الإضراب العمالي هل هو إفراز تنميةٍ وقناة إصلاح سلمية؟
د. بسام الساكت
أولا: إذا لم تتعلم الحكومات في دولنا العربية دروساً بعيدة المدى، من إضراب « القوى العاملة»، وإضراب المعلمين في الأردن مثلا، عندها تصبح الملامة الذاتية لا جدوى منها.
إضراب المعلمين إفراز تنموي استهجنه البعض، كون غالبية المعلمين، موظفين عامِّين، احتجوا على الحكومة. ويغيب عن النقاد، أن الإضراب من الناحية الفنية الاقتصادية هو: أولا إفراز حالة تنموية شاملة، لكنها غير متوازنة، وثانياً إفراز في المسيرة الديمقراطية، له «قناة تفاوضية» خاصة به. واعتقد أن لا يَلجَأ اليه المتخاصمون مباشرة، كخطوة أولى، لحل النزاع الإداري. وأن يتيح الأطراف للحوار الفرصة الأولى.
إن العامل والموظف هما عنصرا إنتاج للحكومات التي ضعفت إمكاناتها المالية – ذخيرتها، وتقلص دورها الاستثماري والتشغيلي، وخلا هيكلها الإداري من «دوائر متخصصة بالتفاوض الجماعي»، مقابل النقابات كتجمع مؤسسي. فتلجأ بعض الإدارات سِراعاً الى الحل الأمني المؤقت لفض النزاع العمالي، أو تُشْغِل الحاكم وتدعوه للتدخل لحل نزاع خاص مهني.
يقف العمال اليوم أمام إدارات أثقل منهم، وأصحاب رأس المال الكِبار، في مرحلة إعادة هيكلة القطاع العام، باتجاه حرية كبيرة للقطاع الخاص، الذي بوصلته «هي مصلحته الذاتية أولا». فعَلَا شأنه على القطاع العام، وصاحب المرحلة وجود إدارات تُصغِي للمانحين، مشجعةً تكبير القطاع الخاص، من خلال تخاصيّة ليست بعرضٍ عام، يُكتتب فيه المدخرون الصغار، ويُنمِّي الرأسمالية الشعبية، فتقلص دور القطاع العام في التشغيل والدعم للأقل حظاً، بل نصح بعض المانحين بتقليص قطاع الأمن، معتقدين أن في ذلك ترشيقا للإنفاق، وأن هذا النهج التنموي هو الأصلح، قناعة منهم بسمو كفاءة القطاع الخاص كنهج يشغِّل، ويخلق نمواً مستداما.
ثانياً: إن في هذه الوصفة الاقتصادية والحوكمة العلاجية بعضاً من المنطق، ضمن فرضيات غير مُتَوطِّنة في بلاد العُرْبِ. ويجب ألاّ يغيب عنا أن ندرك أنه تحقق عندنا نمو اقتصادي بفعل قرارات تنموية حكومية، لكنه على حساب كفاءة القطاع العام، وقدرة الحكومات. فتم قبول النهج الاقتصادي للمانحين، وتقبّلت بعض شروطهم بإقامة مشاريع وتبنّي سياسات وبرامج محددة، تخدم «أكثر» اقتصاد المانح وأولوياته. وفي ذلك منْقَصَة لكفاءة المال والاستثمار والحرية الاقتصادية، وإغفال نسبي لأولويات الاقتصاد المستلم للمساعدات.
وحصيلة ذلك تنمية منقوصة، مزدوجة Dualism غير متوازنة وغير مستدامة، تقف على قدم واحدة، فيها قطاع خاص مزدهر، وتنمية إقليمية غير متوازنة. نعم نحن ندرك أن لا غنىً في المدى القصير والمتوسط عن المساعدات الخارجية، وليس هناك في عالمنا استقلال مالي ولا ثقافي، كامل عن الغير، فلا مساعدات بدون شروط، لكن بتوافر إدارات كفؤة وحسن تدبير، يتمكن المدين، تصعيد المردود وتقليص أي سلبيات. والنموذج التنموي الأبرز هو اقتصاد تايوان وكوريا الجنوبية، وهما مثالان بارزان للذين استخدموا المساعدات بكفاءة وفطموا اقتصادهم عنها.. إن الاقتصاد عِلمٌ يُدَرَّسْ، وتجارب الدول، نماذج تُجَذِّر العِلم.
سيبقى الإضراب قناة سلمية تفاوضية جماعية لعنصر العمل، أمام تعاظم حجم الدولة، أو نفوذ المؤسسات والشركات الرأسمالية
إن إضراب القوى العاملة، وبالذات إضراب المعلمين في الأردن والمنطقة، هو بنظري، ردة فعل متوقعة، لكنها سلمية، إن غاب الحوار أو طال بدون مبرر. ولا يخفى مبعثُ الإضراب على الاقتصاديِّ والسياسيِّ المُمَارِس، ولن يكون النزاع الأخير في منطقتنا العربية، فهو «قناة سلمية» من قنوات فضّ النزاع، ودعوة للتغيير وللإصلاح، إن استُوعِبت وفُهِمت أسبابه، وعُولِج بروح التفاوض المهني كخطوة أولى قبل أي توقف عن العمل، وبما يخدم صالح الأمة. وخبرتنا تدلل على ذلك. فالحاجة ماسة لمعالجة بيئة ومنبت الإضراب، بأدوات غير تقليدية، بل مؤسسية. «وإقامة آلية مهنية» حكومية تفاوضية
(هناك لدى الغرب الرأسمالي إدارات متخصصة بفن التفاوض) وحتى إن كانت قدرة الحكومات التفاوضية جيدة، فسيبقى الإضراب سبيلا متوقعا في عصرنا، وقناة سلمية تفاوضية جماعية طبيعية لعنصر العمل، أمام تعاظم حجم الدولة، أو حجم ونفوذ المؤسسات والشركات الرأسمالية، وأمام أي تنمية غير متوازنة. والحكومات العاقلة من تَعْقِل وتحاور الأطراف مؤسسياً، وتُحافِظ على سلميَّتِه.
ثالثا: أعود فأقول إن وضع عمال التربية والتعليم، كغيرهم من عمال البلاد أولئك المعتمدين على أجورهم ورواتبهم كمورد معاشي، هو وضع غير مريح في قطاع التعليم، الذي نعدُّه مصنع قيادات الوطن، ففيه مثالب وتدنٍ للبنية التحتية في المدارس الحكومية، وإنفاق منخفض نسبياً على التدريب والبحث والتطوير، وذلك حصاد «تنمية اقتصادية اجتماعية غير متوازنة»، أضعفت موارد القطاع العام، الملجأ الأول للقوى العاملة. نعم عندنا تنمية، لكنها تنمية اقتصادية اجتماعية مزدوجة. فلمس العارفون عندنا، مظاهرالخلل فيها، واتساع فجوة الدخل بين الناس، وتقلص الطبقة الوسطى واتساع شريحة الطبقة الأقل حظاً، وتعاظُم ثراء ونفوذ الأكثر حظاً، فبرز لنا تفاوت تنموي مُقلِق في الدخل والنماء بين المدن والريف والبوادي، بل اكتشفت بعض الدراسات جيوب فقر وتفاوت بين حيٍّ وآخر داخل المدن. وفي ظل غياب دراسات متخصصة عن معايير توزيع الثروة وتفاوتها بين الطبقات، تبقى تلك «القرائن» هي المؤشر على الخلل والفجوات وتفاوت الدخل وسوء توزيعه في المجتمع. وجميعها منابت للنزاع الاجتماعي والاقتصادي الذي يولد خلخلة اجتماعية، وربما أمنية.
رابعاً: من أكثر الاقتصادات التي فيها تفاوت وسوء توزيع للدخل، الاقتصاد الامريكي، ومصر وبعض الدول الافريقية، حيث تمتلك فئة لا تزيد عن 10% من السكان، يملكون في بعضها، دخلا معادلا لـ90% من الدخل القومي، (ووفق مؤشر ستاندرد أند بورز 500 فإن دخل المديرين في أمريكا،361 مرة أكبر من معدل دخل الموظفين والعمال، قبل عدة سنين). ويتفاوت العلاج عند بعضها، لتقليص الفجوة والتفاوت، من خلال إجراءات سلمية منها فرض ضرائب أعلى على شرائح الدخول الأعلى، وفرض رسوم وضرائب على الثروة والفوائد والأرباح وأرباح بيع الأسهم وعلى الأكثر حظا، أفرادا وشركات، وحتى فرض رسوم على برك السباحة وأخرى تصاعدية على الخدمات واستهلاك الماء والطاقة، وَوِفْقَ تصنيف حالة المناطق تنموياً، وفرض ضريبة على دخل المدارس الخاصة من الرسوم، تستخدم حصيلتها، في دعم المدارس والمعلمين في المناطق الأقل حظا. وبرز جليا من تجربة هذه الدول، حقيقة تنموية، أنه في غياب الحوكمة الرشيدة عند الدولة، فإن الشركات الكبرى والقطاع المصرفي ورواتب مديريه، والمدارس الخاصة، أصبحت تلقائيا بيدِ القِلة الثرية، وهي من أهم منابت ومصانع تفاوت الدخل والازدواجية الاقتصادية والاجتماعية – فالتعليم المتقدم في المدارس الخاصة، لأبناء هذه الفئة أمر متميز، يضمن لهم بعد التخرج، مواقع تنافسية متميزة في السوق،، بدخلٍ أعلى، ومواقع للمسؤولية متقدمة، لمن يرغب منهم الوظيفة العامة. لكنه مظهر تعليمي خاص لا يشمل القطاع كله. والتحية واجب يستحقُّها المُشرِّع الألماني الذي أوجد مدارس قوية في ألمانيا من نوع واحد فقط – عامة. وهناك الآن نداءات، تبدو متطرفة، في بريطانيا الرأسمالية ومن قبل حزب العمال، لتأميم المدارس الخاصة، «صانعة التفاوت الطبقي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي» هناك.
خامساً: الإضراب إفراز عصري ديمقراطي، يجب أن لا يكون الخطوة الأولى لفض النزاع. وواضح أنه في صالح ولاة الاقتصاد والسياسة هضم هذه الحقيقة الحياتية، واستيعابها والعمل على تنظيمها، وإعادة تأهيل دور القطاع العام. لقد شاهدنا كيف تدخَّلت الحكومة الفيدرالية الامريكية بأذرعها في الأزمة المالية عام 2011، وما تلاه، فأنقذت قطاع المال والأعمال الامريكي من الانهيار.
إن الدرس البارز من تجربة إضراب المعلمين في الأردن، الذي فُضَّ بطريقة ما، قد لا تمنع تكراره، هو درس أبْرزَ لنا شاخصة مواصفاتٍ لِحَوْكَمةٍ اقتصادية اجتماعية مطلوبة، تعالج الازدواجية التنموية في البلاد، من قِبَلِ إدارة متينة مُجرِّبة، مُقنِعَة، وقُدوة، تتواصل مع الناس، ولا يضع بعض المسؤولين فيها موظفين كطبقة عازلة وسور إداري بيروقراطي يُعيقُ الاستماع لبُناة الوطن، وتبادل المشورة معهم. حقا، إن المسؤول متغير، والوطن باقٍ لغالبية المواطنين، الذين هم الأَوْلى والأكثر حاجة للرعاية، كما أكدّ ملياً، ملك البلاد. اللهم إحفظنا بحِفْظِك.
*القدس العربي - خبير اقتصادي وزير سابق
إضراب المعلمين إفراز تنموي استهجنه البعض، كون غالبية المعلمين، موظفين عامِّين، احتجوا على الحكومة. ويغيب عن النقاد، أن الإضراب من الناحية الفنية الاقتصادية هو: أولا إفراز حالة تنموية شاملة، لكنها غير متوازنة، وثانياً إفراز في المسيرة الديمقراطية، له «قناة تفاوضية» خاصة به. واعتقد أن لا يَلجَأ اليه المتخاصمون مباشرة، كخطوة أولى، لحل النزاع الإداري. وأن يتيح الأطراف للحوار الفرصة الأولى.
إن العامل والموظف هما عنصرا إنتاج للحكومات التي ضعفت إمكاناتها المالية – ذخيرتها، وتقلص دورها الاستثماري والتشغيلي، وخلا هيكلها الإداري من «دوائر متخصصة بالتفاوض الجماعي»، مقابل النقابات كتجمع مؤسسي. فتلجأ بعض الإدارات سِراعاً الى الحل الأمني المؤقت لفض النزاع العمالي، أو تُشْغِل الحاكم وتدعوه للتدخل لحل نزاع خاص مهني.
يقف العمال اليوم أمام إدارات أثقل منهم، وأصحاب رأس المال الكِبار، في مرحلة إعادة هيكلة القطاع العام، باتجاه حرية كبيرة للقطاع الخاص، الذي بوصلته «هي مصلحته الذاتية أولا». فعَلَا شأنه على القطاع العام، وصاحب المرحلة وجود إدارات تُصغِي للمانحين، مشجعةً تكبير القطاع الخاص، من خلال تخاصيّة ليست بعرضٍ عام، يُكتتب فيه المدخرون الصغار، ويُنمِّي الرأسمالية الشعبية، فتقلص دور القطاع العام في التشغيل والدعم للأقل حظاً، بل نصح بعض المانحين بتقليص قطاع الأمن، معتقدين أن في ذلك ترشيقا للإنفاق، وأن هذا النهج التنموي هو الأصلح، قناعة منهم بسمو كفاءة القطاع الخاص كنهج يشغِّل، ويخلق نمواً مستداما.
ثانياً: إن في هذه الوصفة الاقتصادية والحوكمة العلاجية بعضاً من المنطق، ضمن فرضيات غير مُتَوطِّنة في بلاد العُرْبِ. ويجب ألاّ يغيب عنا أن ندرك أنه تحقق عندنا نمو اقتصادي بفعل قرارات تنموية حكومية، لكنه على حساب كفاءة القطاع العام، وقدرة الحكومات. فتم قبول النهج الاقتصادي للمانحين، وتقبّلت بعض شروطهم بإقامة مشاريع وتبنّي سياسات وبرامج محددة، تخدم «أكثر» اقتصاد المانح وأولوياته. وفي ذلك منْقَصَة لكفاءة المال والاستثمار والحرية الاقتصادية، وإغفال نسبي لأولويات الاقتصاد المستلم للمساعدات.
وحصيلة ذلك تنمية منقوصة، مزدوجة Dualism غير متوازنة وغير مستدامة، تقف على قدم واحدة، فيها قطاع خاص مزدهر، وتنمية إقليمية غير متوازنة. نعم نحن ندرك أن لا غنىً في المدى القصير والمتوسط عن المساعدات الخارجية، وليس هناك في عالمنا استقلال مالي ولا ثقافي، كامل عن الغير، فلا مساعدات بدون شروط، لكن بتوافر إدارات كفؤة وحسن تدبير، يتمكن المدين، تصعيد المردود وتقليص أي سلبيات. والنموذج التنموي الأبرز هو اقتصاد تايوان وكوريا الجنوبية، وهما مثالان بارزان للذين استخدموا المساعدات بكفاءة وفطموا اقتصادهم عنها.. إن الاقتصاد عِلمٌ يُدَرَّسْ، وتجارب الدول، نماذج تُجَذِّر العِلم.
سيبقى الإضراب قناة سلمية تفاوضية جماعية لعنصر العمل، أمام تعاظم حجم الدولة، أو نفوذ المؤسسات والشركات الرأسمالية
إن إضراب القوى العاملة، وبالذات إضراب المعلمين في الأردن والمنطقة، هو بنظري، ردة فعل متوقعة، لكنها سلمية، إن غاب الحوار أو طال بدون مبرر. ولا يخفى مبعثُ الإضراب على الاقتصاديِّ والسياسيِّ المُمَارِس، ولن يكون النزاع الأخير في منطقتنا العربية، فهو «قناة سلمية» من قنوات فضّ النزاع، ودعوة للتغيير وللإصلاح، إن استُوعِبت وفُهِمت أسبابه، وعُولِج بروح التفاوض المهني كخطوة أولى قبل أي توقف عن العمل، وبما يخدم صالح الأمة. وخبرتنا تدلل على ذلك. فالحاجة ماسة لمعالجة بيئة ومنبت الإضراب، بأدوات غير تقليدية، بل مؤسسية. «وإقامة آلية مهنية» حكومية تفاوضية
(هناك لدى الغرب الرأسمالي إدارات متخصصة بفن التفاوض) وحتى إن كانت قدرة الحكومات التفاوضية جيدة، فسيبقى الإضراب سبيلا متوقعا في عصرنا، وقناة سلمية تفاوضية جماعية طبيعية لعنصر العمل، أمام تعاظم حجم الدولة، أو حجم ونفوذ المؤسسات والشركات الرأسمالية، وأمام أي تنمية غير متوازنة. والحكومات العاقلة من تَعْقِل وتحاور الأطراف مؤسسياً، وتُحافِظ على سلميَّتِه.
ثالثا: أعود فأقول إن وضع عمال التربية والتعليم، كغيرهم من عمال البلاد أولئك المعتمدين على أجورهم ورواتبهم كمورد معاشي، هو وضع غير مريح في قطاع التعليم، الذي نعدُّه مصنع قيادات الوطن، ففيه مثالب وتدنٍ للبنية التحتية في المدارس الحكومية، وإنفاق منخفض نسبياً على التدريب والبحث والتطوير، وذلك حصاد «تنمية اقتصادية اجتماعية غير متوازنة»، أضعفت موارد القطاع العام، الملجأ الأول للقوى العاملة. نعم عندنا تنمية، لكنها تنمية اقتصادية اجتماعية مزدوجة. فلمس العارفون عندنا، مظاهرالخلل فيها، واتساع فجوة الدخل بين الناس، وتقلص الطبقة الوسطى واتساع شريحة الطبقة الأقل حظاً، وتعاظُم ثراء ونفوذ الأكثر حظاً، فبرز لنا تفاوت تنموي مُقلِق في الدخل والنماء بين المدن والريف والبوادي، بل اكتشفت بعض الدراسات جيوب فقر وتفاوت بين حيٍّ وآخر داخل المدن. وفي ظل غياب دراسات متخصصة عن معايير توزيع الثروة وتفاوتها بين الطبقات، تبقى تلك «القرائن» هي المؤشر على الخلل والفجوات وتفاوت الدخل وسوء توزيعه في المجتمع. وجميعها منابت للنزاع الاجتماعي والاقتصادي الذي يولد خلخلة اجتماعية، وربما أمنية.
رابعاً: من أكثر الاقتصادات التي فيها تفاوت وسوء توزيع للدخل، الاقتصاد الامريكي، ومصر وبعض الدول الافريقية، حيث تمتلك فئة لا تزيد عن 10% من السكان، يملكون في بعضها، دخلا معادلا لـ90% من الدخل القومي، (ووفق مؤشر ستاندرد أند بورز 500 فإن دخل المديرين في أمريكا،361 مرة أكبر من معدل دخل الموظفين والعمال، قبل عدة سنين). ويتفاوت العلاج عند بعضها، لتقليص الفجوة والتفاوت، من خلال إجراءات سلمية منها فرض ضرائب أعلى على شرائح الدخول الأعلى، وفرض رسوم وضرائب على الثروة والفوائد والأرباح وأرباح بيع الأسهم وعلى الأكثر حظا، أفرادا وشركات، وحتى فرض رسوم على برك السباحة وأخرى تصاعدية على الخدمات واستهلاك الماء والطاقة، وَوِفْقَ تصنيف حالة المناطق تنموياً، وفرض ضريبة على دخل المدارس الخاصة من الرسوم، تستخدم حصيلتها، في دعم المدارس والمعلمين في المناطق الأقل حظا. وبرز جليا من تجربة هذه الدول، حقيقة تنموية، أنه في غياب الحوكمة الرشيدة عند الدولة، فإن الشركات الكبرى والقطاع المصرفي ورواتب مديريه، والمدارس الخاصة، أصبحت تلقائيا بيدِ القِلة الثرية، وهي من أهم منابت ومصانع تفاوت الدخل والازدواجية الاقتصادية والاجتماعية – فالتعليم المتقدم في المدارس الخاصة، لأبناء هذه الفئة أمر متميز، يضمن لهم بعد التخرج، مواقع تنافسية متميزة في السوق،، بدخلٍ أعلى، ومواقع للمسؤولية متقدمة، لمن يرغب منهم الوظيفة العامة. لكنه مظهر تعليمي خاص لا يشمل القطاع كله. والتحية واجب يستحقُّها المُشرِّع الألماني الذي أوجد مدارس قوية في ألمانيا من نوع واحد فقط – عامة. وهناك الآن نداءات، تبدو متطرفة، في بريطانيا الرأسمالية ومن قبل حزب العمال، لتأميم المدارس الخاصة، «صانعة التفاوت الطبقي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي» هناك.
خامساً: الإضراب إفراز عصري ديمقراطي، يجب أن لا يكون الخطوة الأولى لفض النزاع. وواضح أنه في صالح ولاة الاقتصاد والسياسة هضم هذه الحقيقة الحياتية، واستيعابها والعمل على تنظيمها، وإعادة تأهيل دور القطاع العام. لقد شاهدنا كيف تدخَّلت الحكومة الفيدرالية الامريكية بأذرعها في الأزمة المالية عام 2011، وما تلاه، فأنقذت قطاع المال والأعمال الامريكي من الانهيار.
إن الدرس البارز من تجربة إضراب المعلمين في الأردن، الذي فُضَّ بطريقة ما، قد لا تمنع تكراره، هو درس أبْرزَ لنا شاخصة مواصفاتٍ لِحَوْكَمةٍ اقتصادية اجتماعية مطلوبة، تعالج الازدواجية التنموية في البلاد، من قِبَلِ إدارة متينة مُجرِّبة، مُقنِعَة، وقُدوة، تتواصل مع الناس، ولا يضع بعض المسؤولين فيها موظفين كطبقة عازلة وسور إداري بيروقراطي يُعيقُ الاستماع لبُناة الوطن، وتبادل المشورة معهم. حقا، إن المسؤول متغير، والوطن باقٍ لغالبية المواطنين، الذين هم الأَوْلى والأكثر حاجة للرعاية، كما أكدّ ملياً، ملك البلاد. اللهم إحفظنا بحِفْظِك.
*القدس العربي - خبير اقتصادي وزير سابق