فايزة أحمد الفنانة الجريئة التي مُنعت أشهر أغنياتها لأكثر من 40 عاماً
القبة نيوز- "هذه لا تصلح أبداً للغناء ولا يمكنها أن تصبح مطربة في يوم من الأيام"، من المثير للدهشة أن هذه الجملة وُجهت لصاحبة صوت يعد من أجمل الأصوات في العالم العربي بشهادة أساتذة عصرها.
كان هذا في الإذاعة السورية حين كانت فايزة أحمد فتاة صغيرة ذات ثلاثة عشر عاماً، على الرغم من أنها كانت معتمدة لدى الإذاعة اللبنانية منذ أن كانت في العاشرة من عمرها، حيث عاشت طفولتها في لبنان مع والدتها بعد وفاة والدها السوري، وكانت تغني في إذاعة الشرق الأدنى برفقة الفنانة فيروز، التي لم تكن قد أصبحت بعد "جارة الوادي".
ومن المثير للدهشة مرة أخرى، أن الموسيقيّ السوري شفيق شبيب الذي كان رئيس الدائرة الموسيقية بالإذاعة، والذي رفضها في بداية الأمر، كان هو ذاته من اعتمد صوتها في دمشق ومنحها الدرجة الأولى بعد نحو ثلاث سنوات، حين سمع صوتها في إذاعة حلب التي كانت تُبث في أوقات محددة عبر إذاعة دمشق، دون أن يعلم أنها الفتاة ذاتها!
سوريا "قدمت أول أغنية عرفها التاريخ"
كان الفن العشق الأبدي لفايزة أحمد منذ صغرها، حتى أنها تعلمت العزف على العود وعمرها لم يتجاوز أصابع اليدين. وهذا الحب كان سبباً في فصلها من المدرسة.
وحكت في حديثها للتلفزيون الكويتي، أنها كانت تتحين الفرصة لتغني في أي مناسبة لزميلاتها داخل المدرسة وخارجها وفي أعياد الميلاد، ما أثار ضيق ناظرة المدرسة.
"كان وقتها الفن عيب" كما قالت فايزة، التي كانت تتعلم الغناء في ذلك الوقت على يد أحد أساتذة العود، ما تسبب في تأخرها عن المدرسة في أحد الأيام، ورأت ناظرة المدرسة أن فايزة تتسبب في إفساد أخلاق زميلاتها، وقررت فصلها.
وكان هذا الحرمان من استكمال مشوارها الدراسي، السبب في لهفة فايزة أحمد لتعويض ذلك بالغناء في الإذاعة في لبنان وفي سوريا، وقد نجحت في جذب أهم الملحنين في ذلك الوقت، كما حكى المخرج الإذاعي السوري باسل يوسف.
وقال يوسف لبي بي سي إن "أول من لحن لها كان نجيب السراج" من خلال أغنية "إن كنت تنساني فلست تهواني"، بالإضافة إلى رفيق شكري، كما لحن لها محمد محسن نحو 13 أغنية.
بين إذاعة بغداد والملاهي الليلية
فايزة التي احتضنت آلة العود منذ نعومة أظفارها، كان طموحها الفني يتخطى الشهرة المحلية، فتركت الشام وذهبت إلى بغداد باحثة عن الفن بطعم المقام العراقي.
وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف تلك الفترة من حياتها، حيث لم تحكِ عنه في لقاءاتها، إلا أن عادل عرداوي، الباحث في التراث العراقي، قال لبي بي سي إن فايزة أحمد قضت نحو عامين في بلاد الرافديْن، يرجح أنهما (1956- 1957)، كانت تتردد فيهما على إذاعة بغداد.
وهناك، عرفت الموسيقار الكبير رضا علي، الذي قدمها للجمهور العراقي، وغنت له "ما يكفّي دمع العين يا بويه" الأغنية التي ذاع صيتها.
وأتقنت فايزة اللهجة العراقية، مسجلة العديد من الأغنيات الأخرى، منها "ايش بيك يا قلبي دقاتك سريعة" و"يا رب صلّ على النبي المجتبى".
وأضاف الباحث الموسيقي العراقي أن فايزة "كانت تؤدي وصلات غنائية للجمهور في ملاهي وكباريهات بغداد آنذاك"، شأنها في ذلك شأن العديد من المطربين من مصر وغيرها، ممن كانوا يتخلّفون عن فرقهم الغنائية ويمارسون النشاط الفني لسنوات عدة في العراق.
ولم يكن عملها في الملاهي بالأمر الجديد عليها، فكما حكى الباحث الموسيقي السوري صميم الشريف للإذاعة السورية، في تسجيل حصلت عليه بي بي سي، عملت فايزة أحمد بالملاهي الدمشقية والحلبية بهدف "جمع المال لتقتني بيتاً تسكن فيه هي وأبناؤها" بعد انفصالها عن زوجها الثاني.
وانتهت رحلتها في العراق بحادث سير أليم، حكت عنه فايزة سريعاً في لقاء بالتلفزيون الكويتي، قائلة إنها فقدت بعده الذاكرة وأُصيبت بصدمة نفسية واكتئاب، ما أدى بها إلى النحافة الشديدة والوهن، فنصحها البعض بالذهاب إلى هوليود الشرق.
"أغنية خليعة تحرض الفتيات"
"يا رايح مصر .. مثلك ألوف" هذا المثل الشامي استخدمته الفنانة فايزة أحمد في لقاء لها، للتعبير عن مخاوفها القديمة من الانتقال إلى القاهرة، التي تعج بألوف المغتربين الباحثين عن أضواء الشهرة آنذاك.
ومع ذلك، ساعدتها في الانتقال دعوة وُجهت إليها من مصر، بعد أن سُمع صوتها في أغنية اشترت الإذاعة السورية ألحانها من الفنان المصري أحمد صدقي.
وحكت فايزة في أحد لقاءاتها أن نقطة انطلاقها كانت أغنيتها الأولى باللهجة المصرية من ألحان الموسيقار محمد الموجي "أنا قلبي إليك ميال"، والتي شهدت إقبالاً جماهيرياً كبيراً كما حكت، ولا تزال من بين أغنياتها البارزة.
ومع ذلك، يرى الباحث الموسيقي السوري صميم الشريف أن أغنية "يامه القمر ع الباب" كانت "جواز مرورها للإذاعة المصرية"، و"نقطة تحول" في حياتها؛ حيث غنتها في إطار فيلم "تمر حنة" بجوار الفنانة المصرية نعيمة عاكف.
وقد أثارت الأغنية جدلاً واسعاً بدءاً من مصر التي طالب فيها النائب سيد جلال، الملقب بـ "شيخ البرلمانيين" بمنع بثها في الإذاعة المصرية كي لا تدخل هذه الأغنية كل بيت، بحسب ما نُقل عنه.
وقال الناقد المصري طارق الشناوي إن "التيارات الدينية في ذلك الوقت في مصر وخارجها اعتبرتها أغنية خليعة".
وأضاف لبي بي سي أن الأغنية "اعتبروها جريئة أكثر مما ينبغي"، وأنها "تحرض الفتيات على إدخال الرجال إلى بيوتهن"، ما أدى إلى منعها من عدد من الإذاعات العربية.
بين الأخلاق والسياسة
يرجح راتب المرعي الدبوش، المعد ومقدم البرامج في الإذاعة الأردنية أن أغنية "يامه القمر ع الباب" مُنعت من الأردن منذ أوائل الستينيات، "بموجب تعليمات شفوية غير مكتوبة"، مستلهمة ذلك من الجدل الذي أُثير في مصر.
ويضيف لبي بي سي أن سبب المنع ربما يعود إلى "الإيحاءات والإيماءات التي تحملها بعض كلمات الأغنية، والتي قد تغري بالنسج على منوالها، لإنتاج كلام لا يتفق مع ثقافة مجتمع محافظ كالمجتمع الأردني".
ومع ذلك، لا يظن الدبوش أن منع الأغنية أو الإفراج عنها عام 2006، قد أحدث أصداءً لدى الشارع الأردني؛ "لأن همومه وقضاياه التي تشغل باله، أكبر بكثير من اهتمامه بمنع أغنية، أو السماح ببثها".
وأعرب الإذاعي الأردني عن إعجابه بالأغنية بكلماتها وألحانها وأدائها، إلى جانب "رصدها هموم الفتاة المصرية في أواخر الخمسينيات، وحيرتها بين قبول خاطب لها أو رفضها له".
ويرى الدبوش أن بعض الجهات الشعبية أو الرسمية، أغفلت جمال الأغنية وركزت على ما لم يكن في ذهن كاتب الأغنية أصلاً، مضيفاً أنه "ربما كانت صاحبة هذه الأغنية هي المستهدفة، لأن الأغنية كانت البوابة الواسعة التي دخلت منها فايزة أحمد إلى عالم النجومية".
ولم يقتصر الأمر على الجانب الأخلاقي؛ فقد كان للأغنية أصداء في الشارع اللبناني، بعد أن اشتهرت منها نسخة ذات مغزى سياسي، تنتقد رجال الدولة اللبنانية.
ونُسب إلى أحد أشهر الشعراء والمغنيين الشعبيين في ذلك الزمن، عمر الزعنّي، أنه قام بتحوير كلمات أغنية فايزة وتداولها في الشارع اللبناني، مشيراً إلى كميل شمعون، الرئيس الثاني للجمهورية بعد الاستقلال، ورئيس حكومته سامي الصلح ووزير الخارجية شارل مالك.
وجاء في الأغنية المُعدلة: "يامه الدولار ع الباب، شمعون بيناديلُه، مالك فتح له الباب، وسامي بيغني له"، الأمر الذي قيل إنه تسبب في اعتقال الشاعر آنذاك.
"لو مغنيتش أموت"
حكت فايزة أحمد للإذاعة المصرية أن والدتها اكتشفت فيها موهبة الغناء وهي بعدُ في سنوات عمرها الأولى، فأولتها اهتماماً خاصاً حتى أنها باعت قطعة ذهبية تمتلكها لتشتري لها عوداً.
هذا الاهتمام، جعل فايزة أحمد تضع الفن نُصب عينيها، حتى أنها لم تأبه لمرضها في ريعان شبابها، وكانت تسافر في اليوم الواحد ما بين الإذاعة السورية واللبنانية لتغني صباح مساء.
كما رفضت الاستمرار في إحدى زيجاتها حين طُلب منها اعتزال الفن، بحسب الشريف، الباحث الموسيقي السوري، رغم أنها أنجبت منه ثلاثة من الأبناء.
وكانت زيجة العمر لفايزة أحمد من الموسيقيّ الشاب محمد سلطان الذي كرست صوتها لألحانه، بعدما وصفته بعزوف الملحنين عنها، وأنجبت منه توأماً، واستمر زواجهما لنحو 18 عاماً تخللها طلاق قصير الأمد وزواج من رجل آخر لأشهر قليلة، لتعود إلى سلطان قبل وفاتها.
ووصف الناقد الفني المصري طارق الشناوي عشق من لُقبت بـ"كروان الشرق" للغناء بأنها "أكثر مطربة فطرية في العالم؛ بمعنى أنها كانت تمارس الغناء لأربع وعشرين ساعة، لدرجة أنها قد تغني المكالمات الهاتفية".
وقالت فايزة في حديث للإذاعة المصرية إنها تشعر بالتعب الشديد إذا لم تغن، مضيفة "أحب أن أغني. لو مغنيتش أموت. تعبي في الفن أولى من راحتي في البيت".
وذكر الشناوي قصة طريفة توضح مدى حرصها على صوتها لدرجة أنها "استطاعت أن تأخذ من مُحافظ القاهرة قراراً بمنع قلي الطعمية والباذنجان أسفل منزلها، قائلة إن الزيوت تؤذي صوتها"، ما أدى إلى إغلاق ذلك المتجر، قبل أن يُعاد فتحه مجدداً بسبب تحقيق صحفي أجراه الشناوي مع عدد من الموسيقيين الذين أكدوا له عدم تأثير الزيوت على الصوت.
ولم يمنع المرض فايزة أحمد من أن تغني وهي على فراش الموت، بعد أن أُصيبت بسرطان الثدي، حيث حظيت بآخر ألحان رياض السنباطي قبل وفاته، لتغني "لا يا روح قلبي"، وكانوا يُجلسونها، بحسب الشريف، كي تستطيع أن تغني في تسجيل صوتي لم يُكتب له أن يظهر على خشبة المسرح.