المصري: فك الارتباط مع الضفة حسم خروجي من الحكومة واعتبرته إهانة شخصية
* «الحقيقة بيضاء».. مذكرات طاهر المصري توثق أزمة «قمة الجزائر»
القبة نيوز- تنشر «الشرق الأوسط» حلقات من مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق طاهر المصري، التي اختار لها عنوان «الحقيقة بيضاء»، كاشفاً عن معلومات وحقائق لمحطات من تاريخ الأردن السياسي، بعد تعاقبه على مناصب مختلفة منذ عام 1973، واشتباكه مع مركز القرار في عمر مبكر، وعلى مدى سنوات طويلة.
ويروي رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري، في الحلقة الثالثة والأخيرة من مذكراته التي تصدر اليوم بعنوان «الحقيقة بيضاء»، المقدمات التي أسفرت عن اتخاذ المملكة قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية في 1987، بعد قمة الجزائر الطارئة.
ويؤكد المصري، في كتابه أن قمة الجزائر التي عقدت في 1987، بعد انعقاد قمة عمان بأشهر، كانت بهدف «استثناء الأردن، وتغييبه عن أي نشاط سياسي، وعزله عن أي دور داخل الضفة الغربية»، في حين كان الراحل الملك حسين يسعى إلى عقدها لحشد الدعم للعراق، وتعزيز التضامن العربي معه، ولتحقيق برنامجه الهادف إلى لم الصف العربي وإجراء المصالحات.
ويروي كيف أن قمة الجزائر، واستثمار ياسر عرفات لها، مستغلاً الانتفاضة الفلسطينية لصالحه للحصول على استقلالية أوسع، وتوجيه جهده نحو تشديد قبضته على الضفة الغربية وإبعاد الأردن عنها، بدعم دول عربية له آنذاك، كانت المقدمة التي أدت إلى قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة.
القرار الأردني الذي لم يكن المصري على علم به، وتفاجأ بسماعه عبر التلفزيون الرسمي، تسبب بخروجه من الحكومة، محتجاً على ما آلت إليه العلاقة الأردنية - الفلسطينية في تلك الفترة، سارداً سلسلة مواقف أعلن عنها داخل اجتماعات رسمية أمام الملك حسين، وولي عهده آنذاك الأمير الحسن، وداخل مجلس الوزراء.
وفيما يلي نص الحلقة الثالثة والأخيرة:
بعد جهد كبير، نجح الملك في عقد قمة عربية في عمان لمتابعة الحرب العراقية - الإيرانية التي كانت في أوجها، والتي كانت نتائجها تتأرجح بين معركة وأخرى، وذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) 1987.
كان هدف الملك من هذه القمة حشد الدعم للعراق، وتعزيز التضامن العربي معه، خصوصاً أن دولاً مثل سوريا والجزائر وسلطنة عمان لم تكن داعمة له في حربه مع إيران، لكن المفصل الأهم هو المفصل السوري، وكان نجم طارق عزيز لامعاً إلى أبعد الحدود، كونه وزيراً للخارجية العراقية.
كنت رئيساً لمؤتمر وزراء الخارجية العرب، كون الأردن هو البلد المضيف، وعقدنا اجتماعاً صعباً للغاية لصياغة قرارات تدعم العراق، وتدعم التضامن معه، وكانت الحكومة العراقية راضية عن نتائج هذه القمة.
كان من أهداف عقد القمة جمع الرئيسين صدام حسين وحافظ الأسد، وكان الملك ينظر إلى أهمية هذا اللقاء الذي سينعكس إيجاباً على سوريا والعراق. وعقد لقاءات عدة مغلقة، اقتصرت على القادة العرب، وكان صدام حسين منطقياً للغاية في عرضه لموقفه، وكان الملك معجباً بموقفه، لكن بالنتيجة لم يحصل الوفاق بين بغداد ودمشق.
أما «أبو عمار»، فكان متوتراً للغاية، لأنه كان يتوقع أن يحظى باستقبال رئيس دولة في المطار، فيستقبله الملك حسين، الأمر الذي لم يحصل، إذ إن زيد الرفاعي هو من استقبله، وظهرت على عرفات علامات الاستياء التي لازمته طيلة أيام المؤتمر، وانتشر أمر استيائه في أروقة منظمة التحرير.
وأذكر أن طالبات مدرسة في مخيم جباليا في غزة كن يتظاهرن ضد الأردن لتجاهله عرفات في ذلك المؤتمر، وكانت دورية عسكرية إسرائيلية تمر قرب مدرسة المظاهرات، فدهست أربع فتيات واستشهدن. وفي غزة، بدأ الاحتجاج على هذا الحادث، وعلى الأردن، وكانت الشرارة الأولى للانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انتشرت بسرعة لتعم كل أرجاء فلسطين.
وتسارعت أحداث الانتفاضة، وبدأ رصيد منظمة التحرير وياسر عرفات يرتفع نتيجة اندلاعها بعفوية ومن غير سلاح. وكانت أجواء الشارع العربي معجبة داعمة لهذا العمل السلمي والثورة الشعبية المتسلحة بالحجر في مواجهة الدبابة الإسرائيلية.
ورغم الأحداث تلك، كان الملك حسين يعوّل كثيراً على رئاسته القمة، وكان ينوي من خلالها مواصلة السعي لتحقيق برنامجه الهادف إلى لم الصف العربي، وإجراء المصالحات عبر الجامعة العربية، وذلك على امتداد فترة كان يعتقد أنها ستطول كثيراً، لكن توقعاته لم تدم طويلاً.
ففي يوم من أواخر شهر مايو (أيار) 1988، زار الأردن الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير خارجية الجزائر، وقد التقيته قبل مقابلته الملك حسين. كان حديثي معه عابراً عادياً، ولم يفصح خلاله عن أهدافه من تلك الزيارة، مؤثراً الحديث عنها مع الملك مباشرة.
اصطحبت الإبراهيمي إلى قصر بسمان، والتقى الملك، ليلقي بقنبلته التي فاجأتنا، وكان أول المتفاجئين بها الملك نفسه. فقد أعلن عن رغبة الجزائر بالدعوة إلى عقد قمة عربية في منتصف شهر يونيو (حزيران) المقبل بسبب الانتفاضة الفلسطينية، والوضع في الضفة وقطاع غزة، وضرورة اجتماع الزعماء العرب للبحث في هذا الأمر.
ظهر الاستياء سريعاً على وجه الملك، وبشكل واضح، إذ لم يستطع إخفاءه. فقد عد تلك الدعوة التفافاً على رئاسته للقمة العربية التي كان يعتقد أنها ستطول، لكنه لم يكن يتوقع أن يبقى رئيساً لنحو ستة أشهر فقط. كما عد أن تلك الدعوة سوف تفسد عليه برنامجه الطموح لنشاط سياسي مكثف، وهي تتناقض مع شعوره بأهمية أن يكافئ العرب الملك والأردن بصفته عميداً للرئاسات.
وقدر الملك نتائج قمة الجزائر. فقد كان يعرف تماماً أن عرفات سوف يستغل الانتفاضة لصالحه في القمة، وسيحصل على أكبر استقلالية، وعلى أوسع دعم سياسي، وسيكون جهده موجهاً نحو تشديد قبضته على الضفة الغربية، وإبعاد الأردن عنها ما أمكنه ذلك.
كان الملك يشعر، ومنذ سنين، بوجود تيار داخل القمم العربية يريد إبعاده عن ترؤس القمة. فالمغرب، على سبيل المثال، ترأس القمة ست مرات، إلى أن تقرر عقد القمة سنوياً، وبانتظام، في مارس (آذار) من كل عام، وبحسب الحروف الهجائية، بدأت من الأردن.
خرج الملك بعد انتهاء لقائه بالإبراهيمي وقد ودعه بفتور، وكان زيد الرفاعي حاضراً اللقاء، ولاحظ إصرار الإبراهيمي على ضرورة عقد القمة في الجزائر التي ستباشر بتوجيه الدعوات للقادة العرب خلال فترة قصيرة.
فهمنا جميعاً مقاصد هذه الدعوة وأهدافها، لذلك ذهبنا إلى قمة الجزائر متهيئين لمواجهة مطالب ياسر عرفات من الأردن، الرامية إلى إبعاده قدر الإمكان عن الشؤون الفلسطينية، مدعوماً هذه المرة بمواقف عربية متعددة مؤيدة له.
عقد المؤتمر، وكانت البوادر واضحة فيما سيؤول إليه، خاصة من خلال مشروع القرار الذي قدمته منظمة التحرير، وكان وفدها يضم فاروق القدومي وياسر عبد ربه وآخرين.
وظهرت المؤشرات الأولية من خلال لجنة الصياغة التي حضرها نيابة عن الأردن السفير لدى الجامعة العربية المرحوم طلال سطعان الحسن، بصفته عضواً في هذه اللجنة، وكان مشروع القرار يلغي أي دور للأردن، سواء أكان سلبياً أم إيجابياً، في دعم الانتفاضة.
وللأسف، لاقى هذا الموقف الفلسطيني تجاه الأردن هوى عند الوفد الأردني الغاضب أصلاً من هذا المؤتمر، الذي يرغب أصلاً بإبعاد الأردن عن منظمة التحرير وتركها وشأنها. وأظن أن هذه الحادثة كانت بداية للتفكير في اتخاذ قرار فك الارتباط القانوني والإداري بين الأردن والضفة الغربية.
اختلف الأردن والمنظمة في قمة الجزائر الطارئة التي عقدت في يونيو 1988، حول مطالبة المنظمة بالإشراف التام على الأموال المخصصة لدعم الصمود الفلسطيني، وعلى استثناء الأردن وتغييبه عن أي نشاط سياسي إقليمي أو دولي يتعلق بدعم الانتفاضة، وعزله عن أي دور له داخل الضفة الغربية أو في أي أمر يتعلق بالانتفاضة، وكأنه في هذه الحال مثله مثل أي دولة عربية أخرى، من أجل أن تمر كل القنوات السياسية والإنسانية والمعنوية التي تتعلق بالانتفاضة عبر منظمة التحرير.
وكان فاروق القدومي (وهو يقيم الآن في عمّان) شرساً في مواجهته للموقف الأردني الذي كان يدعو لإشراف فلسطيني - أردني مشترك، لكن المنظمة لم تقبل ذلك، وساندتها دول عربية وأيدتها، وصدر قرار بهذا المضمون.
بدأ الملك بالتشاور مع مساعديه ومع المسؤولين الأردنيين حول الخطوة التالية، واستمرت النقاشات بعد عودة الوفد الأردني إلى عمان. لم أكن ضمن حلقة التشاور لأن الملك يعرف أنني كنت أحمل وجهة نظر تتمسك بالإبقاء على ارتباط الأردن بالضفة الغربية، وبالعمل على استيعاب الرغبات الفلسطينية في المنظمة، لأن مصالح الفلسطينيين كانت -ولا تزال- مرتبطة إلى حد كبير بالأردن.
ألف الملك لجنة (ولم تكن بمعنى اللجنة الرسمية) ضمت كلاً من رئيس الوزراء زيد الرفاعي، والقائد العام زيد بن شاكر، ورئيس الديوان مروان القاسم، ووزير البلاط عدنان أبو عودة، ومدير المخابرات العامة طارق علاء الدين، وكانوا يجتمعون أحياناً في منزل مروان القاسم في جبل عمان، ويعملون على دراسة الخطوة التالية باتجاه فك الارتباط، ودراسة تداعياته المتوقعة والخطوات التي يجب أن تتبع القرار.
في الثامن والعشرين من يوليو (تموز) 1988، ألغيت خطة التنمية المتعلقة بالضفة الغربية التي وضعت في أغسطس (آب) 1986. وبعد ذلك بثلاثة أيام، أعلن الملك، عبر خطاب في التلفزيون الأردني، عن قرار فك الارتباط الإداري بين الضفتين، مؤكداً في الوقت نفسه على إبقاء الروابط والأواصر بينهما.
لم أكن على علم بما كان يجري الإعداد له إطلاقاً، وفوجئت تماماً بخطاب الملك عبر التلفزيون، معلناً قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية بدءاً من ذلك اليوم.
ورغم كل ما أورده الملك في خطابه لطمأنة الأردنيين من أصل فلسطيني الذين يقيمون في الضفة الشرقية، بشأن الروابط العائلية والاجتماعية والاقتصادية، فإن الإجراءات الإدارية التي مارستها الحكومة كانت عكس ذلك تماماً، إذ لم يتورع كثيرون من موظفي الدوائر المختصة بالوثائق والجوازات الأردنية عن التشفي والتعسف، فكانوا يلغون جوازات سفر الأردنيين من أصل فلسطيني بالمئات، وكان انقلاب الوحدة بين الضفتين إلى الانفصال بهذه السرعة مشهداً مؤلماً يعكس الروح والنفسية المتشفية.
كنت شخصياً من المعارضين لهذا العمل لأسباب وطنية وقومية، ولأسباب شخصية أيضاً، فقد شعرت بغضب شديد وإهانة شخصية لي، فأنا عنصر رئيسي في حكومة زيد الرفاعي، ولم أعلم بهذا القرار الخطير إلا عبر خطاب الملك في التلفزيون الأردني، وعبرت عن غضبي أمام الأمير حسن، إذ كنت مدعواً إلى العشاء في منزله ذلك المساء عندما أعلن الملك فيها خطابه، وقلت للأمير حسن إن هذا القرار نقطة سوداء في تاريخ الأردن.
كنت غاضباً من الطريقة التي تم بها تطبيق القرار، وكنت غاضباً لأسباب أخرى، غير تلك التي ذكرت بغية تبرير اتخاذ القرار، ومنها أنه جاء تلبية لرغبة منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء على طلبها، وكنت غاضباً لأن فك الارتباط سوف يضعف الدور الأردني في المحافل الدولية كافة.
صحيح أن قرارات قمة الجزائر، وممارسات ياسر عرفات، كانت تدعو إلى استقلال القرار الفلسطيني، وحصر شؤون الانتفاضة بالكامل في منظمة التحرير، لكنني لم أكن على علم بمدى رغبة المنظمة بهذا القرار الذي اتخذ من دون علمها، ومن دون أي ترتيبات معها، لكي تحتاط لهذا الأمر، وتتخذ الإجراءات الكافية لحماية مصالح أهالي الضفة الغربية، وتتحضر للسيطرة الكاملة على الأوضاع الفلسطينية الداخلية.
تبين لي لاحقاً أن أحد الأسباب الرئيسية لاتخاذ قرار فك الارتباط هو خوف النظام الأردني والأجهزة الأمنية من تداعيات الانتفاضة التي لم تشهد لها المنطقة مثيلاً من قبل. فهي ثورة شعبية يراها الشارع العربي للمرة الأولى، ويرى من خلالها تصميم الفلسطينيين جميعهم على مقاومة الاحتلال، وقد لقيت هذه التجربة الفريدة من نوعها الدعم والإعجاب من الشارع الأردني خاصة، والشارع العربي عامة. وبسبب العلاقات البنيوية والعضوية القائمة بين الضفتين، حرصت السلطات الرسمية الأردنية، وتحديداً الأمنية منها، على عدم وصول هذه الحركة إلى الشارع الأردني، لا سيما أن نصفه من الفلسطينيين، ولذلك تم التعجيل باتخاذ قرار فك الارتباط.
لم أدفع في آرائي وتحركاتي باتجاه إلغاء القرار إطلاقاً، ولم أكن لأفعل هذا وقد أصبح أمراً واقعاً، وظهرت بقوة الهوية الوطنية الفلسطينية التي كان مطلوباً ظهورها وتنميتها من قبلنا جميعاً.
عبرت لزيد الرفاعي عن امتعاضي الشديد من هذا الوضع، ورفضي الاستمرار بتحمل مسؤولياتي وزيراً للخارجية، وكان زيد حريصاً على أن لا تنخدش صورة التضامن الحكومي وقوتها بشأن القرار، فحاول استيعابي من خلال علاقتي الوطيدة به.
وفي جلسة مجلس الوزراء التي عقدت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1988، والتي اتخذ فيها قرار إلغاء وزارة شؤون الأرض المحتلة التي كان يشغلها آنذاك مروان دودين، وحل البرلمان، وكنت عضواً فيه منذ عام 1973، وهي المرة الأولى التي تزول عضويتي فيه، قلت ساخراً في تلك الجلسة إنني كنت أول وزير لشؤون الأرض المحتلة، وها أنا أرى الآن موت هذه الوزارة.
ذهبت والرفاعي إلى الديوان الملكي، وكان الملك حسين بانتظارنا. وأذكر أننا جلسنا في غرفة الطعام، ولا أذكر من شاركنا آنذاك. ورحب الملك بي بشدة، وطلب مني الجلوس إلى جانبه. أبديت له حزني وأسفي على قرار فك الارتباط لأن الضفة الغربية كانت من مسؤوليات الأردن والهاشميين، ولا تزال استعادتها من مسؤوليتهم، وأضفت أنني لست ضد إعطاء منظمة التحرير حقوقها في إدارة شؤون الضفة الغربية، لكن يجب أن يتم ذلك بطريقة ودية وبتفاهم، وبانتقال تدريجي، ومعاملة أهل الضفة الغربية معاملة أفضل مما يحدث الآن، حيث يتم إلغاء جوازات سفرهم فقط لأنهم من أصل فلسطيني، ما أدى إلى خسارة نصف سكان الأردن جنسيتهم وحقوقهم، وهم سكان الضفة الغربية، من خلال خطاب استغرق ساعة ونصف الساعة، ولا يوجد أي نص، لا في الدستور ولا في أي قانون أو قرار أردني، يجيز التخلي عن أراضي المملكة.
وكان من الواجب، كما عقدت الوحدة بين الضفتين عام 1950 من خلال الوسائل والآليات الدستورية، أن يتم فك الارتباط بينهما من خلال الوسائل الدستورية عينها، وليس تحت تأثير الانفعال بسبب قرارات قمة الجزائر أو أجوائها.
دافع الملك حسين بشكل مختصر عما جرى، وقال لي: «أريدك أن تتريث قليلاً قبل أن تترك منصبك، لأن هناك كثيراً من الأمور التي ننتظر ترتيبها، ونحن نحتاجك فيها». لم أجب بـ«نعم» أو بـ«لا»، ولم أتخذ أي قرار بشأن بقائي أو استقالتي. فقد تركت الأمور مفتوحة حتى تتضح لي تلك الترتيبات التي أشار الملك إليها. وانتهى اللقاء، وعدت إلى منزلي، وذهبت إلى الوزارة في اليوم التالي.
لم تغرني كثيراً محاولة استيعاب غضبي والتمسك بي، بل زادتني صلابة وإصراراً على موقفي، وإعلان رأيي بكل صراحة ووضوح. وقد رسخت ذلك خلال السنوات التالية، إذ كانت خلالها إرادتي قوية ثابتة. واستبعدت كثيراً فيما بعد، بسبب آرائي ومواقفي وجرأتي في التعبير عنها من دون تردد، ومن دون الوقوع في حسابات شخصية ضيقة.
راجعت زيد الرفاعي مرة أخرى في أكتوبر (تشرين الأول) برغبتي في الاستقالة مجدداً من حكومته، فاستمهلني حتى موعد انعقاد جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بفلسطين في جنيف، في ديسمبر (كانون الأول) 1988. وأعترف بأنني قبلت البقاء في الحكومة لبضعة أسابيع حتى استكمل الجهد الحكومي، وجهدي الخاص في قبول الولايات المتحدة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وليس في قولي هذا تودد لأحد ولا تبرير لموقف ما، بل هو واجب وطني أشعر به بعمق.
أما قصة انعقاد الهيئة العامة للأمم المتحدة في المقر الأوروبي في جنيف، فهي أن السلطات الأميركية رفضت منح ياسر عرفات تأشيرة دخول إلى أراضيها لحضور مناقشات الأمم المتحدة حول بند القضية الفلسطينية، فاتخذت الجمعية العامة قراراً بأن تنتقل برمتها إلى مقرها الأوروبي في جنيف، للبحث في هذا البند، والاستماع إلى خطاب ياسر عرفات.
وطلب مني أن أكون في جنيف لهذه الغاية لمعرفة كل القضايا المطروحة في الاجتماع، لا سيما أننا كنا في خضم ترتيب تفاهمات منظمة التحرير مع الإدارة الأميركية، وتحديداً مع جورج شولتز، وشرطه لحوار أميركي مباشر مع منظمة التحرير أن يعلن ياسر عرفات، بلغة واضحة، إدانة الإرهاب ومحاربته ونبذ العنف.
ذهبت إلى جنيف، والتقيت ياسر عرفات الذي كان يحاول الالتفاف على شرط شولتز في ذلك الحين، ويسعى لتغيير صيغة الإعلان المطلوب حول نبذ الإرهاب، لكن شولتز كان على اتصال مع ريتشارد ميرفي بخط هاتفي مفتوح.
بدوره، كان ميرفي ينسق مع مجموعة فلسطينية تولت المفاوضات بين المنظمة والإدارة الأميركية، وتتألف من باسل عقل، وحسيب الصباغ، ومنيب المصري، وسعيد خوري. وعقب قرار فك الارتباط، لم أكن جزءاً من هذا الفريق، مع أنني كنت أتابع ما يجري.
لم ألحظ أي دور يذكر لفاروق القدومي الذي كان مع «أبو عمار»، وأظن أنه نأى بنفسه عن المشاركة في هذه المسألة. ولم تتضمن هذه الدورة بنوداً مهمة، سوى مسألة قبول عرفات بإعلان محدد واضح، مقابل فتح الحوار المباشر مع الإدارة الأميركية. أما الموضوع الأساسي الذي جئنا من أجله، فهو بند فلسطين، وكان الهدف الأساسي فتح الأبواب أمام حوار أميركي - فلسطيني مباشر.
عقد الاجتماع في جنيف بتاريخ الثالث عشر من ديسمبر (كانون الأول) 1988، وتحدث عرفات لنحو نصف ساعة عما سماه في حينه مبادئ خطة السلام الفلسطينية، والمؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط. وفي اليوم التالي، عقد مؤتمراً صحافياً أوضح فيه قبوله بثلاثة مطالب طلبها جورج شولتز منه من خلال رسالة وجهها إليه عن طريق وزير الخارجية السويدي ستين أندرسون، مفادها أن الولايات المتحدة مستعدة لفتح حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية إذا أعلن عرفات قبوله بقرار (242)، وحق إسرائيل بالوجود، ونبذ الإرهاب.
سمعت عن هذه الرسالة، لكنني لم أطلع عليها، والأهم أن عرفات أعلن قبوله بتلك المطالب الثلاثة، واتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارين تجاه القضية الفلسطينية، تضمن الأول الإقرار بالاستقلال الفلسطيني، والثاني تغيير اسم المنظمة إلى فلسطين في كل معاملات الجمعية وأوراقها الرسمية.
كنت أعرف أن تعديل حكومة زيد الرفاعي هدفه الوحيد هو إخراجي من الحكومة، وقد كنت طلبت مراراً وتكراراً وبإلحاح قبول استقالتي، لكن الرفاعي كان يؤجل ذلك. انتهت بذلك مدة خمس سنوات قضيتها وزيراً للخارجية، كان ينقصها فقط اثنا عشر يوماً لتكتمل، وهي أطول فترة لوزير خارجية في تاريخ الأردن حتى ذلك الحين.
القبة نيوز- تنشر «الشرق الأوسط» حلقات من مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق طاهر المصري، التي اختار لها عنوان «الحقيقة بيضاء»، كاشفاً عن معلومات وحقائق لمحطات من تاريخ الأردن السياسي، بعد تعاقبه على مناصب مختلفة منذ عام 1973، واشتباكه مع مركز القرار في عمر مبكر، وعلى مدى سنوات طويلة.
ويروي رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري، في الحلقة الثالثة والأخيرة من مذكراته التي تصدر اليوم بعنوان «الحقيقة بيضاء»، المقدمات التي أسفرت عن اتخاذ المملكة قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية في 1987، بعد قمة الجزائر الطارئة.
ويؤكد المصري، في كتابه أن قمة الجزائر التي عقدت في 1987، بعد انعقاد قمة عمان بأشهر، كانت بهدف «استثناء الأردن، وتغييبه عن أي نشاط سياسي، وعزله عن أي دور داخل الضفة الغربية»، في حين كان الراحل الملك حسين يسعى إلى عقدها لحشد الدعم للعراق، وتعزيز التضامن العربي معه، ولتحقيق برنامجه الهادف إلى لم الصف العربي وإجراء المصالحات.
ويروي كيف أن قمة الجزائر، واستثمار ياسر عرفات لها، مستغلاً الانتفاضة الفلسطينية لصالحه للحصول على استقلالية أوسع، وتوجيه جهده نحو تشديد قبضته على الضفة الغربية وإبعاد الأردن عنها، بدعم دول عربية له آنذاك، كانت المقدمة التي أدت إلى قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة.
القرار الأردني الذي لم يكن المصري على علم به، وتفاجأ بسماعه عبر التلفزيون الرسمي، تسبب بخروجه من الحكومة، محتجاً على ما آلت إليه العلاقة الأردنية - الفلسطينية في تلك الفترة، سارداً سلسلة مواقف أعلن عنها داخل اجتماعات رسمية أمام الملك حسين، وولي عهده آنذاك الأمير الحسن، وداخل مجلس الوزراء.
وفيما يلي نص الحلقة الثالثة والأخيرة:
بعد جهد كبير، نجح الملك في عقد قمة عربية في عمان لمتابعة الحرب العراقية - الإيرانية التي كانت في أوجها، والتي كانت نتائجها تتأرجح بين معركة وأخرى، وذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) 1987.
كان هدف الملك من هذه القمة حشد الدعم للعراق، وتعزيز التضامن العربي معه، خصوصاً أن دولاً مثل سوريا والجزائر وسلطنة عمان لم تكن داعمة له في حربه مع إيران، لكن المفصل الأهم هو المفصل السوري، وكان نجم طارق عزيز لامعاً إلى أبعد الحدود، كونه وزيراً للخارجية العراقية.
كنت رئيساً لمؤتمر وزراء الخارجية العرب، كون الأردن هو البلد المضيف، وعقدنا اجتماعاً صعباً للغاية لصياغة قرارات تدعم العراق، وتدعم التضامن معه، وكانت الحكومة العراقية راضية عن نتائج هذه القمة.
كان من أهداف عقد القمة جمع الرئيسين صدام حسين وحافظ الأسد، وكان الملك ينظر إلى أهمية هذا اللقاء الذي سينعكس إيجاباً على سوريا والعراق. وعقد لقاءات عدة مغلقة، اقتصرت على القادة العرب، وكان صدام حسين منطقياً للغاية في عرضه لموقفه، وكان الملك معجباً بموقفه، لكن بالنتيجة لم يحصل الوفاق بين بغداد ودمشق.
أما «أبو عمار»، فكان متوتراً للغاية، لأنه كان يتوقع أن يحظى باستقبال رئيس دولة في المطار، فيستقبله الملك حسين، الأمر الذي لم يحصل، إذ إن زيد الرفاعي هو من استقبله، وظهرت على عرفات علامات الاستياء التي لازمته طيلة أيام المؤتمر، وانتشر أمر استيائه في أروقة منظمة التحرير.
وأذكر أن طالبات مدرسة في مخيم جباليا في غزة كن يتظاهرن ضد الأردن لتجاهله عرفات في ذلك المؤتمر، وكانت دورية عسكرية إسرائيلية تمر قرب مدرسة المظاهرات، فدهست أربع فتيات واستشهدن. وفي غزة، بدأ الاحتجاج على هذا الحادث، وعلى الأردن، وكانت الشرارة الأولى للانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انتشرت بسرعة لتعم كل أرجاء فلسطين.
وتسارعت أحداث الانتفاضة، وبدأ رصيد منظمة التحرير وياسر عرفات يرتفع نتيجة اندلاعها بعفوية ومن غير سلاح. وكانت أجواء الشارع العربي معجبة داعمة لهذا العمل السلمي والثورة الشعبية المتسلحة بالحجر في مواجهة الدبابة الإسرائيلية.
ورغم الأحداث تلك، كان الملك حسين يعوّل كثيراً على رئاسته القمة، وكان ينوي من خلالها مواصلة السعي لتحقيق برنامجه الهادف إلى لم الصف العربي، وإجراء المصالحات عبر الجامعة العربية، وذلك على امتداد فترة كان يعتقد أنها ستطول كثيراً، لكن توقعاته لم تدم طويلاً.
ففي يوم من أواخر شهر مايو (أيار) 1988، زار الأردن الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير خارجية الجزائر، وقد التقيته قبل مقابلته الملك حسين. كان حديثي معه عابراً عادياً، ولم يفصح خلاله عن أهدافه من تلك الزيارة، مؤثراً الحديث عنها مع الملك مباشرة.
اصطحبت الإبراهيمي إلى قصر بسمان، والتقى الملك، ليلقي بقنبلته التي فاجأتنا، وكان أول المتفاجئين بها الملك نفسه. فقد أعلن عن رغبة الجزائر بالدعوة إلى عقد قمة عربية في منتصف شهر يونيو (حزيران) المقبل بسبب الانتفاضة الفلسطينية، والوضع في الضفة وقطاع غزة، وضرورة اجتماع الزعماء العرب للبحث في هذا الأمر.
ظهر الاستياء سريعاً على وجه الملك، وبشكل واضح، إذ لم يستطع إخفاءه. فقد عد تلك الدعوة التفافاً على رئاسته للقمة العربية التي كان يعتقد أنها ستطول، لكنه لم يكن يتوقع أن يبقى رئيساً لنحو ستة أشهر فقط. كما عد أن تلك الدعوة سوف تفسد عليه برنامجه الطموح لنشاط سياسي مكثف، وهي تتناقض مع شعوره بأهمية أن يكافئ العرب الملك والأردن بصفته عميداً للرئاسات.
وقدر الملك نتائج قمة الجزائر. فقد كان يعرف تماماً أن عرفات سوف يستغل الانتفاضة لصالحه في القمة، وسيحصل على أكبر استقلالية، وعلى أوسع دعم سياسي، وسيكون جهده موجهاً نحو تشديد قبضته على الضفة الغربية، وإبعاد الأردن عنها ما أمكنه ذلك.
كان الملك يشعر، ومنذ سنين، بوجود تيار داخل القمم العربية يريد إبعاده عن ترؤس القمة. فالمغرب، على سبيل المثال، ترأس القمة ست مرات، إلى أن تقرر عقد القمة سنوياً، وبانتظام، في مارس (آذار) من كل عام، وبحسب الحروف الهجائية، بدأت من الأردن.
خرج الملك بعد انتهاء لقائه بالإبراهيمي وقد ودعه بفتور، وكان زيد الرفاعي حاضراً اللقاء، ولاحظ إصرار الإبراهيمي على ضرورة عقد القمة في الجزائر التي ستباشر بتوجيه الدعوات للقادة العرب خلال فترة قصيرة.
فهمنا جميعاً مقاصد هذه الدعوة وأهدافها، لذلك ذهبنا إلى قمة الجزائر متهيئين لمواجهة مطالب ياسر عرفات من الأردن، الرامية إلى إبعاده قدر الإمكان عن الشؤون الفلسطينية، مدعوماً هذه المرة بمواقف عربية متعددة مؤيدة له.
عقد المؤتمر، وكانت البوادر واضحة فيما سيؤول إليه، خاصة من خلال مشروع القرار الذي قدمته منظمة التحرير، وكان وفدها يضم فاروق القدومي وياسر عبد ربه وآخرين.
وظهرت المؤشرات الأولية من خلال لجنة الصياغة التي حضرها نيابة عن الأردن السفير لدى الجامعة العربية المرحوم طلال سطعان الحسن، بصفته عضواً في هذه اللجنة، وكان مشروع القرار يلغي أي دور للأردن، سواء أكان سلبياً أم إيجابياً، في دعم الانتفاضة.
وللأسف، لاقى هذا الموقف الفلسطيني تجاه الأردن هوى عند الوفد الأردني الغاضب أصلاً من هذا المؤتمر، الذي يرغب أصلاً بإبعاد الأردن عن منظمة التحرير وتركها وشأنها. وأظن أن هذه الحادثة كانت بداية للتفكير في اتخاذ قرار فك الارتباط القانوني والإداري بين الأردن والضفة الغربية.
اختلف الأردن والمنظمة في قمة الجزائر الطارئة التي عقدت في يونيو 1988، حول مطالبة المنظمة بالإشراف التام على الأموال المخصصة لدعم الصمود الفلسطيني، وعلى استثناء الأردن وتغييبه عن أي نشاط سياسي إقليمي أو دولي يتعلق بدعم الانتفاضة، وعزله عن أي دور له داخل الضفة الغربية أو في أي أمر يتعلق بالانتفاضة، وكأنه في هذه الحال مثله مثل أي دولة عربية أخرى، من أجل أن تمر كل القنوات السياسية والإنسانية والمعنوية التي تتعلق بالانتفاضة عبر منظمة التحرير.
وكان فاروق القدومي (وهو يقيم الآن في عمّان) شرساً في مواجهته للموقف الأردني الذي كان يدعو لإشراف فلسطيني - أردني مشترك، لكن المنظمة لم تقبل ذلك، وساندتها دول عربية وأيدتها، وصدر قرار بهذا المضمون.
بدأ الملك بالتشاور مع مساعديه ومع المسؤولين الأردنيين حول الخطوة التالية، واستمرت النقاشات بعد عودة الوفد الأردني إلى عمان. لم أكن ضمن حلقة التشاور لأن الملك يعرف أنني كنت أحمل وجهة نظر تتمسك بالإبقاء على ارتباط الأردن بالضفة الغربية، وبالعمل على استيعاب الرغبات الفلسطينية في المنظمة، لأن مصالح الفلسطينيين كانت -ولا تزال- مرتبطة إلى حد كبير بالأردن.
ألف الملك لجنة (ولم تكن بمعنى اللجنة الرسمية) ضمت كلاً من رئيس الوزراء زيد الرفاعي، والقائد العام زيد بن شاكر، ورئيس الديوان مروان القاسم، ووزير البلاط عدنان أبو عودة، ومدير المخابرات العامة طارق علاء الدين، وكانوا يجتمعون أحياناً في منزل مروان القاسم في جبل عمان، ويعملون على دراسة الخطوة التالية باتجاه فك الارتباط، ودراسة تداعياته المتوقعة والخطوات التي يجب أن تتبع القرار.
في الثامن والعشرين من يوليو (تموز) 1988، ألغيت خطة التنمية المتعلقة بالضفة الغربية التي وضعت في أغسطس (آب) 1986. وبعد ذلك بثلاثة أيام، أعلن الملك، عبر خطاب في التلفزيون الأردني، عن قرار فك الارتباط الإداري بين الضفتين، مؤكداً في الوقت نفسه على إبقاء الروابط والأواصر بينهما.
لم أكن على علم بما كان يجري الإعداد له إطلاقاً، وفوجئت تماماً بخطاب الملك عبر التلفزيون، معلناً قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية بدءاً من ذلك اليوم.
ورغم كل ما أورده الملك في خطابه لطمأنة الأردنيين من أصل فلسطيني الذين يقيمون في الضفة الشرقية، بشأن الروابط العائلية والاجتماعية والاقتصادية، فإن الإجراءات الإدارية التي مارستها الحكومة كانت عكس ذلك تماماً، إذ لم يتورع كثيرون من موظفي الدوائر المختصة بالوثائق والجوازات الأردنية عن التشفي والتعسف، فكانوا يلغون جوازات سفر الأردنيين من أصل فلسطيني بالمئات، وكان انقلاب الوحدة بين الضفتين إلى الانفصال بهذه السرعة مشهداً مؤلماً يعكس الروح والنفسية المتشفية.
كنت شخصياً من المعارضين لهذا العمل لأسباب وطنية وقومية، ولأسباب شخصية أيضاً، فقد شعرت بغضب شديد وإهانة شخصية لي، فأنا عنصر رئيسي في حكومة زيد الرفاعي، ولم أعلم بهذا القرار الخطير إلا عبر خطاب الملك في التلفزيون الأردني، وعبرت عن غضبي أمام الأمير حسن، إذ كنت مدعواً إلى العشاء في منزله ذلك المساء عندما أعلن الملك فيها خطابه، وقلت للأمير حسن إن هذا القرار نقطة سوداء في تاريخ الأردن.
كنت غاضباً من الطريقة التي تم بها تطبيق القرار، وكنت غاضباً لأسباب أخرى، غير تلك التي ذكرت بغية تبرير اتخاذ القرار، ومنها أنه جاء تلبية لرغبة منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء على طلبها، وكنت غاضباً لأن فك الارتباط سوف يضعف الدور الأردني في المحافل الدولية كافة.
صحيح أن قرارات قمة الجزائر، وممارسات ياسر عرفات، كانت تدعو إلى استقلال القرار الفلسطيني، وحصر شؤون الانتفاضة بالكامل في منظمة التحرير، لكنني لم أكن على علم بمدى رغبة المنظمة بهذا القرار الذي اتخذ من دون علمها، ومن دون أي ترتيبات معها، لكي تحتاط لهذا الأمر، وتتخذ الإجراءات الكافية لحماية مصالح أهالي الضفة الغربية، وتتحضر للسيطرة الكاملة على الأوضاع الفلسطينية الداخلية.
تبين لي لاحقاً أن أحد الأسباب الرئيسية لاتخاذ قرار فك الارتباط هو خوف النظام الأردني والأجهزة الأمنية من تداعيات الانتفاضة التي لم تشهد لها المنطقة مثيلاً من قبل. فهي ثورة شعبية يراها الشارع العربي للمرة الأولى، ويرى من خلالها تصميم الفلسطينيين جميعهم على مقاومة الاحتلال، وقد لقيت هذه التجربة الفريدة من نوعها الدعم والإعجاب من الشارع الأردني خاصة، والشارع العربي عامة. وبسبب العلاقات البنيوية والعضوية القائمة بين الضفتين، حرصت السلطات الرسمية الأردنية، وتحديداً الأمنية منها، على عدم وصول هذه الحركة إلى الشارع الأردني، لا سيما أن نصفه من الفلسطينيين، ولذلك تم التعجيل باتخاذ قرار فك الارتباط.
لم أدفع في آرائي وتحركاتي باتجاه إلغاء القرار إطلاقاً، ولم أكن لأفعل هذا وقد أصبح أمراً واقعاً، وظهرت بقوة الهوية الوطنية الفلسطينية التي كان مطلوباً ظهورها وتنميتها من قبلنا جميعاً.
عبرت لزيد الرفاعي عن امتعاضي الشديد من هذا الوضع، ورفضي الاستمرار بتحمل مسؤولياتي وزيراً للخارجية، وكان زيد حريصاً على أن لا تنخدش صورة التضامن الحكومي وقوتها بشأن القرار، فحاول استيعابي من خلال علاقتي الوطيدة به.
وفي جلسة مجلس الوزراء التي عقدت في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1988، والتي اتخذ فيها قرار إلغاء وزارة شؤون الأرض المحتلة التي كان يشغلها آنذاك مروان دودين، وحل البرلمان، وكنت عضواً فيه منذ عام 1973، وهي المرة الأولى التي تزول عضويتي فيه، قلت ساخراً في تلك الجلسة إنني كنت أول وزير لشؤون الأرض المحتلة، وها أنا أرى الآن موت هذه الوزارة.
ذهبت والرفاعي إلى الديوان الملكي، وكان الملك حسين بانتظارنا. وأذكر أننا جلسنا في غرفة الطعام، ولا أذكر من شاركنا آنذاك. ورحب الملك بي بشدة، وطلب مني الجلوس إلى جانبه. أبديت له حزني وأسفي على قرار فك الارتباط لأن الضفة الغربية كانت من مسؤوليات الأردن والهاشميين، ولا تزال استعادتها من مسؤوليتهم، وأضفت أنني لست ضد إعطاء منظمة التحرير حقوقها في إدارة شؤون الضفة الغربية، لكن يجب أن يتم ذلك بطريقة ودية وبتفاهم، وبانتقال تدريجي، ومعاملة أهل الضفة الغربية معاملة أفضل مما يحدث الآن، حيث يتم إلغاء جوازات سفرهم فقط لأنهم من أصل فلسطيني، ما أدى إلى خسارة نصف سكان الأردن جنسيتهم وحقوقهم، وهم سكان الضفة الغربية، من خلال خطاب استغرق ساعة ونصف الساعة، ولا يوجد أي نص، لا في الدستور ولا في أي قانون أو قرار أردني، يجيز التخلي عن أراضي المملكة.
وكان من الواجب، كما عقدت الوحدة بين الضفتين عام 1950 من خلال الوسائل والآليات الدستورية، أن يتم فك الارتباط بينهما من خلال الوسائل الدستورية عينها، وليس تحت تأثير الانفعال بسبب قرارات قمة الجزائر أو أجوائها.
دافع الملك حسين بشكل مختصر عما جرى، وقال لي: «أريدك أن تتريث قليلاً قبل أن تترك منصبك، لأن هناك كثيراً من الأمور التي ننتظر ترتيبها، ونحن نحتاجك فيها». لم أجب بـ«نعم» أو بـ«لا»، ولم أتخذ أي قرار بشأن بقائي أو استقالتي. فقد تركت الأمور مفتوحة حتى تتضح لي تلك الترتيبات التي أشار الملك إليها. وانتهى اللقاء، وعدت إلى منزلي، وذهبت إلى الوزارة في اليوم التالي.
لم تغرني كثيراً محاولة استيعاب غضبي والتمسك بي، بل زادتني صلابة وإصراراً على موقفي، وإعلان رأيي بكل صراحة ووضوح. وقد رسخت ذلك خلال السنوات التالية، إذ كانت خلالها إرادتي قوية ثابتة. واستبعدت كثيراً فيما بعد، بسبب آرائي ومواقفي وجرأتي في التعبير عنها من دون تردد، ومن دون الوقوع في حسابات شخصية ضيقة.
راجعت زيد الرفاعي مرة أخرى في أكتوبر (تشرين الأول) برغبتي في الاستقالة مجدداً من حكومته، فاستمهلني حتى موعد انعقاد جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاصة بفلسطين في جنيف، في ديسمبر (كانون الأول) 1988. وأعترف بأنني قبلت البقاء في الحكومة لبضعة أسابيع حتى استكمل الجهد الحكومي، وجهدي الخاص في قبول الولايات المتحدة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وليس في قولي هذا تودد لأحد ولا تبرير لموقف ما، بل هو واجب وطني أشعر به بعمق.
أما قصة انعقاد الهيئة العامة للأمم المتحدة في المقر الأوروبي في جنيف، فهي أن السلطات الأميركية رفضت منح ياسر عرفات تأشيرة دخول إلى أراضيها لحضور مناقشات الأمم المتحدة حول بند القضية الفلسطينية، فاتخذت الجمعية العامة قراراً بأن تنتقل برمتها إلى مقرها الأوروبي في جنيف، للبحث في هذا البند، والاستماع إلى خطاب ياسر عرفات.
وطلب مني أن أكون في جنيف لهذه الغاية لمعرفة كل القضايا المطروحة في الاجتماع، لا سيما أننا كنا في خضم ترتيب تفاهمات منظمة التحرير مع الإدارة الأميركية، وتحديداً مع جورج شولتز، وشرطه لحوار أميركي مباشر مع منظمة التحرير أن يعلن ياسر عرفات، بلغة واضحة، إدانة الإرهاب ومحاربته ونبذ العنف.
ذهبت إلى جنيف، والتقيت ياسر عرفات الذي كان يحاول الالتفاف على شرط شولتز في ذلك الحين، ويسعى لتغيير صيغة الإعلان المطلوب حول نبذ الإرهاب، لكن شولتز كان على اتصال مع ريتشارد ميرفي بخط هاتفي مفتوح.
بدوره، كان ميرفي ينسق مع مجموعة فلسطينية تولت المفاوضات بين المنظمة والإدارة الأميركية، وتتألف من باسل عقل، وحسيب الصباغ، ومنيب المصري، وسعيد خوري. وعقب قرار فك الارتباط، لم أكن جزءاً من هذا الفريق، مع أنني كنت أتابع ما يجري.
لم ألحظ أي دور يذكر لفاروق القدومي الذي كان مع «أبو عمار»، وأظن أنه نأى بنفسه عن المشاركة في هذه المسألة. ولم تتضمن هذه الدورة بنوداً مهمة، سوى مسألة قبول عرفات بإعلان محدد واضح، مقابل فتح الحوار المباشر مع الإدارة الأميركية. أما الموضوع الأساسي الذي جئنا من أجله، فهو بند فلسطين، وكان الهدف الأساسي فتح الأبواب أمام حوار أميركي - فلسطيني مباشر.
عقد الاجتماع في جنيف بتاريخ الثالث عشر من ديسمبر (كانون الأول) 1988، وتحدث عرفات لنحو نصف ساعة عما سماه في حينه مبادئ خطة السلام الفلسطينية، والمؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط. وفي اليوم التالي، عقد مؤتمراً صحافياً أوضح فيه قبوله بثلاثة مطالب طلبها جورج شولتز منه من خلال رسالة وجهها إليه عن طريق وزير الخارجية السويدي ستين أندرسون، مفادها أن الولايات المتحدة مستعدة لفتح حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية إذا أعلن عرفات قبوله بقرار (242)، وحق إسرائيل بالوجود، ونبذ الإرهاب.
سمعت عن هذه الرسالة، لكنني لم أطلع عليها، والأهم أن عرفات أعلن قبوله بتلك المطالب الثلاثة، واتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارين تجاه القضية الفلسطينية، تضمن الأول الإقرار بالاستقلال الفلسطيني، والثاني تغيير اسم المنظمة إلى فلسطين في كل معاملات الجمعية وأوراقها الرسمية.
كنت أعرف أن تعديل حكومة زيد الرفاعي هدفه الوحيد هو إخراجي من الحكومة، وقد كنت طلبت مراراً وتكراراً وبإلحاح قبول استقالتي، لكن الرفاعي كان يؤجل ذلك. انتهت بذلك مدة خمس سنوات قضيتها وزيراً للخارجية، كان ينقصها فقط اثنا عشر يوماً لتكتمل، وهي أطول فترة لوزير خارجية في تاريخ الأردن حتى ذلك الحين.