فيروز آخر أيقونات العرب
واشنطن - يحتفل العرب بميلاد أيقونتهم فيروز بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر. لكنّني شخصياً كان لي احتفالي الخاص بها قبل سنوات طويلة. وأردت أن أكتب عنه اليوم، من أجل فيروز ومن أجل محبي فيروز.
كان لقاء فيروز بالنسبة إليّ، حلماً تحقق. حظيت قبلها بلقاءات مهمة مع فنانين وأدباء ذائعي الشهرة ويمثلون حالاً فريدة في التميز مثل أمين معلوف ومحمود درويش وحنا مينة والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم والمطربة صباح والمخرج يوسف شاهين وعشرات غيرهم.
لكن شاعرة الصوت فيروز مختلفة جداّ. إنها أيقونة كل البيوت العربية ومدارسها وأسواقها، وهي التي تشرق مع شمس الصباح، وتتفتح مع ورد الشبابيك، وتغنّي مع العصافير على أفنان أشجار الشوارع.
كنت قد كلّفت بإجراء مقابلة مع فيروز بعد أن تخرج من بيروت لحظة انتهاء الحرب، في طريقها إلى القاهرة من أجل حفل كبير سيكون الأهم في ذلك الوقت.
لقاء على وقع القذائف والصواريخ
حين أزف الموعد في فندق مينا هاوس المصري العريق وعلى شرفة تقصّدنا أن تطلَّ على أهرامات الجيزة كنت قلقاً ألاّ تأتي فيروز في الموعد. تماما كما حدث لي وأنا أنتظرها قبل يومين على مشارف الحدود اللبنانية السورية في قرية جديدة يابوس فجراً. وكنا في نهاية صيف عام 1989.
كنت قد وصلت الحدود ولما تشرق الشمس بعد. أصوات المدافع وطلقات الرشاشات كانت تصل إلى سمعي، فأشعر بالخوف على فيروز من أن تتعرّض لمكروه على الطريق، لكن فيروزاً كانت الإنسان الوحيد في لبنان الذي اجتمعت كل الميليشيات اللبنانية المتحاربة على محبته. كانت أغانيها تذاع في كل إذاعاتهم وسط جحيم الحرب الأهلية المستعرة منذ خمسة عشر عاماً.
أقبلت فيروز أخيراً. وكنت المكلف الوحيد باستقبالها ومرافقتها براً إلى مطار الملكة علياء في الأردن ثم جواً من هناك إلى مطار القاهرة.
لم تكن قد رأتني على شاشة التلفزيون من قبل، لا هي ولا ابنتها ريما التي كانت ترافقها، لكن صديقتها الأثيرة سلمى تذكرت برنامجي “السالب والموجب” وحدّثت فيروز عنه بحرارة.
كنت أراقب حركاتها، ابتساماتها الخجولة الهادئة، وأغبط نفسي على تلك الحظوة. هي الآن ضيفتي وحدي وأنا من سيقود موكبها المؤلف من حوالي ثلاثين عازفا موسيقياً مع آلاتهم وفرقة الكورال التي تضم ثمانية من الصبايا والشباب. وسوف أكون في السيارة التي أمامها مباشرة وسوف ننطلق وسط حشد من المسافرين الملوّحين الفرحين برؤيتها عن قرب.
بين دمشق ودرعا كان هناك مطعم صيفي يتوقف فيه المسافرون للراحة. توقف موكب فيروز اللافت بسياراته العشر، وحين اكتشف الرواد المنتشرون تحت ظلال الأشجار وجودها هرعوا إليها مثلما يفعلون عندما يلتقون أغلى أحبتهم بعد غياب طويل.
لم تحاول أيّ سيدة منهم ضمّها إلى صدرها بالرغم من رغبة الكل في ذلك. لأن فيروزاً كانت في مخيالهم أقرب إلى الملاك منها إلى البشر. قالوا لها كلاماً رقيقا صادقا مثل: الدنيا بلاكي موحلوة يا ستنا.