتصادي في الهيئة وآخر "حذيفة بدوي” الملقب بـ "أبو حفص بنش”، المسؤول عن المعابر والحدود.
استكمالًا لذلك، قاد "تيار الشرقية وحلب” ميسر بن علي الجبوري الملقب بـ "أبو ماريا القحطاني” وجهاد عيسى الشيخ الملقب بـ "أبو أحمد زكور”، وهما شخصيتان مقربتان من "الجولاني” ويمتلكان مواقع مهمة داخل الهيئة، وكان يسند إليهما ملفات أمنية حساسة، حيث تحظى الشخصيتان بعلاقات قوية مع فصائل وقيادين وقوى عشائرية في المنطقة، وأسفر الخلاف انشقاق أبو أحمد زكور عن الهيئة[2] واغتيال أبو مارية القحطاني بعد ما يقارب شهر من خروجه السجن[3].
وعلى المستوى الدعوي والشرعي، فيحظى الشرعي العام في هيئة تحرير الشام وعضو مجلس الشورى فيها عبد الرحيم عطون بمكانة مختلفة، وكان من أهم الشخصيات التي عملت على هندسة أهداف الهيئة ومحللتها في محاربة النظام السوري السابق، ويعتبر عطون الذراع الأيمن لقائد الهيئة "أبو محمد الجولاني-أحمد الشرع”، وفي خلفية مقتضبة عن عطون؛ يُعرف أيضًا بأبي عبد الله الشامي وهو ذو توجهات سلفية، ولد في قرية بمحافظة إدلب، وتَلقى تعلميه الشرعي في تركيا، وتتلمذ بعدها على يد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في الأردن، واستقر في الأردن بسبب تعرضه للاعتقال من النظام السابق عدة مرات.
عاد عطون إلى سوريا وانضم إلى "جبهة النصرة” مع اندلاع الثورة السورية، وأصبح من المقربين إلى "أبو محمد الجولاني””، أعلن استقالته من الهيئة عام 2018 وتعليق عمله في جميع المناصب داخلها دون ذكر الأسباب، لكنه استمر مقربًا من الهيئة وحكومة الإنقاذ التابعة لها، ويدلل على ذلك مشاركاته في ندوات ومقابلات مصورة قامت بها "حكومة الإنقاذ” والهيئة.
فيما كانت تعتبر هيئة تحرير الشام من أكبر الفصائل المسلحة في الشمال السوري من حيث صنوف القوات وأسلحتها، إذ تمتلك الهيئة من بين الوحدات العسكرية لها أشبه ما يطلق عليه "كوماندوس” تحت اسم "العصائب الحمراء”، تنطلق مهامها بالقيام بعمليات خاصة خلف خطوط العدو، وتم تدريب هذه الوحدات من قبل شركة متخصصة، وتتميز قوات العصائب الحمراء بالتدريبات العسكرية القاسية والبدنية العالية بالإضافة للتوجيه الشرعي اللازم، وتتلقى دعمًا واهتمامًا خاصًا من الهيئة لاعتبارها ركيزة أساسية في العمليات العسكرية.
يلحق ذلك؛ امتلاك الهيئة جهازًا أمنيًا عامًا، ويعتبر الجهاز مستقلًا، ويعمل بالتنسيق مع الإدارة المركزية لهيئة تحرير الشام، وتعين شخصًا بصفة "أمني عام” لكل منطقة، فيما يعمل تحت إشراف الأمني العام شبكة من الأمنيين والمباحث العاملين بصفة مدنية في كل مؤسسات المجتمع المدني من صحة وتعليم، ومجالس محلية، وبلديات، وغيرها[4].
حكومة الإنقاذ؛ حكومة تسيير الأعمال
أُعلن عن تشكيل "حكومة الإنقاذ” في الشمال السوري وتحديدًا في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، حيث تعتبر الجناح السياسي والإداري والمدني للهيئة، تشكلت الحكومة من 11 حقيبة وزارية حينها برئاسة محمد الشيخ حينها، شملت وزارة الداخلية، العدل، الأوقاف، التعليم العالي، التربية والتعليم، الصحة، الزراعة، الاقتصاد، الشؤون الاجتماعية والمهجرين، الإسكان والإعمار، والإدارة المحلية، إذ سلمت "الإدارة المدنية للخدمات” التي كانت تتبع لهيئة تحرير الشام مؤسساتها الخدمية من مياه وكهرباء وغيرها لـحكومة الإنقاذ، التي قامت بالعديد من مراجعات للهيكليات الوزارية والقيام بعمليات إندماجية[5].
مؤخرًا، وبعد إسقاط نظام الأسد، كُلّف رئيس حكومة الإنقاذ محمد البشير بتولي رئاسة الحكومة الانتقالية في سوريا وتستمر حتى بدايات شهر مارس 2025[6]، وبين مهام حكومته الرئيسية والمتعلقة في ضبط الأمن والحفاظ على استقرار المؤسسات، وضمان عدم تفكك الدولة لحين البت في القضايا الدستورية وتشكيل حكومة جديدة تحقق تطلعات المجتمع السوري.
أما عن شخص البشير فهو سياسي سوري، عمل خلال الحرب في سوريا وفي ظل التدهور في الأوضاع الإنسانية على الملف الإنساني، حيث تولى إدارة معهد الأمل التعليمي، وهو معهد يدعم الأطفال المتضررين من النزاع عبر توفير التعليم في ظل غياب الدولة، وانخرط لاحقًا في حكومة الإنقاذ وشغل مناصب متعددة منها مدير شؤون الجمعيات في وزارة التنمية والشؤون الإنسانية، وفي عام 2022 عُيّن وزيرًا للتنمية والشؤون الإنسانية في حكومة الإنقاذ، حتى أصبح رئيسًا لحكومة الإنقاذ هذا العام، إلا أنه وبعد تعيينه رئيسًا لحكومة تسيير الأعمال في الفترة الانتقالية تداول نشطاء حديثه الذي يشير إلى وجود علاقة للبشير مع الإخوان المسلمين، ولكن لا يوجد ما يؤكد على ذلك حتى اللحظة، إلا أنه يتأرجح بين خيارين فإما أن يكون من جماعة الإخوان المسلمين أو من المتأثرين بخطابهم.
ويتبع ذلك؛ تشكل حكومة تصريف أو تسيير الأعمال من عدد من وزراء حكومة الإنقاذ التي كانت تعمل ضمن مناطق في إدلب، لضمان استمرار تقديم الخدمات للشعب السوري[7]، إلا أن حكومة تسيير الأعمال تتعامل اليوم مع مخلفات إدارية ضخمة من نظام الأسد وأزمات مركبة، فضلًا عن غياب العملة الأجنبية عن الحكومة وعدم امتلاكها إلا "الليرة السورية” والتي لا تساوي شيئًا[8]، نتيجة لأسباب عديدة منها أمد الأزمة والعقوبات الدولية والإدارة السيئة لموارد الدولة.
وفيما يلي عرض مقتضب لخلفيات أبرز وزارات ممثلة بشخصيات حكومة الإنقاذ-حكومة تسيير الأعمال:
– وزارة العدل وزيرها شادي الويسي، عمل مدرسًا لمادة التربية الإسلامية ينشر من خلالها القيم التربوية والإسلامية بين الشباب، وشغل منصب إمامة وخطيب لمدة سبع سنوات، يعتبر من الشخصيات المقربة من قيادة "هيئة تحرير الشام” وتبعًا للبيئة الاجتماعية والسياسية والعسكرية المتداخلة والمعقدة بشكل ما في الهيئة، فإنه يعمل ضمن تلك البيئة على غرار الوزراء الآخرين.
– أما عن وزارة الداخلية فوزيرها محمد عبد الرحمن، وهو ضابط منشق عن الجيش السوري عام 2012، وانضم إلى فصائل المعارضة السورية، ويذكر أنه تخرج من الكلية الحربية في حمص، تدرج في المناصب القيادية كان من بينها شغله لمنصب المشرف العام على المنطقة الوسطى بين عامي 2020 و2021، وفي عام 2022 عين وزيرًا للداخلية، وقد أعلن في تصريح له عبر التلفزيون العربي توجه الحكومة نحو إغلاق الفروع الأمنية التي تتبع لنظام الأسد، ووضع خطة متكاملة يتم عبرها الحفاظ على أمن واستقرار البلد للوصول إلى المجتمع الآمن[9].
– يعتبر وزير الأوقاف حسام حاج حسين من دعاة تعزيز التعليم الشرعي الوسطي، الذي ينشر من خلاله قيم التسامح والتعايش بين مكونات المجتمع السوري، مع التركيز على دور المؤسسات الدينية في بناء السلام والاستقرار، وهو وزير للأوقاف منذ الدورة الرابعة لحكومة الإنقاذ عام 2021، أشرف على تنظيم وإدارة المؤسسات الدينية في المناطق المحررة وكان يحافظ على تواصله مع المجتمع عبر الالتقاء بمسؤولي التعليم الشرعي وإجراء الجولات الميدانية لتفقد المؤسسات التابعة للأوقاف.
– فيما برز وزير الإعلام محمد العمر كناشط إعلامي خلال الثورة السورية، عمل خلالها على توثيق أحداثها ونقلها عبر الوسائل المختلفة، وتولى هذا المنصب في الدورة السابعة لحكومة الإنقاذ وعمل على تطوير المؤسسات الإعلامية في "مناطق المحرر”، وأعرب بعد استلام الحكومة تسيير الأعمال هذه الفترة عن سعيه لإعادة هيكلة الإعلام بما يتوافق مع متطلبات المرحلة الجديدة في سوريا، مع التأكيد على دعم حرية الصحافة والتعبير ومكافحة الفساد لتأسيس مشهد إعلامي جديد يهدف لإصلاح المؤسسات الإعلامية.
خاتمة
يستدل من ذلك، على الرغم من وجود هياكل وبنى تنظيمية شكلت حالة خاصة من التشابك المدني والسياسي والعسكري، وبوجود شخصيات عديدة يقوم كل منهم بمهامه وفقًا لمكانه ومنصبه، إلا أنه يبدو هناك ضرورة لأن تتوافق "أيدولوجية العمل” مع توجهات وتحولات الهيئة، التي تنبثق عن ممارسة في مجتمع، وبرؤية واقعية براغماتية، وتحديدًا مع توجهات "الجولاني”، لكن اليوم وفي ظل السيطرة على مساحة جغرافية أوسع ومكونات مجتمع متعددة التوجهات والأطياف، لا بد من أن يُطرح تساؤلات عن سلوكه ومدى جديته في المرحلة المقبلة، ذلك دون أن تختزل القوى السياسية أو العسكرية وحتى المدنية بأحد الأطراف أو إقصاء طرف من المعادلة الجديدة.
في حين تستمر هيئة تحرير الشام -الفصيل الأبرز ضمن فصائل عملية ردع العدوان التي أسقطت النظام الأسد- وبصفتها قائدًا للعملية في إرسال إشارات طمأنة وانفتاح على مكونات المجتمع السوري، إلا أن الواقع لا يخلو من وجود تخوف مما قد يأتي لاحقًا، لكن توجد إشارات لوجود ملامح لتفاهمات سورية-سورية للمرحلة القادمة، في ظل تصريحات حل كافة أشكال الفصائلية-بما فيهم هيئة تحرير الشام- وتوحيدها في منظومة سورية متكاملة تعبر عن الشعب أجمع، ورفض أي انقسامات داخل الأراضي السورية، التي تتطلب وجود لجان تعالج جوانب عديدة لأزمات السوريين، يتقاطع مع ذلك وجود إشارات بوادر لإعادة إحياء مؤسسات الدولة على نهج أكثر استقلاليةً وبما يحفظ حقوق الشعب السوري.