الثورة التونسية: نتيجة لأتفه سبب
م. أشرف غسان مقطش
القبة نيوز- ما زلت أذكر حالة الذهول التي انتابتني خلال متابعتي على شاشات الشبكات الفضائية العربية كيف اندلعت نيران الثورة التونسية من عود ثقاب البوعزيزي.
والبوعزيزي هو ذاك الشاب التونسي الذي صادرت عربته السلطات البلدية، وصفعته فيما بعد الشرطية فاديا حمدي؛ فما كان منه إلا أن أضرم النار في جسده أمام مقر ولاية سيدي بو زيد بعدما تجاهلت السلطات التونسية توسلاته المتكررة بإعادة العربة له؛ فإذا بجسده النيراني يمسي عود ثقاب يشعل ثورة شعبية ضد نظام زين العابدين بن علي الذي هرب سريعا خارج البلاد قبل أن تلتهمه نيران الشعب الغاضب، وما لبثت هذه الثورة أن أصبحت شعلة تشتعل بها ثورات أخرى في عدة أقطار عربية.
منذ اللحظة تلك، وفي أفلاك ذهني أسئلة عويصة تدور وتدور وظلت بلا إجابة شافية لها حتى قرأت قبل أيام وجهة نظر فولتير في التاريخ.
فأما الأسئلة: ما تفسير ما جرى من أن شخصا ما يحرق جسده فتستعر به نيران ثورة؟ وكيف للعقل أن يستوعب أن فردا مثل بوعزيزما كاد أن يحرق نفسه حتى هدر مرجل التاريخ فاهتزت العروش لأدنى هزة من هزات المجتمع؟
وأما الجواب فنقرأه على لسان فولتير في كتاب "مباهج الفلسفة"، لمؤلفه ول يورانت، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، تقديم إبراهيم بيومي مدكور، وزارة الثقافة الأردنية، ص(15)، الجزء الثاني:
"وكانت القوى المحركة للتاريخ هي الخرافات الباطلة، والعادات البعيدة عن العقل، والغزوات المفاجئة للقوة الغشوم. وقلما كنت أجد أثرا للعقل البشري في تسيير الحوادث، بل على العكس كانت تبدو أصغر الأسباب وأتفهها هي صاحبة أعظم النتائج وأشدها أسى، والعناية الإلهية التي وجدتها هي "الحظ"".
لعلها ليست مبالغة في التشبيه والمقارنة إذا ما رأيت مصداق ما قاله فولتير أعلاه في أن رجلا ما مثل البوعزيزي حرك التاريخ بحرق نفسه.
لربما كان الذي دفع البوعزيزي لحرق جسده سببا صغيرا ومهما صغر، ولربما كان تافها ومهما تفه، فإنه يبقى السبب الذي أدى إلى قلب أنظمة حكم في هذه المنطقة من العالم؛ فقد كان سقوط زين العابدين بن علي ذاك الحجر الدومينوني الذي ما لبث أن وقع حتى أوقع معه أنظمة القذافي وعلي عبدالله صالح وحسني مبارك والبشير وبوتفليقة؛ مما أدى إلى تغيير مجرى التاريخ في هذه البقعة من بقاع الأرض وتبديل وجهته!
في ضوء ذلك كله، كيف لنا أن نتخيل مجتمعا ينقلب رأسا على عقب لأصغر سبب وأتفه علة؟
لعلني لا آتي بشيء جديد إذا ما قلت إن الظلم إذا اتخذ من "سفلية" المجتمع مرتعا له، فإن أول بذرة للثورة تكون قد بذرت هناك.
وكلما ازداد الطلم وطأة على الصدور بمرور العصور، يبدأ الفارق الزماني والمكاني بين "علية" المجتمع و "سفليته" بالإتساع رويدا رويدا! فإذا سار المجتمع والحال كذلك، كانت مسيرته عرجاء: عليته في واد، وسفليته في واد آخر، عليته تحلق للفضاء بإطلاق الأقمار الصناعية، وسفليته تبحث عن فتات الزاد وحبات ااملح، عليته تلهث وراء كرة القدم، وسفليته تلهث وراء رغيف الخبز، عليته تطلق كتبا في السيرة الذاتية في حفل بهيج يحضره ذوو ربطات العنق الماركاتية الفاخرة، وأصحاب السيارات الشبحية، وسفليته تلملم أوراق الخريف لتخط عليها قصة كفاحها من أجل لقمة عيشها لتقرأ منها كلمتها في حفل تأبين العدالة والنزاهة.
في الأثناء، وفيما بين علية المجتمع وسفليته، تتلاشى الطبقة الوسطى فتترك فراغا خاويا كل الخواء لا ينتقل عبره صوت المظلوم ولا موجة المحروم من السفلية إلى العلية، فلا تدري العلية بما تئن به السفلية، ولا بما تتألم به، ولا بشدة الجمر الذي تتقلى به! مثلها في ذلك مثل الأطرش بالزفة!
وإذا طال الأمر على هذه الحال؛ إستفحل الظلم في البلاد حتى عم أغلب العباد، فيفقد المجتمع توازنه تدريجيا، وآنذاك، متى اصطدم المجتمع في مسيرته بأتفه سبب من أسباب الظلم، انقلب رأسا على عقب في صورة محاكاتية لسيارة تتدهور عندما ترتطم بحجر صغير! والإنقلاب لا يحدث باصطدام رأس الشيء بالشيء ولو كان كبيرا بل باصطدام أسفل الشيء بالشيء ولو كان صغيرا.
وهذا على ما يبدو ما جرى في المجتمع التونسي قبل نحو عقد من الزمان، إذ اتسع الفارق الزماني والمكاني بين علية المجتمع التونسي وسفليته على مدار عقود عدة منذ إستقلال تونس حتى قدم البوعزيزي حياته قربانا على مذبح الحرية والكرامة، وتراجعت خلال تلك الفترة الطويلة العدالة الإجتماعية القهقرى أمام مخالب الظلم وأنيابه، واستشرى الفساد في البلاد خاصة بين ظهراني علية المجتمع، وارتفعت نسبة البطالة إلى حد دفع البوعزيزي إلى إنهاء حياته بطريقة سينمائية؛ فاصطدم المجتمع التونسي المترنح في مشيته بهذا السبب الصغير من أسباب الظلم؛ فانقلب رأسا على عقب في ثورة عارمة أطاحت بنظام حكم زين العابدين بن علي، وطوت آخر صفحة من صفحات تاريخه.
واليوم تقف تونس على رجليها بحرية وكرامة بعد نحو تسع سنوات مرت على قيام ثورة الحرية والكرامة في السابع عشر من شهر كانون أول لعام ( 2010)؛ إذ فاز قيس سعيد قبل أيام في الجولة الحاسمة من الإنتخابات الرئاسية في تونس، والإنتخابات جرت بنزاهة بشهادة المراقبين الدوليين.
والبوعزيزي هو ذاك الشاب التونسي الذي صادرت عربته السلطات البلدية، وصفعته فيما بعد الشرطية فاديا حمدي؛ فما كان منه إلا أن أضرم النار في جسده أمام مقر ولاية سيدي بو زيد بعدما تجاهلت السلطات التونسية توسلاته المتكررة بإعادة العربة له؛ فإذا بجسده النيراني يمسي عود ثقاب يشعل ثورة شعبية ضد نظام زين العابدين بن علي الذي هرب سريعا خارج البلاد قبل أن تلتهمه نيران الشعب الغاضب، وما لبثت هذه الثورة أن أصبحت شعلة تشتعل بها ثورات أخرى في عدة أقطار عربية.
منذ اللحظة تلك، وفي أفلاك ذهني أسئلة عويصة تدور وتدور وظلت بلا إجابة شافية لها حتى قرأت قبل أيام وجهة نظر فولتير في التاريخ.
فأما الأسئلة: ما تفسير ما جرى من أن شخصا ما يحرق جسده فتستعر به نيران ثورة؟ وكيف للعقل أن يستوعب أن فردا مثل بوعزيزما كاد أن يحرق نفسه حتى هدر مرجل التاريخ فاهتزت العروش لأدنى هزة من هزات المجتمع؟
وأما الجواب فنقرأه على لسان فولتير في كتاب "مباهج الفلسفة"، لمؤلفه ول يورانت، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، تقديم إبراهيم بيومي مدكور، وزارة الثقافة الأردنية، ص(15)، الجزء الثاني:
"وكانت القوى المحركة للتاريخ هي الخرافات الباطلة، والعادات البعيدة عن العقل، والغزوات المفاجئة للقوة الغشوم. وقلما كنت أجد أثرا للعقل البشري في تسيير الحوادث، بل على العكس كانت تبدو أصغر الأسباب وأتفهها هي صاحبة أعظم النتائج وأشدها أسى، والعناية الإلهية التي وجدتها هي "الحظ"".
لعلها ليست مبالغة في التشبيه والمقارنة إذا ما رأيت مصداق ما قاله فولتير أعلاه في أن رجلا ما مثل البوعزيزي حرك التاريخ بحرق نفسه.
لربما كان الذي دفع البوعزيزي لحرق جسده سببا صغيرا ومهما صغر، ولربما كان تافها ومهما تفه، فإنه يبقى السبب الذي أدى إلى قلب أنظمة حكم في هذه المنطقة من العالم؛ فقد كان سقوط زين العابدين بن علي ذاك الحجر الدومينوني الذي ما لبث أن وقع حتى أوقع معه أنظمة القذافي وعلي عبدالله صالح وحسني مبارك والبشير وبوتفليقة؛ مما أدى إلى تغيير مجرى التاريخ في هذه البقعة من بقاع الأرض وتبديل وجهته!
في ضوء ذلك كله، كيف لنا أن نتخيل مجتمعا ينقلب رأسا على عقب لأصغر سبب وأتفه علة؟
لعلني لا آتي بشيء جديد إذا ما قلت إن الظلم إذا اتخذ من "سفلية" المجتمع مرتعا له، فإن أول بذرة للثورة تكون قد بذرت هناك.
وكلما ازداد الطلم وطأة على الصدور بمرور العصور، يبدأ الفارق الزماني والمكاني بين "علية" المجتمع و "سفليته" بالإتساع رويدا رويدا! فإذا سار المجتمع والحال كذلك، كانت مسيرته عرجاء: عليته في واد، وسفليته في واد آخر، عليته تحلق للفضاء بإطلاق الأقمار الصناعية، وسفليته تبحث عن فتات الزاد وحبات ااملح، عليته تلهث وراء كرة القدم، وسفليته تلهث وراء رغيف الخبز، عليته تطلق كتبا في السيرة الذاتية في حفل بهيج يحضره ذوو ربطات العنق الماركاتية الفاخرة، وأصحاب السيارات الشبحية، وسفليته تلملم أوراق الخريف لتخط عليها قصة كفاحها من أجل لقمة عيشها لتقرأ منها كلمتها في حفل تأبين العدالة والنزاهة.
في الأثناء، وفيما بين علية المجتمع وسفليته، تتلاشى الطبقة الوسطى فتترك فراغا خاويا كل الخواء لا ينتقل عبره صوت المظلوم ولا موجة المحروم من السفلية إلى العلية، فلا تدري العلية بما تئن به السفلية، ولا بما تتألم به، ولا بشدة الجمر الذي تتقلى به! مثلها في ذلك مثل الأطرش بالزفة!
وإذا طال الأمر على هذه الحال؛ إستفحل الظلم في البلاد حتى عم أغلب العباد، فيفقد المجتمع توازنه تدريجيا، وآنذاك، متى اصطدم المجتمع في مسيرته بأتفه سبب من أسباب الظلم، انقلب رأسا على عقب في صورة محاكاتية لسيارة تتدهور عندما ترتطم بحجر صغير! والإنقلاب لا يحدث باصطدام رأس الشيء بالشيء ولو كان كبيرا بل باصطدام أسفل الشيء بالشيء ولو كان صغيرا.
وهذا على ما يبدو ما جرى في المجتمع التونسي قبل نحو عقد من الزمان، إذ اتسع الفارق الزماني والمكاني بين علية المجتمع التونسي وسفليته على مدار عقود عدة منذ إستقلال تونس حتى قدم البوعزيزي حياته قربانا على مذبح الحرية والكرامة، وتراجعت خلال تلك الفترة الطويلة العدالة الإجتماعية القهقرى أمام مخالب الظلم وأنيابه، واستشرى الفساد في البلاد خاصة بين ظهراني علية المجتمع، وارتفعت نسبة البطالة إلى حد دفع البوعزيزي إلى إنهاء حياته بطريقة سينمائية؛ فاصطدم المجتمع التونسي المترنح في مشيته بهذا السبب الصغير من أسباب الظلم؛ فانقلب رأسا على عقب في ثورة عارمة أطاحت بنظام حكم زين العابدين بن علي، وطوت آخر صفحة من صفحات تاريخه.
واليوم تقف تونس على رجليها بحرية وكرامة بعد نحو تسع سنوات مرت على قيام ثورة الحرية والكرامة في السابع عشر من شهر كانون أول لعام ( 2010)؛ إذ فاز قيس سعيد قبل أيام في الجولة الحاسمة من الإنتخابات الرئاسية في تونس، والإنتخابات جرت بنزاهة بشهادة المراقبين الدوليين.