نقلة كارثية حولت أنظار العالم إلى الرقعة الشطرنجية
القبة الرياضية- في وقت تهيمن فيه كرة القدم وألعاب أخرى شعبية على العناوين الرياضية في أنحاء العالم كافة، شهد مساء الخميس الماضي خروجا عن المألوف، عندما وجه عشاق الرياضة بوصلتهم إلى سنغافوره، التي استضافت نهائي بطولة العالم للشطرنج.
كانت هناك نقلة واحدة غيرت كل شيء. قام النجم الصيني الشهير دينج ليرين، بتحريك قلعة إلى المربع f2، في قرار لم يكلفه المباراة فحسب، بل جرده من تاجه ملكا للرقعة الشطرنجية، وعلى الجانب الآخر، حدق العبقري الهندي الشاب جوكش دارمارجيو بدهشة، وكأنه يقول لنفسه.. هل كان الأمر فخا؟ أم أن بطل العالم كان يراوغه؟
عندما أصبح واضحا أن دينج ارتكب خطأً فادحا، اتكأ جوكش إلى الخلف، وملامحه كانت مزيجا من الصدمة والنشوة. ومع تبقي أكثر من ساعة على توقيته مقابل تسع دقائق فقط للنجم الصيني، استجمع اللاعب الهندي الشاب قواه، واحتسى رشفة من الماء، واستعد لانتزاع اللقب.
عرض دينج قلعته للتبادل، في خطوة بدت في البداية غير مؤذية. استولى جوكش عليها بقلعته من المربع b2، وأخذ دينج قلعة منافسه بالملك. لكن هذا لم يكن تبادلا عاديا. أصبح الفيل المتبقي لدينج، المعزول في المربع a8، نقطة ضعف قاتلة. جاءت نقلة جوكش التالية لتفرض تبادلًا آخر للفيلة، تاركة البطل الصيني بملك وبيدق وحيد.
في المقابل، كان لدى جوكش بيدقان وملك، وهو ما يكفي لمرافقتهما إلى الترقية وضمان الفوز بالمباراة بنتيجة 7.5 - 6.5.. وهكذا حسم اللقب.
وقال جوكش، متأثرًا بعد المباراة: "عندما لعب القلعة إلى f2، لم أدرك (أن الفوز كان في المتناول). كنت على وشك أن ألعب القلعة إلى b3، لكن عندما اكتشفت الفرصة، كانت تلك ربما أفضل لحظة في حياتي".
ليست هذه هي المرة الأولى التي يشهد فيها عالم الشطرنج تاريخا يتغير بسبب خطأ واحد. ففي العام 1985، أصبح جاري كاسباروف أصغر بطل للعالم بعد أن تردد أناتولي كاربوف في دفع بيدق حاسم. وبعد ما يقرب من 40 عاما، أدى تردد آخر، ونقلة متهورة للقلعة، إلى تتويج بطل أصغر سنا.
وصرح دينج في المؤتمر الصحفي بعد المباراة: "كنت في حالة صدمة تامة عندما أدركت أنني ارتكبت خطأ فادحًا. لم يكن الوضع متعادلا تمامًا كما كان في الأمس. كان لديه فيل وقلعة، لذا كان الوضع أكثر تعقيدًا. كان بإمكاني أن أفعل أفضل، لكن لا أشعر بالندم".
قاتل دينج ببسالة طوال 14 مباراة، ما دفع المنافسة نحو جولات كسر التعادل، حيث كان يتمتع بميزة نسبية. لكن عهده انتهى بنقلة واحدة متهورة.
بالنسبة لجوكش، كان الفوز لحظة فارقة. ففي سن السابعة عشرة عامًا فقط، أصبح أصغر بطل للعالم في تاريخ الشطرنج، مثبتا مكانته بين عظماء اللعبة.
عندما تأكد فوزه، انفجر جوكش بالبكاء تحت وطأة المشاعر الجياشة، بينما جلس دينج مذهولًا ورأسه بين يديه غير مصدق لما حدث.
وبعد أن احتفل برفع يديه عاليًا، تم اصطحاب جوكش خارج القاعة، حيث شارك والده في عناق طويل مليء بالعاطفة.
أظهرت مقاطع الفيديو المتداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي، الجماهير الهندية تحتفل بفوز جوكش بحماس، يهتفون ويحتضنون بعضهم البعض، بعد أن أصبح البطل الثامن عشر في تاريخ الشطرنج العالمي، والثاني من الهند بعد الأسطورة فيسواناثان أناند.
وفي المؤتمر الصحفي بعد المباراة، قال جوكش: "رحلتي بدأت منذ أن بدأت ألعب الشطرنج في سن السادسة والنصف أو السابعة. كنت أحلم بهذه اللحظة لأكثر من 10 سنوات".
وأضاف: "كل لاعب شطرنج يتمنى أن يعيش هذه اللحظة، وقلة قليلة فقط تحصل على الفرصة. أن أكون واحدًا منهم يعني أنني أعيش حلمي. أشكر الله أولاً وقبل كل شيء. هذه الرحلة، بدءًا من التأهل إلى بطولة المرشحين ثم الوصول إلى هنا، لم تكن لتحدث لولا العناية الإلهية. لقد حدثت العديد من المعجزات".
واستطرد قائلاً: "أنا ممتن لكل من وقف إلى جانبي في هذه الرحلة. أرغب في شكر كل شخص، لكن ربما يجب أن أعد كلمتي أولا لأن المشاعر التي أشعر بها الآن قد تدفعني لقول أشياء غير مدروسة".
وأصبحت الهند قوة عظمى في عالم الشطرنج، بفضل مجموعة من المواهب الشابة التي اقتحمت الساحة الدولية.
من بين هذه النجوم الشابة راميشبابو براجناناندا (المعروف بـ"براج")، الذي صدم عالم الشطرنج بفوزه على ماجنوس كارلسن في العام 2022.
براج، الذي يعرفه عشاق الشطرنج بهذا اللقب، أصبح أصغر أستاذا دوليا في سن العاشرة، وثاني أصغر أستاذ كبير في العالم في سن الثانية عشرة. في العام الماضي، هو وأخته راميشبابو فيشالي (22 عامًا) أصبحا أول شقيقين يحصلان معا على ألقاب الماسترز الكبرى.
تدفقت التهاني والإشادات من جميع أنحاء الهند بعد فوز جوكش، وكتب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عبر منصة "إكس": "إنجاز تاريخي وقدوة يحتذى بها! تهانينا لجوكش دوماراجو على هذا الإنجاز الرائع. هذا هو نتاج موهبته الفذة، وعمله الجاد، وإصراره الذي لا يتزعزع".
وأضاف: "لقد نقش اسمه في سجلات تاريخ الشطرنج وألهم الملايين من الشباب ليحلمون ويسعون نحو التميز. أتمنى له التوفيق في مسيرته المستقبلية".
من جهتها، قالت دروبادي مورمو، رئيسة الهند: "إن فوز جوكش يؤكد مكانة الهند كقوة عظمى في الشطرنج".
كما انهالت الإشادات من شخصيات رياضية بارزة. وهنأ فيسواناثان أناند، بطل العالم السابق في الشطرنج، مواطنه قائلا: "تهانينا! إنها لحظة فخر للشطرنج، وفخر للهند، وفخر لرابطة الشطرنج العالمية، وبالنسبة إلي، لحظة اعتزاز شخصية للغاية.. لعب دينج مباراة مثيرة وأظهر أنه بطل حقيقي".
من جانبه، قال أسطورة الكريكيت الهندي ساشين تندولكار: "إن جوكش "فتح آفاقًا لا حدود لها من الإمكانيات"، وأضاف عبر "إكس": "بعد أن سرت على خطى فيشي، أصبحت الآن تقود الجيل القادم من عباقرة الشطرنج في الهند".
وأشاد أبيناف بيندرا، البطل الأولمبي السابق في الرماية، بجوكش قائلاً: "ذكاؤك، وعزيمتك، ورباطة جأشك تحت الضغط جعلت الأمة بأسرها فخورة بك. لم تفز بلقب فحسب، بل ألهمت جيلا بأكمله ليحلم. أتمنى لك المزيد من النجاح في المستقبل!".
بزغ نجم دينج في سن مبكرة على الساحة المحلية، حيث لفت الأنظار بسرعة بسبب أسلوب لعبه المتوازن والدقيق، وقدرته على التحليل العميق للمواقف المعقدة.
في العام 2009، حين كان في السابعة عشرة من عمره، حقق دينج لقبه الأول في بطولة الصين للشطرنج للرجال، ليصبح أصغر بطل في تاريخ البطولة الوطنية الصينية حتى ذلك الحين. ولم يكتفِ بهذا الإنجاز، بل حافظ على اللقب العامين 2011 و2012، مؤكداً مكانته كأحد أبرز المواهب الصينية الصاعدة. وخلال تلك الفترة، بدأ اسمه يتردد في المحافل الدولية، إذ شارك في بطولات عالمية مرموقة وواجه نخبة من أقوى اللاعبين على الساحة العالمية.
تميز أسلوب دينج بالعمق الاستراتيجي والهدوء تحت الضغط، مع قدرة فائقة على التكيّف مع مختلف أنماط اللعب. في المواجهات مع عمالقة الشطرنج العالمي، مثل مكارلسن وفابيانو كاروانا وليفون أرونيان، أظهر دينغ صلابة دفاعية منقطعة النظير، ومهارة في استثمار الفرص البسيطة التي تلوح أثناء اللعبة. ومع مرور السنوات، ارتقى تدريجيا في تصنيف الاتحاد الدولي للشطرنج (فيدي)، حتى أصبح أول لاعب صيني يتجاوز حاجز الـ2800 نقطة، وهو إنجاز تاريخي يعكس مكانته ضمن النخبة العالمية.
شارك دينج في العديد من الدورات الأولمبية للشطرنج، مساهما بقوة في تحقيق المنتخب الصيني إنجازات مشرفة، منها الفوز بأولمبياد الشطرنج العامين 2014 و2018، حيث لعب دورا محوريا في إحراز الذهبية بفضل نتائجه الفردية المتميزة. كما حقق نتائج لافتة في سلسلة من بطولات النخبة، على غرار بطولة المرشحين (Candidates Tournament) التي تعد بوابة التأهل لمنافسة بطل العالم.
ومن أبرز المحطات في مسيرة دينج، مشاركته في بطولة المرشحين للعام 2022 التي أحرز فيها المركز الثاني. كان هذا الإنجاز حاسما، إذ أتاح له التأهل لمباراة بطولة العالم للشطرنج العام الماضي ضد الروسي إيان نيبومنىاشتي. جاء هذا النزال بعد إعلان بطل العالم السابق ماجنوس كارلسن انسحابه من الدفاع عن لقبه.
في تلك المباراة التاريخية التي أقيمت في العاصمة الكازاخية أستانا، واجه دينج صعوبات عديدة، وشهدت المنافسة لحظات حرجة وتكافؤا شديدا. إلا أن حنكته وصبره وشجاعته في اللحظات الفاصلة مكنته من تحقيق الفوز الفاصل في التاي بريك، ليصبح أول بطل عالم صيني في التاريخ.
وصف دينج بأنه رمز لنهضة الشطرنج الصيني وتطوره على الساحة العالمية. ومنذ ذلك الحين، ينظر إليه باعتباره مثالا يحتذى به في الالتزام والعمل الجاد والروح الرياضية، لكن نقلته الكارثية أمام جوكش، أعادته إلى أرض الواقع.