facebook twitter Youtube whatsapp Instagram nabd

شجرة أنقذت ملايين الأرواح

شجرة أنقذت ملايين الأرواح

القبة نيوز- يتميز متنزه مانو الوطني، حيث يلتقي حوض الأمازون مع جبال الإنديز جنوب غربي بيرو، بتنوعه الحيوي الفريد من نوعه، إذ تمتد هذه المحمية الطبيعية الخضراء، التي يلفّها الضباب وتغطيها متاهة من النباتات المتسلقة وتغلب عليها الطبيعة البكر، على مساحة 1.5 مليون هكتار.

 

ووفق تقرير لشبكة "بي بي سي"، ما زالت هذه المنطقة تتوافر على أشجار سينشونا أوفيسيناليس القليلة الباقية المهددة بالانقراض، وهي أشجار رفيعة يصل طولها إلى 15 متراً، وموطنها سفوح جبال الإنديز. لكن هذه الشجرة شكلت تاريخ البشرية لقرون، ونُسجت حولها أساطير عديدة.

وتقول ناتالي كانالز، عالمة بيولوجيا في المتحف الوطني بالدنمارك، وتنحدر من منطقة غابات الأمازون في بيرو، إن المُركَّب الذي يُستخرَج من هذه الشجرة أنقذ حياة الملايين على مرّ التاريخ. إذ تُستخرَج من لحاء هذه الشجرة النادرة مادة الكينين، التي تعد أول عقار لعلاج الملاريا في العالم. ومنذ مئات السنين، لقي اكتشاف هذه المادة ترحيباً من البعض، وأثار ارتياب آخرين حول العالم.

وفي الأسابيع الماضية، أصبحت هذه المادة الطبية محل جدل عالمي واسع، وروّج البعض للبدائل المخلقة معملياً لمادة الكينين، مثل كلوروكين وهيدروكسي كلوروكين، بوصفها علاجات محتملة لفيروس كورونا الجديد.

ويُعَدّ مرض الملاريا، الذي تسببه طفيليات ينقلها البعوض بين البشر، من أكثر الأمراض فتكاً في تاريخ البشر، إذ اجتاح الإمبراطورية الرومانية منذ قرون عدة، وأودى بحياة ما يراوح بين 150 إلى 300 مليون شخص في القرن العشرين.

واستخدمت في العصور الوسطى علاجات عديدة لمرض الملاريا، الذي يعني بالإيطالية "الهواء الفاسد"، في إشارة إلى أنهم كانوا يعتقدون قديماً أنه ينتقل عبر الهواء. وراوحت هذه العلاجات من الفصد وبتر الأطراف إلى عمل ثقب في الجمجمة. ويقال إن لحاء سينشونا أوفيسيناليس، الذي يُعَدّ أول علاج معروف للملاريا، اكتشف في جبال الإنديز في القرن السابع عشر.

إذ يُحكى أن كونتيسة تشينتشون الإسبانية، زوجة حاكم بيرو، أصيبت بحمى وكانت ترتجف ارتجافاً شديداً، وهما عارضان رئيسيان للملاريا، ثم أعطاها زوجها توليفة أعدها الكهنة اليسوعيون من لحاء شجرة في جبال الإنديز مع قرنفل وبعض النباتات المجففة، على أمل أن تعالجها من مرضها. وسرعان ما استردت الكونتيسة عافيتها. وقد أصبحت هذه الشجرة شعاراً وطنياً لبيرو والإكوادور.

قد تحمل هذه الرواية بعض المعلومات الصحيحة، إذ يقتل الكينين، وهو مركب شبه قلوي يستخلص من لحاء شجرة سينشونا، بالفعل، الطفيلي المسبب للملاريا. لكن بعض المؤرخين يقولون إن القبائل الأصلية التي كانت تسكن بيرو وبوليفيا والإكوادور كانت تعرف الكينين قبل أن يكتشفه الكهنة اليسوعيون.

وقدم السكان الأصليون اللحاء للكهنة اليسوعيين الذين طحنوه وحولوه إلى مسحوق مرّ المذاق بات يعرف باسم "مسحوق اليسوعيين"، وسرعان ما انتشر في أوروبا، وكتب الأوروبيون عن العلاج السحري للملاريا الذي اكتُشف في غابات العالم الجديد. وفي منتصف القرن السابع عشر، أقام الكهنة اليسوعيون طرقاً تجارية لنقل اللحاء عبر أوروبا.

واستخدمت مادة الكينين في فرنسا لعلاج الملك لويس الرابع عشر من نوبات الحمى. وأجرى طبيب البابا في روما تجارب على مسحوق الكينين ووزعه الكهنة اليسوعيون على الجمهور مجاناً.

لكن العقار لم يلقَ ترحيباً في إنكلترا البروتستانتية، حيث أطلق بعض الأطباء على التوليفة التي يروّج لها الكاثوليكيون اسم "السم البابوي"، ويقال إن القائد الإنكليزي أوليفر كرومويل، توفي جراء إصابته بالملاريا، لأنه رفض تناول "مسحوق اليسوعيين".

وأدرجت كلية الأطباء الملكية لحاء الكينا في دستور الأدوية البريطاني كعقار رسمي في عام 1677.

ولتلبية الطلب المتزايد على مادة الكينين، استعان الأوروبيون بالسكان المحليين للبحث عن شجرة سينشونا أوفيسيناليس، أو الكينا، في الغابات المطيرة، والحصول على لحائها وتحميلها في سفن نقل البضائع في مرافئ بيرو. وما لبثت شجرة الكينا أن أصبحت نادرة.

وارتفعت قيمة لحاء الكينا في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع التوسعات الاستعمارية، حين أصبحت الملاريا من المخاطر الكبرى التي تهدد الجيوش الأوروبية في المستعمرات الأجنبية. وبات الحصول على مادة الكينين إحدى المزايا الاستراتيجية في السباق نحو الهيمنة العالمية. ومن ثم أصبح لحاء الكينا أحد أكثر السلع طلباً في العالم.

وفي الفترة ما بين عام 1841 وعام 1861، كانت الحكومة البريطانية تنفق ما يعادل 6.4 ملايين جنيه إسترليني سنوياً على استيراد لحاء الكينا لتخزينه لجنودها في المستعمرات. ولهذا، يرى الكثير من المؤرخين أن مادة الكينين كانت أهم الأدوات التي مكنت الإمبراطورية البريطانية من تحقيق أطماعها التوسعية.

وفي منتصف القرن التاسع عشر أقام البريطانيون مزارع أشجار الكينا جنوبي الهند، حيث كان مرض الملاريا متفشياً. وسرعان ما وزعت السلطات البريطانية مادة الكينا المستخرجة من الأشجار المزروعة محلياً على الجنود والموظفين المدنيين. ويشاع أنهم كانوا يخلطون مادة الكينين بمشروب الجن الكحولي ليصبح مستساغاً، ومن ثم ابُتكر مشروب الجن المخلوط مع ماء التونيك الغازي الذي يحتوي على الكينين.

وانتشرت أكاذيب عن فوائد مشروب الجن وماء التونيك للوقاية من الملاريا، إلى درجة أن ونستون تشرشل أشاد بفوائد هذا المشروب، وذكر أنه أنقذ حياة أعداد كبيرة من الإنكليز عجز جميع الأطباء في الإمبراطورية عن إنقاذهم.

استخرج أول عقار للملاريا في العالم من لحاء هذه الشجرة، وقد غيّر هذا الاكتشاف مجرى التاريخ.

تابعوا القبة نيوز على
 
جميع الحقوق محفوظة للقبة نيوز © 2023
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( القبة نيوز )
 
تصميم و تطوير