الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
القبة نيوز- لطالما ارتبطت الكوفية بلونيها الأبيض والأسود بالـ"قضية الفلسطينية"، وأصبحت رمزاً لـ "المقاومة والنضال" عند الفلسطينيين ومناصريهم، وتحولت من مجرد لباس تقليدي إلى رمز لدعم الفلسطينيين في كل مكان.
وأعلنت وزارة الثقافة الفلسطينية، الأحد 17 نوفمبر/تشرين الثاني، إدراج الكوفية على قائمة التراث الثقافي غير المادي التابعة لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، إذ اعتبر وزير الثقافة الفلسطيني، عماد حمدان، إدراج الكوفية الفلسطينية "إنجازاً وطنياً لصون هذا التراث الثقافي، الذي أصبح رمزاً للهوية الوطنية".
فما هي حكاية الكوفية، وكيف أصبحت جزءاً من الهوية الفولكلورية ورمزاً للفلسطينيين؟
يروي لنا الباحث والكاتب في التاريخ الفلسطيني، حمزة العقرباوي، حكاية الكوفية الفلسطينية بمراحلها الفاصلة، فيقول:
تبدأ الحكاية عام 1936 عندما اندلعت "الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) ضد الانتداب البريطاني".
كانت الكوفية اللباس التقليدي لأهل القرى الفلاحين، أما الطربوش العثماني فتميز به أهل المدن الفلسطينية.
شكّل المقاتلون الفلاحون - أو كما عُرفوا فلسطينياً بـ "الثوار" - عماد تلك الثورة، فـ"نصبوا الكمائن وأطلقوا النيران ونفذوا عمليات اغتيال ضد القوات البريطانية في المدن الفلسطينية".
ومن أجل إخفاء هويتهم وتجنب الاعتقال، ارتدى المقاتلون الكوفية على كامل رؤوسهم لتغطية وجوههم، وحينها لم يكن للكوفية لون محدد، فمنهم من لبسها بيضاء اللون أو سوداء أو صفراء أو حتى مخططة، كما يروي العقرباوي.
"الحطة والعقال بـ 5 قروش.. والنذل لابس طربوش"
ويكمل العقرباوي الحديث عن مرحلة أخرى من مراحل الكوفية، فيقول: بعد فترة من الزمن تنبهت القوات البريطانية إلى أن من يقومون بالتصدي لهم هم الملثمون، فبدأت بملاحقة واعتقال كل من يرتدي الكوفية وحاولت حظرها، ليصدر بعدها بيان من "قيادة الثورة الفلسطينية" في شهر أغسطس/آب 1938، يمنع لبس الطربوش في المدن ويلزم كل الفلسطينيين الذكور بلبس الكوفية أو كما تعرف بـ"الحَطّة" والعقال؛ حتى يتعذر تمييز المقاتلين عن عموم الناس.
بدأ الباعة والأطفال ينادون على المارة: "الحطة والعقال بـ 5 قروش.. والنذل لابس طربوش. الحطة والعقال بـ 10 قروش.. والنذل لابس طربوش"، فارتدى جميع الفلسطينيين الكوفية "تضامناً مع المقاتلين"، حتى حلّت تدريجياً محل الطربوش العثماني.
ومن عام 1938، لعبت الكوفية أول دور "سياسي مقاوم"، فبها "يبرز المقاتل فعله ويخفي وجهه"، كما يقول الباحث والكاتب في التراث الفلسطيني حمزة العقرباوي.
لم تنته فصول الحكاية عند هذا الحد، إذ أن للون الكوفية فصل آخر.
يقول العقرباوي: ظل الفلسطينيون يرتدون كافة ألوان الكوفية "حتى حلّ عام نكبتهم"، عندما أصبح نحو 750 ألف فلسطيني لاجئاً خارج الأرض التي أصبحت لإسرائيل عام 1948.
وبعد "النكبة" جاءت أولى إشارات التحول للكوفية المقلمة باللون الأبيض والأسود المعروفة حالياً، عندما بدأ الفلسطينيون بـ "التعلّق بكل ما يربطهم بالوطن، من طبق القش إلى الثوب المطرز وصولاً للكوفية".
ظلت الكوفية باللون الأبيض والأسود حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، كدلالة على "الهوية الفلسطينية"، ومنذ عام 1965 نالت الكوفية زخماً كبيراً كـ"رمز ثوري للكفاح المسلح" عند الفلسطينيين كما يقول العقرباوي.
وفي ذلك العام أيضاً، بدأت حركة فتح الفلسطينية نشاطها العسكري ضد إسرائيل، فارتدى مقاتلوها الكوفية السوداء والبيضاء. ويشير أرشيف الصور للفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط بأن فاروق القدومي، أحد مؤسسي حركة فتح، كان أول شخصية ترتدي الكوفية، حتى قبل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
كيف أصبحت الكوفية رمزا وطنيا للفلسطينيين؟
ولا شك في أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان له فضل في شهرة الكوفية، فـ"الختيار" - كما يلقبه الفلسطينيون - لم يظهر في أي مناسبة وطنية أو سياسية، دون ارتداء الكوفية على طريقته الخاصة.
وعلى سبيل المثال، كان السياح يسألون الباعة في سوق خان الخليلي في القاهرة عما تعنيه الكوفية، فيجيبون: عرفات، عرفات.
وفي حين مال ناشطو ومؤيدو حركة فتح إلى ارتداء الكوفيات باللون الأسود والأبيض، حمل ناشطوا ومؤيدو اليسار الفلسطيني مثل "الجبهتين الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين" الكوفيات الحمراء والبيضاء بحسب العقرباوي.
"الكوفية إلى العالمية"
ويكمل الباحث والكاتب في التراث الفلسطيني، حمزة العقرباوي، الحكاية ويقول: شكّل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 – 1993) نقطة مفصلية في الدور السياسي للكوفية، حيث "جذبت مشاهد الشبان الفلسطينيين الملثمين بالكوفية وهم يلقون الحجارة والقنابل الحارقة على الجنود الإسرائيليين انتباه العالم"، وهو ما كان نقطة بداية للشهرة العالمية للكوفية كرمز لـ "التضامن والتعاطف مع الفلسطينيين".
ويضيف العقرباوي أنه وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، قرر مقاتلو كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، ارتداء الكوفية الحمراء بغية تفريقهم عن حركة فتح.
وعندما حظرت إسرائيل رفع العلم الفلسطيني (1967-1993)، خضعت الكوفية بالأبيض والأسود للتحول، لتصبح "العلم غير الرسمي" عند الفلسطينيين.
"شبكة الصيد وورق الزيتون"
وبحلول العقد الأول من القرن الـ 21 أصبحت الكوفية قطعة من الأزياء الرائجة التي يتزين بها الشباب، وظهرت على منصات الأزياء العالمية بتصاميم وألوان مبتكرة غير تقليدية.
لكن الخياطة السوداء المميزة على الكوفية التقليدية تشير للعديد من المعاني الرمزية، رغم عدم التحقق من أي منها، كما يقول مؤرخون.
وفي الروايات المتداولة يرمز نمط شبكة صيد السمك إلى البحر الأبيض المتوسط، والخطوط الحدودية العريضة تمثل طرق التجارة، أما الخطوط المتموجة تمثل أوراق الزيتون، التي ترمز إلى المرونة والقوة.
وللباحث والكاتب في التراث الفلسطيني، حمزة العقرباوي، رأي مغاير للتفسيرات المتداولة، فهذه الأنماط، بحسب العقرباوي، ما هي إلا مجرد خيوط عادية، اجتهدها من خاط الكوفية لإظهار بعد جمالي فقط.
"الكوفية والسابع من أكتوبر"
ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، طغت الكوفية الفلسطينية بلونيها الأسود والأبيض على معظم مشاهد الاحتجاجات التي خرجت في العديد من دول العالم رفضاً للحرب، وارتدى المحتجون الكوفية الفلسطينية كـ "تعبير عن الدعم للفلسطينيين".
لكن الكوفية أيضاً أثارت حفيظة مؤيدي إسرائيل، الذين اعتبروها "استفزازاً وعلامة على دعم الإرهاب"، حتى أن صحيفة "زود دويتشه تسايتونج" الألمانية وصفت الكوفية بأنها "قماش المشكلة"، واقترحت على المتظاهرين الألمان المؤيدين للفلسطينيين ارتداء "الزي النازي" بدلاً منها.
وفي بداية الحرب أفاد نشطاء لوكالة رويترز بأن الشرطة في فرنسا وألمانيا، حذرت وفرضت غرامات واحتجزت أشخاصاً كانوا يضعون الكوفية.
ورغم المتاعب التي قد تلحق بمن يرتديها، إلا أن الطلب على شراء الكوفية زاد في الولايات المتحدة بنسبة 75 في المئة، منذ السابع من أكتوبر بحسب رويترز.
من أين جاءت فكرة الكوفية وما تاريخها؟
اعتادت العرب قديماً تغطية الرأس، فارتدى الرجال أغطية بطرق مختلفة، بغية حماية أنفسهم من أشعة الشمس وبرد الشتاء.
وتنوعت الأغطية بين العمائم التي قال عنها الخليفة عمر بن الخطاب إنها "تيجان العرب"، والكوفية التي اشتهر بها رجال البادية والفلاحون في بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى الطربوش العثماني الذي ميّز أهل المدن أو الحضر.
وبالنسبة للكوفية التي تُعرف أيضاً باسم "الحَطّة" أو "الشماغ" أو "الغترة"، فهي قطعة قماش مربعة الشكل تتميز بألوان ونقوش مختلفة، ولعلّ أشهرها الكوفية باللون الأبيض والأسود أو الأبيض والأحمر، ولكل منها حكاية منفصلة.
ويسود اعتقاد بأن أصل كلمة الكوفية يعود إلى مدينة الكوفة في العراق، بينما تقول روايات تاريخية أخرى إن الكوفية لها أصول تسبق الإسلام، عندما ارتداها الكهنة السومريون والبابليون قبل نحو 5000 عام.
وقدم الرحال وعالم الآثار الألماني، ماكس فون أوبنهايم، في تسعينيات القرن التاسع عشر، وصفاً دقيقاً للكوفية، حين قال: "غطاء الرأس الوطني للعرب البدو هو الكوفية أو الشاشية، وهو عبارة عن نسيج قطني أو حريري للأشخاص المتميزين، تبلغ مساحته نحو متر مربع، يطوى بشكل مثلث ويوضع على الرأس بحيث يتدلى طرفاه على الجانبين وطرفه الثالث على الظهر، يُثبت هذا القماش على الرأس بواسطة حبل من شعر الماعز [العقال]، غالباً ما يكون أسود اللون وصلباً بشكل ملحوظ، يلف مرتين حول الرأس".
وجاء في الموروث الشعبي لأهل بلاد الشام أنه من المعيب على الرجل أن يخرج حاسراً رأسه، حتى أن البعض كان يرفض تزويج بناته لمن لا يرتدي الكوفية أو غيرها من أغطية الرأس.
ويشير التراث الشعبي الفلسطيني إلى أن الكوفية كانت تدل على المكانة والقدرة المادية، إذ كان يحرص مختار القرية أو المقتدر على شراء أفضل أنواعها المصنوعة من الحرير أو القطن الخالص، من مدينة حلب ودمشق والقاهرة.