facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

حدود المعرفة

حدود المعرفة

م. أشرف غسان مقطش

القبة نيوز- نقرأ في كتاب "خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة" لمؤلفه د. علي الوردي، دار الوراق للنشر، الطبعة الثانية (1996)، ص(28):


ويحكى أن أحد الفلاسفة العظام سئل عند موته: ماذا تعلمت؟ فأجاب: إن خير ما تعلمته في حياتي هو أني لا أعلم شيئا.

ما معنى ما قاله الفيلسوف الذي أعتقد أنه كان سقراط؟

قد يجيب أحدهم بأن المعنى بسيط جدا وهو أن المعرفة لا تنتهي ولا تقف عند حد معين، وهذا صحيح.

ولكن، هذا صحيح إلى حد لا يدعو لاستشعار الخطورة فيما وراء كلمات الفيلسوف من مخاطر كامنة في معانيها ومدلولاتها.

هذا الفيلسوف لو بعث حيا هذه الأيام، ونشر (فيديو) على (اليوتيوب) يقول فيه ما قاله عند موته الأول، لهاجمه رجال الدين أي دين كان ولكفروه، ووصموه بوصمة الإلحاد والزندقة، وأولاهم ما يسمى بقداسة بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر وغيرهما من أباطرة إمبراطوريات الأديان التي لا تغيب عنها الشمس!

والسبب في ذلك بسيط جدا، وهو أن كل دين يدعي أن كتابه قرآنا كان أم إنجيلا أم توراة أم غيرهم من كتب وشحها البشر بوشاح القداسة، هو المعرفة بحد ذاتها، وأن دفتي كتابه هما حدود المعرفة، وأن أوراق كتابه بيضاء بياض الثلج خالية من أية شائبة تشوب "الحقيقة".

فالمسلم ينسى أولا أن القرآن يقول: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" ثم يدعي ثانيا أن القرآن يملك مفتاح كل حقيقة ظهرت أم لم تظهر بعد، ولما تظهر حقيقة ما تجده يهرول إلى القرآن باحثا عن جملة فيه يلقى فيها خير تأويل يستند إليه ليقول لك وقد اعتلى سرج خيل الكبرياء: "أنظر! لقد تحدث القرآن عن هذه الحقيقة قبل نحو 1400 عام!".

أما المسيحي فحدث ولا حرج، لأنه حالما تسأله عما قال الكتاب المقدس في شأن هذه الحقيقة المكتشفة حديثا، فسوف يجيبك بأنه إذا ما قرأت الكتاب المقدس فإنك ستجد الحقيقة هنا أو هناك ذلك لأن ابن مريم طلب من الناس أن يفتشوا في الكتب ليكتشفوا بأنفسهم الحقائق المخفية فيما وراء سطور الكتب، ثم يعتلي سرج الغرور وهو يقول لك: ابن مريم قال: "أنا هو الطريق والحق والحياة".

إذا قلت لك بأن المعرفة نسبية فأنا مخطئ، وإذا قلت لك بأن المعرفة مطلقة، فأنا مخطئ أيضا، لماذا؟

لأن المعرفة قد تكون نسبية في مجال ما، وقد تكون مطلقة في مجال آخر، وقد تكون نسبية ومطلقة في آن واحد، وقد تكون ذات حدود في هذا الشأن، وقد تكون بلا حدود في شأن آخر، وقد تكون بحدود وبلا حدود في نفس الشأن. والمعرفة لربما تكون موجودة في الفراغ معلقة ساكنة هناك، ولربما تكون موجودة في كل مكان متحركة هناك، كامنة في كل لحظة آتية إلينا أو ذاهبون لها قد تستشعرها أحاسيسنا، و/أو قد تستقرؤها عقولنا، و/أو تستلهمها حوادسنا.

ولربما تكون المعرفة منتجا إجتماعيا ليست له مواصفات ومقاييس محددة، إذ ما دام المجتمعات في حركة دائبة وتطور مستمر، فالمنتجات المعرفية متنوعة بتنوع المجتمعات، ومختلفة باختلاف عاداتها وتقاليدها، ومتباينة بتباين سرعتها في التحرك.

ولما يقر الفيلسوف وهو على فراش الموت بأنه لم يعلم شيئا بعد، حق لنا التساؤل: هل القوانين التي تدير الدولة مطلقة في عدالتها؟ وهل الدستور الذي يمثل العقد بين الشعب والسلطة مطلق في شرعيته؟

تتغير القوانين بتغير مشرعيها، وتوضع القوانين وفقا لمصالح واضعيها تارة، ووفقا للمصلحة العامة طورا آخر، ولكن، إلى أي مدى تصمد القوانين الموضوعة على هوى المصالح الخاصة في معركتها مع المصلحة العامة؟

إن الظلم في أحد معانيه بالنسبة لي هو طغيان المصلحة الخاصة على المصلحة العامة في سن القوانين التي تجري عليها الدولة، وحينئذ يمسي القشة التي تقصم ظهر البعير! ويصبح "الولعة" التي تشعل النار في أتون الغضب الشعبي فتندلع نيران الثورة، ثورة المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ولربما تنتصر الثورة بإرادة الحياة، ولربما تخمد أوارها سريعا بالتحالف مع قوى خارجية.

لو كان هناك معرفة مطلقة في إطار القانون لكانت هناك قوانين مطلقة لا تتغير بتغير الزمان والمكان والسلطان! ولكان الدستور الصالح لتلك الدولة هو نفسه الدستور الصالح لدولة أخرى على مر ااتاريخ.

أما الدين، فربما لا أجانب الصواب إذا ما قلت بأنه أحد المنتجات المعرفية للمجتمعات عبر حركتها التاريخية المتواصلة بتواصل دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها.

تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير