تفاوت الرواتب في مؤسسات الدولة
د. رحيل محمد غرايبة
من الأمور التي تؤشر إلى بعض مواقع الخلل في مؤسسات الدولة تفاوت الرواتب تفاوتاً كبيراً يصل أحياناً إلى أضعاف مضاعفة، وخاصة فيما يتعلق «بالهيئات المستقلة» أو المناطق الخاصة أو المناطق التنموية، وقد ظهر الفارق بشكل صارخ عندما تم ضم بعض المؤسسات ودمجها في السنوات السابقة، وقد تم الدمج مع احتفاظ أصحاب الرواتب العالية برواتبهم بصفتها مكتسبات سابقة، فنجد في التخصص الواحد بالدرجة نفسها أحدهم يأخذ راتب (3200د) ومثيله يأخذ (700د).
هذا الخلل الكبير له أضرار كبيرة وسلبيات قاتلة على عمل المؤسسة وأداء الموظفين وإنجازاتهم، بل إن هذا التفاوت يؤدي إلى توليد إحباط كبير وعميق في نفسيات بعض الموظفين ويزعزع ولاءهم للمؤسسة والدولة، وربما يتطور هذا الشعور ليخلق حالة من النقمة خاصة إذا كان صاحب الراتب الأقل أكثر كفاءة وأكثر إنجازاً وأفضل أداءً.
هذا الخلل يحتاج إلى توقف وإعادة دراسة سريعة، ومن ثم إعادة هيكلة حاسمة، وأعتقد أن الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد تمثل فرصة مناسبة لإعادة الهيكلة فيما يخص هذا التفاوت المريع وضرورة المعالجة على وجه يخلو من الإبطاء والمماطلة، وفق مبدأ «العدالة» التي يفرضها الدستور والقانون، ويفرضها المنطق الإنساني ويقر بها جميع العقلاء.
هناك من يبرر هذا التفاوت أنه من أجل الاحتفاظ بالكفاءات المتميزة، وأصحاب التخصصات النادرة، التي جيء بها من أجل التطوير والتحسين، ومن أجل التحرر من البيروقراطية التي تعيق العمل، وتقلل الآداء وتخفض الانتاج وللإجابة على هذا التبرير هناك حلول منطقية وواقعية.
الإجابة الأولى : أنه يمكن إضافة حوافز مجزية تضاف لأصحاب المواقع التي تحتاج إلى تطوير وإبداع، ولكن هذه الحوافز تكون مرتبطة بالإنجاز ومرتبطة بالنجاح المطلوب وفق معايير منضبطة قابلة للقياس، فعندما ينجح صاحب هذا التخصص في أداء الدور المطلوب يمكن أن يحظى بالحوافز المرصودة بالنظام، والحوافز في العادة يجب أن تكون خاضعة لسقف يفرضه المنطق الإداري والمحاسبي، فقد يصل إلى 50% مثلاً أو قد يصل إلى 100% في بعض الحالات النادرة، أما أن تكون رواتب خيالية بلا إنجازات وبلا مردود حقيقي فهذا يصبح ضرباً من ضروب الفساد.
أما الإجابة الثانية فتتمثل بضرورة الالتزام بالمنطق الإداري الذي يفترض أن يكون المجال الواحد يخضع لأوامر واحدة ورأس واحد وفلسفة واحدة تنبثق من رؤية موّحدة ورسالة محددة، فلا يجوز أن يكون المجال الواحد في الدولة خاضعاً لتنافس الرؤوس، وتعدد المرجعيات، واختلاف الرؤى والمنهجيات، فليس هناك أشد ضرراً من وجود التنازع في المجال الواحد والعمل الواحد، لأن ذلك يمثل مدعاة للفوضى والارتباك والفشل المحتم.
من هذا المنطلق يجب إعادة النظر في تجربة إنشاء هيئات مستقلة تنازع إدارة مؤسسات القطاع العام، وأعتقد أن التحديث والتطوير يجب أن يتم عبر مؤسسات القطاع العام أو استبداله أو إصلاحه أو إعادة هيكليته، من خلال تغيير الرؤوس وتغيير القيادات والأشخاص، من أجل إعطاء فرصة للجيل الجديد من أصحاب الرؤى الحديثة والفلسفات المتطورة والمعاصرة، لإثبات قدرتهم على إحداث هذا التطوير، وإحداث الإنجاز المطلوب، ويجب أن يكون ذلك مرتبطاً بفترة زمنية محددة، وحجم إنجاز محدد قابل للقياس والتقويم، ومرور خمسة عشر عاماً أو أكثر أو أقل قليلاً فرصة كافية للحكم وإعادة النظر والتقويم على هذه التجربة بايجابياتها وسلبياتها، وفرصة مناسبة للتخلص من كل أصحاب الرواتب الخيالية.
القضية الأخرى تتعلق بعضوية الرجل المسؤول في مجالس إدارية عديدة؛ بعضها يصل إلى (5) أو (6) وأحياناً (8) مجالس، ويحصل على مكافآت بكل هذه المجالس، وهذا أمر يستحق إعادة النظر أيضاً، بحيث يتم توزيع عضوية المجالس على الأشخاص الآخرين بالتخصصات المشابهة، ولا يجوز أن يكون الشخص الواحد عضواً في أكثر من مجلس أو مجلسين على الأكثر، وأن يتم تحديد سقف العوائد المتأتية من هذه المجالس، لأنه ليس من المعقول أن يملك الشخص الواحد الوقت والجهد الكافيين للتعامل مع هذه المجالس المتعددة، فضلاً عن ضرورة البحث عن الكفاءات الأخرى وتنمية الخبرات المتعددة والسماح للأجيال الشابة باثبات وجودها، وتوزيع العوائد بشكل أكثر عدالة.
آن الآوان لوقف هذا الخلل وضبط الهدر المالي الذي تتدخل فيه أحياناً الوساطات والمحسوبيات والشلليات ومواقع أصحاب النفوذ، التي تعد الوجه الأكثر بشاعة للفساد المُقنّع.