facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

كيف يفكر كسينجر

كيف يفكر كسينجر

داود عمر داود

القبة نيوز- كيف يفكر كسينجر: مُنّظر السياسة الخارجية الأمريكية...



رغم أنه في منتصف العقد التاسع من عمره، فإن هنري كسينجر، مُنّظر السياسة الخارجية الأمريكية، على مدى نصف قرن، ما زال متوقد الذهن، واعياً لما يدور حوله في العالم، ولديه نظرته الخاصة حول تطورات المشهد العالمي، بعد اندلاع أزمة فيروس كورونا، التي اجتاحت العالم.

عمل كيسنجر مستشاراً للأمن القومي، في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون، عام 1969، ثم تولى وزارة الخارجية، وظل فيها لغاية 1977. وطوال سنواته الثمان في البيت الأبيض، وفي الخارجية، لعب كيسنجر دوراً محورياً في رسم وتنفيذ سياسة بلاده الخارجية. وكانت أبرز أدواره إعادة الصين إلى الحظيرة الدولية. ثم جهوده في تنسيق سياسة "الوفاق"، مع الإتحاد السوفياتي السابق، التي خففت من وطأة الحرب الباردة، وقادت إلى إنفراج بين موسكو وواشنطن. ثم اكتسب شهرة في قيادة مفاوضات باريس التي أنهت حرب فيتنام. ثم أُشتهر بجولاته (المكوكية) في الشرق الأوسط، بعد حرب اكتوبر، التي مهدت الطريق لاتفاقية (كامب ديفيد) بين مصر واسرائيل، فيما بعد. وأصبح كيسنجر، بعد خروجه من الحكومة، مستشاراً ومُنّظراً، يؤخذ برأيه، في السياسة الدولية.

تغيير أم ترميم النظام؟
كتب كيسنجر مقالاً في جريدة وول ستريت جورنال، في عدد 2 ابريل نيسان، بعنوان (فيروس كورونا سيغير النظام العالمي للأبد). لقد أدرك كثيرون، حول العالم، مسألة التغيير هذه، وتحدثوا فيها مطولاً قبله، وتوصلوا إلى نتيجة مفادها أن النظام العالمي الراهن لن يبق على حاله، وأنه سيتفكك ويسقط، بفعل الأزمة الحالية، وهو النظام الذي بُني على أساس تفاهمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بين المنتصرين.

إلا أن رأي كيسنجر يختلف تماماً، فهو يدعو إلى ترميم النظام القديم، في عملية تتولاها بلاده، تمنع سقوطه، كي تحافظ أمريكا على مكانتها، وتبقى سيدة العالم بلا منازع. لذلك هو يقول أن المهمة الملحة حاليا، بجانب مواجهة انتشار المرض، هي أن تعود إدارة ترامب إلى القاعدة الأساسية التي تحكم السياسية الخارجية، التي تقضي أن تكون النظرة إلى مشاكل العالم نظرة جماعية، بحيث ترتبط القضايا مع بعضها البعض وتُعالج واحدة تلو الاخرى، وذلك بعكس القاعدة الاوروبية، وخاصة البريطانية، التي تنظر إلى قضايا العالم نظرة فردية، بحيث تعالج كل مشكلة على حده.

لذلك يرى كيسنجر أنه من الضروري والعاجل أن تعود إدارة السياسة الخارجية إلى تلك القاعدة الأساسية، فهو يطالب بـ (إطلاق مشروع موازي للانتقال إلى نظام عالمي لما بعد كورونا)، بمعنى أن عدم إتاحة الفرصة لهدم النظام القديم، الذي تعتبر امريكا حجر الزاوية فيه. وهذا تفكير براغماتي عميق، نابع من حرص كيسنجر الشديد على أن تحتفظ بلاده بزعامة العالم بعد انتهاء الأزمة.

خطة كيسنجر متأخرة لإنقاذ بلاده
والبراغماتية هي نمط تفكير رأسمالي يقوم على البحث عن الوسائل التي تساعد على تحقيق الغاية بشكل أفضل، وقد نجح الثنائي، نيكسون وكيسنجر، في وضع هذا التفكير موضع التنفيذ، فأنجزوا ما أنجزوه لبلادهم، على الصعيد الخارجي، خلال سني حكمهم. أما الآن فإن الوضع قد اختلف، لذلك يدعو كيسنجر إلى أن تعود السياسة الخارجية إلى قاعدتها الأساسية السابقة، وإلى إسقاط شعار ترامب (أمريكا أولاً)، بهدف ترميم النظام العالمي القديم، والحيلولة دون سقوطه.

لكن يبدو أن دعوة كيسنجر هذه قد جاءت متأخرة، وبعد فوات الأوان، ولا تملك مقومات النجاح، لأسباب متعددة. أولها أن الدول الآن تهاب أمريكا وتخشاها، ما دامت قوية، إلا أنها تتطلع إلى ذلك اليوم الذي تزل فيه قدمها، فتسقط، وعندها تكثر السكاكين. وثانياً أن الإدارة الحالية قد وضعت البلاد على منحدر صعب، باتت فيه الاستدارة والرجوع أمراً غاية في الصعوبة. فهي إدارة غير مؤهلة أصلاً، حتى تستوعب فكرة كيسنجر، وتأخذ بخطته لإنقاذ البلاد والحفاظ على مكانتها وهيبتها. كما أنها إدارة غير قادرة على قراءة ما بين السطور مما يقوله. وثالثا، أن شخصية الرئيس الحالي، دونالد ترامب، لا تسمح له بالجلوس ساعة من الزمن للاستماع لخبراء، من وزن كيسنجر، يشرحون مسألة معقدة، وحتى وإن جلس لا تصله الرسالة. فمن الصعب أن تقنع ترامب بشيء، ومن الصعب أن تثنيه عن شيء. فها هو يقود إدارته، على غير هدى، وبشكل عشوائي، يكاد ينعدم فيه التنسيق، بين أجنحة الحكم. وكل جناح يتصرف على ليلاه.

وإلا كيف يصل الحال بقائد عسكري مهم، يقود اكبر حاملة طائرات، على متنها خمسة آلاف عسكري، يرسل برقية (سرية وعاجلة) إلى قيادته ليخبرها بإصابة بعض الأفراد بفيروس كورونا، ثم يرسل نسخة من البرقية، في ذات الوقت، إلى الصحافة لتنشرها؟ وإلا كيف أن رئيسا يتجاهل تقارير أجهزة استخباراته، على مدى أشهر، تحثه على التصرف مبكرا، لمواجهة الوباء، إلا أنه لا يطلع عليها، وإن إطلع يتجاهلها؟

الخلاصة: لا حياة لمن تنادي
يدرك كيسنجر حالة بلاده الآن، وما تعانيه من إنقسام سياسي حاد، ومن تدني مستوى الإدارة الحالية. وقد وضع أُصبعه على الجرح حينما أشار في مقاله إلى أن أمريكا (تحتاج إلى حكومة تتحلى بالكفاءة، وبُعد النظر، للتغلب على العقبات غير المسبوقة، من حيث الحجم، والنطاق العالمي، المترتبة على تفشي الوباء). وما دام كيسنجر، الخبير التسعيني، وصاحب الفكر العميق، والأُفق الواسع، في السياسة الدولية، يدرك هذا الوضع، ويدرك أن ما سيقوله سيذهب أدراج الرياح، فلمن كان يوجه نصائحه وخلاصة تجربته؟ إلى رئيس على شاكلة ترامب! لكن أن كيسنجر لم يسمع بما قاله الشاعر العربي قديماً:
لقد أسمعتَ لو ناديت حياً * ولكن لا حياةَ لمن تُنادي
ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت * ولكن أنت تنفخُ في رمادِ

تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير