الحباشنة ” الأوراق النقاشية .. دليل نظري يجيب عن أسئلة وتحديات المرحلة “
كم كنا بحاجة في هذه الظروف الداخلية، وما ينتاب الحالة الاردنية السياسية والاقتصادية من اشكاليات وأسئلة تحتاج الى اجابات، مثل الورقة النقاشية السادسة التي طرحها رأس الدولة حفظه الله أمس الأول.
فالأردن، والذي قُدر له ان يكون في عين العاصفة وان تهب عليه رياح سوداء من كل الجهات، رياح تسعى الى أن تأكل الأخضر واليابس في كل المنطقة العربية، فتدمر منظومة قيمنا العربية الاسلامية، وتحطم ارثنا الحضاري، بل وتقوّض كل امكانية للنهوض والتقدم الذي يقوم على ربط الواقع الراهن بمراحله المضيئة تاريخيا تأسيسا الى قاعدة انطلاق مستقبلية تحقق تطلعات العرب ومنهم الأردنيون بحياة أفضل. الأردن هذا الوطني العروبي بقيادته الهاشمية يحتاج الى دفع فكري نشط وعملي قادر على تعزيز صمود الدولة في وجه الأعاصير والتهديدات، بل والانتقال الى مرحلة التأثير الايجابي بمن حولنا لمجابهة الرياح السوداء برياح تحمل الخير لنا ولكل الأشقاء.
لذا جاءت الورقة النقاشية الملكية السادسة بوقتها، جاءت جامعة، تجيب عن اسئلة طالما دوختنا بنقاش لا طائل منه، فهل نحن دولة اسلامية مدنية أم علمانية !، وماهي علاقة الدولة بالدين ؟، واين هوالقانون ونفاذه من سلوك الاردنيين، مسؤولين ومواطنين؟، وكيف لنا أن نعبد الطريق بين الدولة والمواطنة ؟، حتى الهوية الوطنية الجامعة أصبحت تنوء بحمل وضغط سلبي لهويات فرعية، أصبحت تتجاوز على الشعور الوطني العام، وعلى مصادر عمق الهوية الوطنية بأبعادها العربية والاسلامية بل والانسانية.
(2)
ان الورقة النقاشية الملكية السادسة حملت أفكارا تمثل الى جانب الاوراق النقاشية الخمس الماضية، دليلا نظريا متكاملا لمسيرة الدولة كنقيض لمفاهيم التخلف والجهل والتشدد والتطرف والولاءات الضيقة، وان هذه الاوراق النقاشية انما هي تحد لنا لكيفية اجتراح الوسائل والآليات لنقل منظومتها الفكرية من اطارها النظري التوجيهي الذي وضعه الملك، الى اطارات تطبيقاتية مؤثرة في حياتنا الوطنية ايجابا، وقادرة على الانتقال بنا من حالة المراوحة الى حالة أرقى عملية، تستجيب الى تطلعات الملك ورغبات المواطنين، بقيام دولة نشطة وأداء حكومي رشيق وقضاء مواكب، ورؤيا من شأنها تعزيز ادماج الشعب الأردني وفق عناوينه الرئيسة، لا وفق ولاءاته المناطقية أوالجهوية أوحتى الطائفية والمذهبية، التي بدأت ومع الأسف تأخذ وبفعل تلك الرياح السوداء مكانة في العقل الاردني، وبالذات في عقول الشباب، الذين لا يروا عمليا الا خطاب التشدد والتطرف كخطاب طاغ على المشهد العربي، وبالمقابل غياب خطاب مكافئ يقوم على ما حملت هذه الاوراق النقاشية من فكر معاصر يخدم المرحلة مؤهل لأن يحمى الاردن ويحمي شبابه ويجعله قادرا على الصمود ومجابهة الأخطار.
ان دولة القانون والمؤسسات هي عماد الدولة المدنية، تلك الدولة التي ترسم خطا مستقيما معبدا فيما بينها وفيما بين مفهوم المواطنة، التي ترتقي بأبنائها ليكونوا على مستوى واحد مما هو مطلوب منهم ومما عليهم القيام به تجاه بلدهم. علما بأن منظومة الحقوق والواجبات، وان لم يكن رابطها عدالة ومساواة بين الجميع فانها تكون بلا معنى .
ان الدولة المدنية غير تلك الدولة العلمانية، فالدولة المدنية التي نطمح اليها وشرحتها الورقة السادسة، هي دولة توقر الدين وبالذات في حالتنا «الدين الاسلامي» وتضعه في مكانة عليا فوق السياسة وما يمكن أن تحمل السياسة من امكانيات للصح والخطأ والمناورة … وربما التدليس، وحاشا أن نخضع الدين الى دهاليزها. فالدين قيمة مطلقة لا تحتمل الاخضاع لمتطلبات السياسة الآنية، ولا يجوز ان يستخدم الدين كمادة أو وسيلة للكسب الآني، وهو ما عبر عنه جلالة الملك بوضوح.
ان الدين الإسلامي دين فواح ومعطاء يبث قيم ومفاهيم انسانية كبرى قامت على العدالة والاعتدال وقامت على المساواة واحترام الآخر من الأديان أوالأعراق الأخرى. ورسولنا العربي الكريم –صلى الله عليه وسلم – حين وضع صحيفة المدينة فقد ارادها أن تكون اللوحة الأولى في مسيرة هذه الأمة وبنائها لدولتها المستقبلية، لكل العرب ولكل المسلمين ولكل الأعراق الأخرى بدياناتهم على اختلافها. واعتقادي ان الورقة النقاشية السادسة وبتركيزها على مفاهيم الدولة المدنية انها انطلقت اساسا من صحيفة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم. وأذكر ان تلك الصحيفة قد وجهت للناس، كل الناس، ولم توجه للعرب ولم توجه للمسلمين، ونصت بمضامينها على احترام الآخر، بل ووضعته «بمفهوم الدولة» على قدم المساواة. وبالتالي فان مقاربة اطلاق مصطلح الدولة المدنية الذي نريد، كمعنى معاصر بشكل ومضمون الدولة، انما ينسجم حتى بالتسمية مع صحيفة الرسول عليه السلام «المدينة». حتى وان بعض المثقفين العرب- وانا أميل الى هذا الرأي- ينحون بالقول ان حديثنا عن الدولة المدنية انما نعني صحيفة المدينة مضمونا واسما.
اذا، فحديث الملك عن الدولة المدنية، يجب أن يؤخذ باطاره العملي، وان تقوم الحكومة الاردنية باجراءات مستمدة من روح القانون وفعالية المؤسسات، لأن تحقق مفهوم الدولة المدنية فعليا على أرض الواقع. (3) وفي السياق ذاته، تحدثت الورقة عن الأقلية والأكثرية، وعن منظومة الحقوق بين مكوناتنا الثقافية على اختلافها، ذلك ان المجتمع الحر المتمدن المرتكز على روح قيم وثوابت ربانية، وعلى قيم العروبة لابد وان تنتفي منه سمات التمييز بين المواطنين وفق أسس دينية أومناطقية أوجهوية، فالأردنيون مواطنون من الدرجة الأولى، المسلم والمسيحي، من هو من أصول أردنية اوفلسطينية، عربيا أكان أم من الأعراق الأخرى التي انصهرت في الكينونة الأردنية … فكان الأردن المعاصر. وبالتالي فان هذا الأمر لا يجوز أن يبقى في اطاره النظري ولايجوز أن نتأخر باتخاذ كل ما من شانه تحقيق مفهوم المواطنة الواحدة المتعادلة للأردنيين على اختلاف مكوناتهم. واعتقد أن أولى الخطوات بهذا الشأن هي تحقيق مؤسسية فعلية في اطارات الدولة، تقوم على تقييم ومتابعة الأداء والمساءلة، بحيث نتمكن من التخفيف من ما يترتب من مضار على الولاءات الضيقة والمحسوبية والواسطة، والتي تقوض مسيرة الدولة وتضعف تقدمها. فنظرية الطرد المركزي اذا ما طبقت في اطارات الدولة فانها لا بد تبعد الكفاءات ويجعل من هم في صنع القرار اولئك الذين لا يحملون الا كرت الواسطة .
(4)
لقد أشار جلالة الملك في ورقته السادسة وبوضوح الى مسألة حملت من النقد الكثير والمرير، وهي عدم قدرة الجهاز الحكومي الى أن يطلع بمهمات حمل أهدافنا التنموية، والنهوض بالاقتصاد الوطني، واستكمال منظومة الخدمات، لأنه وبصراحة، جهاز محكوم ببيروقراطية مقيتة، وببطء وتردد باتخاذ القرار، بل وبازدواجية اوثلاثية أورباعية الجهات المعنية باتخاذ القرار نفسه، مؤسسات فرّخت مؤسسات، وحلقات فرّخت حلقات أخرى في الدائرة نفسها، حتى أضحى موضوع الاستثمار في الأردن شبه متعذر لرأس المال الوطني أوغيره. واني هنا وتأكيدا على ما جاء في هذه الورقة الملكية يمكن أن أسرد عشرات الأمثلة على عدم سلامة أداء جهازنا الاداري، وضرورة اعادة النظر وصولا الى جهاز رشيق باداء فعال متمكن من التصدى لأهدافنا في التنمية والاستثمار وغيره. والمفارقة في الوقت الذي يؤشر جلالة الملك بوضوح على واقع الأداء الحكومي تقوم الحكومة بتصغير دور وزارة تطوير الاداء الحكومي بالحاقها بحقيبة أخرى !!!.
وبعد، فقد أردت أن أتوقف عند بعض مما جاء في هذه الورقة وليس كله، لأن الحديث يطول، لكنني أتمنى أن لا يكون مصير هذه الورقة مصير أخواتها التي سبقتها، فلقد مضت أربع سنوات على الأوراق النقاشية الملكية الخمس السابقة، وحقيقة لم نلمس أي جهد من شأنه ترجمة هذا الفكر النشط الى مؤثرات عملية في حياتنا الوطنية، وما زالت مسيرة الاصلاح السياسي والاقتصادي في بلادنا تراوح مكانها، ولم نتمكن حتى من بلورة خطاب فكري حداثي عملي وتعميمه كبديل ومكافئ لخطاب التشدد والتطرف، ولم نقم كدولة بجهد للتأسيس الى ذلك. أنني أدعوأن نتوقف عن ترداد وتأييد مضامين الأوراق النقاشية، وأن نستبدل ذلك بجهد عملي لتطبيقها كمقدمة للنهوض والديمومة والتطور وبناء الأردن على أسس حديثة مدادها عبق الماضي وارادة القيادة وتطلعات المواطنين.
المهندس سمير الحباشنة