المشهد الثقافي التونسي يواصل حضوره المميز
القبة نيوز- واصل المشهد الثقافي في الجمهورية التونسية الشقيقة، حضوره المميز في مختلف الابداعات، كان من أبرزها عدد من الفعاليات التي سلطت الضوء على عمق واصالة الحالة الثقافية في تونس والتي توائم ما بين المعاصرة والموروث.
*بعد تسجيل مهاراتهن على اللائحة التمثيلية لليونسكو: حرفيات سجنان يُطالبن بدعم أكبر لاستمرار العمل في هذا المجال:-عادت تونس بعد أكثر من 20 سنة لتسجل عنصرا جديدا هو عنصر المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجنان، والذي تمّ إدراجه يوم 29 تشرين الثاني 2018 في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو، وهذا الإنجاز الذي تحقّق لتونس كان ثمرة مجهودات نساء سجنان اللاتي صنعن أمجادهنّ من صناعة الطين، فشكّلن منه قطعا فخارية فريدة من نوعها ارتقت بتونس إلى العالمية من جديد.
ويبلغ عدد حرفيات سجنان اللاتي يشتغلن في مجال الفخار اليدوي حاليا 380 حرفيةً، بحسب رئيس جمعية المحافظة على البيئة في سجنان منجي البجاوي الذي أكّد أن جميع الحرفيات ينتمين إلى عائلات محدودة الدخل، وأن هذه الصناعة اليدوية تمثل مصدر رزقهن الوحيد للإنفاق على أسرهنّ.
وتشدّد العديد من نسوة سجنان، على حاجتهنّ لدعم الدولة خاصّة من الجانب المادي، فهنّ يؤكدن على حاجتهنّ للدعم من أجل استمرار العمل في هذا المجال والمحافظة على هذا الموروث وتمرير مهاراتهن في صناعة الفخار للأجيال اللاحقة، "فإذا لم نتمكن من بيع منتوجنا تكسد البضاعة وتغلق أبواب الرزق أمامنا"، هكذا تحدثت إحدى الحرفيات.
وتشكو النسوة "سطوة" بعض الجمعيات على منتوجاتهن بأسعار زهيدة، فبعض الجمعيات "تستفيد مما نشقى من أجله في معارض داخل تونس وخارجها، ولا تمكننا من مستحقاتنا، بل لا ينوبنا سوى بعض الدنانير"، تقول أخرى.
وتأتي النسوة بالطين من المرتفعات الوعرة المتاخمة للقرى بمعتمدية سجنان، وهذه المادة تتميّز بكونها غنية بمادة الكلس ممّا يجعلها صلبة، وتنفق نساء سجنان الكادحات الكثير من المال لنقل الطين إلى بيوتهنّ حيث خصّصن ركنا من البيوت لصناعة الفخار، كما يُنفقن أيضا لشراء الحطب، ويستخدمنه في "طهي الفخار".
ويتطلّب العمل على تشكيل الأواني والأشكال الفخارية مراحل عديدة ووقتا طويلا قد يصل إلى 6 أيام للقطعة الفخارية الواحدة، وكلّ هذا الوقت يُستغرق بجمع الطين ووضعه في الماء لفترة ثم إخراجه وعجنه، لتقوم المرأة بتمليس الطين وتشكيل القطعة الفنية على شكل إناء للطهي أو قطع ديكور للزينة أو تشكيل بعض عرائس الطين أو تشكيل بعض الحيوانات منها السلحفاة والسمكة وغيرها وهي ترمز، وفق المعتقدات البربرية، إلى إبعاد السّحر والأذى.
ويتم تجفيف التشكيلات الفخارية في الظل حتى تتماسك القطعة، وتتجنّب النسوة تجفيفها تحت الشمس حتى لا تكون القطعة الفخارية عرضة للتشقق، ثم يوضع المنتوج في النار، وإثر ذلك تضيف النسوة الحرفيات إلى منتوجاتهن بعض الزينة والرسومات التي تستوحينها من التراث ومن المعتقدات الشعبية.
ولفخار نساء سجنان بولاية بنزرت، خصوصيات عديدة تميّزه عن المنتوجات الخزفية في عديد الجهات التونسية الأخرى، فما يُميّز فخار سجنان هو كونه يدويّ الصنع وريفيّ أي مرتبط بالمرأة الريفية، على عكس الفخار الذي يعتمد على آلة الخراطة وهذا النشاط تشتهر به ولاية نابل ومنطقتا المكنين وجربة، ويمتهنه الذكور عامة.
كما يتميّز فخار نساء سجنان بنوعية الطين المستخدم، فهو غني بالكلس، بالإضافة إلى الزينة، وهي في أغلبها نقوش بربرية ورسومات وأشكال تعبّر عن نمط حياة أهالي سجنان والقرى المجاورة، وهي أشكال فنية ذات بعد إنساني، إذ تعبّر بعفوية عن التوق إلى الحرية، ويتمظهر ذلك بالخصوص عبر الأشكال والألوان.
وهذه النقاط هي التي دعمت بقوة ملف تسجيل عنصر المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجنان في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو، وفق الباحث بالمعهد الوطني للتراث عماد صولة، مبرزا أن لهذه المهارات أبعادها التاريخية والأنثروبولوجية والاقتصادية.
ولاحظ صولة أن الرموز الموجودة على المصنوعات الخزفية، توجد كذلك على محامل أخرى كالنسيج والألياف النباتية، وهذه الرسوم ذات شكل هندسي مجرّد يُعبّر عن التوق إلى الحرية، وفيها أيضاً نوع من تمثّل الكون في أشكال معيّنة، وهو ردّ فعل عفوي وشكل من أشكال التعبير.
وأكد أن تسجيل عنصر المهارات والمعارف المرتبطة بفخار نساء سجنان في القائمة التمثيلية العالمية للتراث اللامادي لليونسكو، وهو اعتراف دولي رفيع المستوى يُعيد الاعتبار لهذه الذاكرة الحرفية، مشدّدا على أن من واجب الدولة والجمعيات الاستثمار في هذا الإنجاز بوضع برامج ثقافية وتنموية وتربوية.
وقال "المهم بالنسبة إلينا هو المحافظة على الذاكرة وتمرير هذه المهارات والمعارف للأجيال اللاحقة".
*مسرحية "قمرة دم" لمعز مرابط: حيرة وجودية بين المقاومة والهروب من الواقع تتدلّى على الركح شرنقة تتساقط منها مجموعة من العرائس، ثم تخرج من الشرنقة امرأة، فتبدأ خطواتها نحو عالم الحياة، تبدو عملية الولادة عسيرة، مشهد يعلن عن قيام ثورة وولادة وطن جديد بأحداث جديدة.
كان ذلك المشهد الافتتاحي لمسرحية "قمرة دم" (Blood Moon)، وهي عمل من إخراج معز مرابط وتأليف بسمة العشي وإنتاج مسرح الحمراء. وأدى الثنائي بسمة العشي ومريم الصياح أدوار هذه المسرحية التي تحكي احداثها قصة امرأتيْن هما علياء وزينب تبحثان عن سرّ اغتيال ملهمتيْهما في إحدى الساحات العامة، وهي شاعرة اسمها هادية، فتقتفيان آثار بعضيْهما البعض، بين الرغبة والقنوط، البقاء والهروب، محاصرتين بهوس ولادة جديدة.
مسرحية "قمرة دم" يتألف عنوانها من مصطلحيْن متناقضيْن: يفيد المصطلح الأول (القمر) معاني الجمال والحب والنور والحياة وانقشاع الظلمات، أما المصطلح الثاني (الدم) فيرمز إلى الجريمة والعنف والموت، وللعنوان أيضا دلالة علمية تحيل على معنى الخسوف الكلّي للقمر، بحيث يُصبح أحمر بلون الدم.
وفي أحداث المسرحية، عبّر العنوان عن مجموعة من التناقضات للواقع المعيش للإنسان: فمعاني الجمال والحب والفرح في الظاهر، أخفت وراءها أوجاعا وآلاما في الباطن، وما اختيار "قمرة دم" عنوانا لهذا العمل إلا لكونه يمثّل صورة مجهرية تقريبيّة عن الثورة التونسية وعن دماء الشهداء التي سالت في سبيل التحرّر من الديكتاتورية، وكذلك عن شهداء ما بعد 14 كانون الثاني 2011 من القوات الحاملة للسلاح الذين فدوا الوطن بدمائهم دفاعا عن قيم الحرية والديمقراطية، وإرساء ثقافة التنوع ضدّ ثقافة الموت التي تتبناها التيارات الدينية التكفيرية.
وارتكز العمل الذي لم يخل من السخرية السوداء، على ثنائيات "الألم والأمل" و"النور والظلمة" و"الحياة والموت"، وهذه الثنائيات المتضادّة تجلّت في أساليب عديدة منها النص والسينوغرافيا ولعب الممثلتين على الركح وملابس الشخصيتيْن، وكذلك في الإضاءة والسخرية السوداء وغيرها.
وتنتهي المسرحية بالحلم كأحد العناصر للتخلّص من مأساة الواقع، حتى وإن كان الحلم باختيار الإنسان لطريقة موته، كما فعلت إحدى الشخصيتين، لكن الأمل في غدٍ مشرق يظل قائما رغم الخيبات
أن تكون مذنبا وتقضي عقوبة سجنية، فذلك لا يُلغي أن تكون مبدعا تحوز على طاقات فنية يمكن تطويعها في عمل ثقافي، سواءً كان مسرحيا أو موسيقيا أو سينمائيا أو غيره.
جاء ذلك ضمن فعاليات الدورة الحادية والعشرين لأيام قرطاج المسرحية من 7 إلى 15 كانون الاول الماضي، وفي إطار ركن "مسرح الحرية" المخصّص للأعمال المسرحية من إنتاج نوادي المسرح في المؤسسات السجنية، تابع جمهور الفن الرابع، بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون بالعاصمة، عرضا بعنوان "بلا قيود"، أخرجته عفاف أنداري، وقدّمه عدد من نزلاء السجن المدني بمرناق من ولاية بن عروس.
وبما أن المسرح هو أب الفنون، وفق المنظور الأرسطي، فإن المخرجة أرادت من مسرحية "بلا قيود" التي دام عرضها 60 دقيقة، أن تكون عملا فنيا جامعا تمتزج فيه فنون الفيديو والشعر والكوريغرافيا، ليكون التعبير المسرحي أكثر حرية وغير محدود.
وانطلقت المسرحية بمقطع غنائي أدّاه أحد السجناء على الركح، يبدو الغناء بالنسبة إليه ملاذا لكسر القضبان والهروب من الواقع والفن هو جزء من أحلامه وطموحاته ليعطي حياته معنى ويحقّق إنسانيته، وإثر هذا المشهد الافتتاحي، تتالت المشاهد الكوريغرافية لتجسّد مواقف عديدة أثارت قضايا حقوقية وإنسانية، كالتمييز العنصري والعدالة والحريات الفردية والجماعية، وجسّد الممثلون مختلف الوضعيات في المسرحية بحركات تعبيرية كوريغرافية، فكانت الحركات الراقصة جماعية وبصفة فردية للدلالة على أن القضايا المطروحة تهم الفرد والمجموعة.
وأما اللعب الدرامي على الركح، فقد جمع بين القسوة والتراجيديا وبين السخرية السوداء، ووظّفت المخرجة أنداري المشاهد القاسية لتعكس المشاهد العنيفة التي تفشت في الواقع التونسي بعد ثورة 14 كانون الثاني 2011، وأما السخرية السوداء، فكانت لها وظيفتان رئيسيتان: تمثّلت الوظيفة الأولى في إراحة الجمهور من عناء تتابع الأحداث ومن المشاهد العنيفة، فيما تكمن الوظيفة الثانية في التعبير عن الأوجاع التي سكنت شخصيات المسرحية وحالة التمزّق التي يعيشونها.
وبرهن أبطال مسرحية "بلا قيود" من خلال هذا العمل الذي تمّ تقديمه بحضور عائلاتهم وكذلك الإطارات السجنية وأحباء الفن الرابع، على أن للسجين طاقات إبداعية يمكن تطويعها في أعمال فنية، وأن الثقافة هي إحدى أشكال إعادة إدماج السجين في المجتمع مرة أخرى، ما يقيه من العود.
*فيلم "قيرة" للفاضل الجزيري.. عندما تُدار السياسة في الغرف المظلمة تحاك الدسائس وتعم الفوضى يحكي الفيلم الروائي الطويل "قيرة" للمخرج السينمائي الفاضل الجزيري في 115 دقيقة رحلة داعية اسمه "بوزيد" ادعى محاربة الظلم وتحول إلى طاغية متعطش للدماء، وهذه الشخصية هي انعكاس لقصة أبي يزيد بن خويلد الكدادي المعروف باسم "بوزيد صاحب الحمار"، ولكن الجزيري أخرجها من ثوبها التاريخي ليؤقلمها مع طبيعة الواقع التونسي الراهن.
ويشارك في أحداث هذا الشريط ثلة من الممثلين التونسيين على غرار طاهر عيسى بالعربي وسامي نصري وسارة الحناشي وآمنة الجزيري ومعز بن طالب وعلي الجزيري ومحمد كوكة وأكرم بوقرين وهيثم الحضيري.
-صور قاتمة ومشاهد عنيفةللتعبير عن معنى "القيرة" أو "الحرب" يلاحظ المشاهد اهتماما بالغا من المخرج بالصور والمشاهد في الفيلم، فهي بدت قاتمة سوداوية لتجسد معاني الحرب بمختلف ملامحها الدامية من عنف ورعب وتعذيب مادي ونفسي ومأساة إنسانية.
وقد لعب المخرج في الصورة على متناقضين اثنين هما ثنائية الضوء والظلمة في آن واحد، وقد شكلتهما النوافذ والممرات داخل الكهوف والأماكن المغلقة وفي الممرات، لتبرز الممارسة السياسية البشعة من ناحية، ومن ناحية أخرى لتسلط الضوء على المؤامرات والدسائس التي تحاك في هذه الغرف المظلمة إلى حد ممارسة كل أشكال التعذيب على الآخر من أجل البقاء في السلطة.
كما لعبت الصورة القائمة على ثنائية الضوء والظلمة دلالات أخرى في الفيلم، فالظلمة موظفة بإحكام لتعبر عن الظلم والاستبداد والطغيان والفقر، وأما الضوء فهو فسحة أمل للتخلص من الاستبداد وللتحرر والانعتاق.
وليست قتامة الصورة وحدها معبرة عن معنى "القيرة"، إذ غابت المشاهد العامة عن الفيلم، أو اللقطات البعيدة كما يصطلح تسميتها في لغة التقنية السينمائية، واقتصرت على المشاهد القريبة حتى تكون مقاصدها وفية لمعاني الحرب ورمزيتها من عنف وقتل ودماء ودمار وفوضى.
-الأماكن والتاريخ والشخصيات وعلاقتها بالواقعتدور أحداث "القيرة" في ثلاثة أماكن لها رمزيتها هي "معلم القصبة" بالكاف الذي شيده العثمانيون سنة 1600 ميلادي و"مائدة يوغرطة" ذاك المرتفع الذي احتمى به القائد النوميدي يوغرطة من الرومان، وجامع عقبة بن نافع بالقيروان ورمزية هذه المدينة كمهد للحضارة الإسلامية، وأما الزمان فهو الواقع التونسي الراهن وتجلى ذلك من خلال ملابس الشخصيات والأسلحة المستخدمة والسيارات العصرية ووسائل الاتصال الحديثة والرقمية كالهاتف الجوال والأنترنت.
وأوجد الفاضل الجزيري الخيط الرفيع بين هذه الأماكن برمزيتها التاريخية والشخصيات وقصة "ثورة صاحب الحمار" في تشابه الأحداث والشخصيات مع الواقع الحالي، فأسباب قيام ثورة صاحب الحمار وتداعياتها أوردها المخرج في حركة تقاطع إلى حد ما مع أسباب قيام ثورة 2011، ولذلك ينبّه الفاضل الجزيري من فشل ثورة 2011 كما فشلت ثورة صاحب الحمار.
ووظف المخرج اللقطات القريبة في الفيلم ليغوص في أعماق الشخصيات ويبرز بشاعتها في إدارة شؤون الدولة التي تحكمها المصالح الذاتية الضيقة، وتوزع فيها المناصب استنادا إلى القرابة الدموية لا إلى الكفاءة وفيها أيضا استغلال لأجهزة الدولة وتوظيف لقضائها، وهي من عوامل استشراء الفساد والسرقة وغياب العدل وانتشار الظلم وتفاقم الفقر والجوع.
والصراع بين شخصيات "القيرة" نوعان: الأول بين السياسيين والشعب المطالب بالعيش الكريم، والصراع الثاني بين الأطياف السياسية الحاكمة التي تحيك الدسائس لبعضها البعض للانفراد بالسلطة. ففي السلطة لا مكان للقيم الإنسانية ولا مجال للاستقامة والوفاء، فمن أجل الحفاظ على الحكم قد يضحي الحاكم بأقرب الناس إليه وهم أبناؤه.
حضور المرأة في هذا العمل جاء محملا بالدلالات العميقة والرسائل المباشرة، فقد خلصها الجزيري من القيود الذكورية المسلطة عليها، فبدت الشخصيتان الرئيسيتان آمنة الجزيري وسارة حناشي أكثر عنفا حتى من الرجال أنفسهم، تحيكان الدسائس وتتلاعبان من أجل الحصول على منافع ذاتية، فلا مكان للحب وللقيم الإنسانية في السلطة، ولكن النقطة المضيئة في المرأة هي أن المخرج جعل شخصية الحاكم الديكتاتور "بوزيد" يلقى حتفه على يد امرأة، لتنطلق على إثر ذلك حياة سياسية جديدة قد يلقى الحاكم فيها المصير نفسه إذا طغى وعاث فسادا.
--(بترا)