كيف خذل العرب لغتهم؟
* الإصرار على تعليم اللغة العربية الفصحى بدلاً من اللهجات الحديثة أعاق تطورنا اللغوي والأدبي
القبة نيوز - كتب حسام أبو زهر:
القراءة مع الأطفال هي عمل ممتع من أعمال الترابط والتعليم، أو ينبغي أن تكون كذلك. لكن في حالة اللغة العربية، غالبًا ما أجد أن القراءة باللغة التي ورثتها هي تجربة بؤس متبادل. أنا وابني نتحدث اللغة العربية ولكن باللهجة اللبنانية، والتي يفهمها جيداً - وتتحسن كل يوم. ولكن لا يمكننا أن نجد سوى حفنة من الكتب المتاحة بهذه اللهجة ـ أو باللهجات الأخرى المفيدة والتي يمكن الوصول إليها، سواء كانت مصرية أو عراقية.
وبالمقابل، على الرغم من أننا نجد العديد من الكتب باللغة العربية الفصحى، إلا أن ابني لا يفهم إلا القليل جدًا منها. والكتب التي يمكن الوصول إليها نادرة، بينما يتعذر الوصول إلى الكتب الشائعة. لا يبحث الأطفال عن كتب مكتوبة باللغة العربية القديمة، لأنها مليئة بالكلمات غير المعروفة والتراكيب النحوية غير المألوفة؛ ويكافح الآباء لغرس حب اللغة وتعلمها، أو حتى الوصول إلى هذه المواد بأنفسهم.
ولقد فعل العرب ذلك بأنفسهم، وألحقوا الأذى باللغة بتواصلهم بازدواجية اللغة، أو التنوع اللغوي، وأنكروا دورهم في حدوث ذلك. ازدواجية اللغة هي حالة يتم فيها ربط نوعين أو أكثر من اللغة معًا من خلال الظروف الاجتماعية؛ بالنسبة للغة العربية، فهناك العديد من اللهجات المنطوقة التي توجد جنبًا إلى جنب مع اللغة العربية الفُصحى، المعروف أيضًا باسم اللغة العربية الفصحى الحديثة أو العربية الفصحى. ولقد حاول العرب الارتقاء بما يسمى باللغة العربية الحقيقية أو لغة البيان والوضوح، بينما كانوا يعملون على تشويه اللهجات وتعطيلها عن هذا الارتقاء ووصلوا حتى لتدميرها. وبالتالي فقد صنعوا لغة رسمية من شكل لا يعتبره أحد لغة أصلية، بينما جعلوا لغتهم الأم المختلفة لكل شخص تبدو دون المستوى وغير مألوفة وعديمة الفائدة.
وهذا التأكيد للحفاظ على اللغة العربية الفُصحى - هو في حد ذاته اعتراف بأن اللغة العربية بحاجة إلى الحماية، والتي بدونها ستختفي - وجعل هذه القراءة تجربة غير محببة لمعظم المتحدثين، والذين يكافحون من أجل التحدث باللغة تحدّثًا صحيحًا. والأهم من ذلك، أن التركيز على اللغة العربية القديمة أو النظرة المقدسة لها قد أثر تأثيرًا مباشرًا على اللهجات.
ولا يستطيع المتحدثون نقل لهجاتهم بالكامل، لأنهم يفتقرون إلى الدعم المؤسسي، ولديهم القليل من الأدوات المتاحة، ويعانون من التكبر الاجتماعي والثقافي تجاه اللغة (اللغات) المنطوقة. ولا يمكنهم الوصول إلى اللغة العربية الفصحى - التي يُمجدها الجميع ولكن لا أحد يتحدث بلغته الأم - بسهولة كافية.
وبالطريقة التي تُستخدم فيها اللغة العربية الفصحى اليوم، فإنها ليست حتى لغة كاملة أو لغة حية. فمعظم الناس لا يستخدمونها كثيرًا ويفعلون ذلك فقط في إطار رسمي (أو ربما لأغراض رسمية). وهي تفتقر إلى الصفات التعبيرية اللازمة للكلام اليومي. وهذا يثبط الاستيعاب والاستخدام على نطاق أوسع، الأمر الذي يخلق بدوره سيناريو لا يستطيع العرب فيه تطوير مثل هذه العبارات للاستخدام اليومي. وإذا اختفت اللهجات غدًا، فسيواجه الناس صعوبة في استخدام اللغة العربية الفُصحى كلغة يومية.
كما أن اللهجات محدودة، ففي كثير من الأحيان تكون اللهجات غير مفهومة وتقسم الأشخاص الذين قد يكونون لولا ذلك جزءًا من عالم متصل ثقافيًا باللغة العربية، مثل اللغة العربية الموحدة نوعًا ما والمُستخدمة في الصحافة وفي بعض التقاليد والممارسات الاجتماعية والثقافية. إن اللهجات التي تفتقر إلى الشرعية والقبول، أقل فائدة - على الأقل الآن - في مجالات مختلفة، مثل التعليم والقانون والإدارة (المجالات التي تنطوي أيضًا على الماضي، ما يعني أن التغييرات المستقبلية مقيدة به).
ربما لا شيء يوضح نهج العرب المتناقض تجاه لغتهم أكثر من الرسائل التي يوجهونها لأطفالهم. فمن ناحية أخرى، يضحك الآباء على أطفالهم عندما يلتقطون الكلمات العربية الفصحى (من الرسوم المتحركة على سبيل المثال). فيقومون بتوبيخ أطفالهم بتعليقات مثل، "لا أحد يتحدث بهذه الطريقة". لكنهم أيضًا يناشدون أطفالهم أن يتعلموا اللغة التي أظهروها للتو على أنها عديمة الفائدة وتستحق السخرية. وتتذكر إحدى معلمات اللغة العربية شجارًا بين تلامذتها عندما ضحكت بسخرية على فكرة صراخ أحدهما على الآخر قائلًا: "تبًا لك!" - وهي عبارة قديمة وغير ملائمة تعني "اللعنة عليك".
من ناحية أخرى، يحط الناس من قدر اللهجات طوال الوقت، أما الأطفال الذين يتساءلون عن سبب استخدام عبارة معينة فيقال لهم إنهم يتحدثون لغة "غير صحيحة نحويًا" أو حتى لغة "زائفة". والأسوأ من ذلك، قد يتم وصف هذه اللغة بأنها لغة مبتذلة. وقد يطلق الآباء على شخص يستخدم حتى أبسط الكلمات وأسهلها في معجمه، وصف "مزارع" أو "بربري". وهم بذلك يلحقون ضررًا بلغة حياتهم اليومية. على عكس اللغة العربية الفُصحى،، فإن اللهجات لا تخضع لقواعد ومن ثم فهي تسمح للمستخدمين بشكل أفضل بخلق كلمات جديدة أو استيعاب عبارات جديدة من اللغات الأجنبية أو اللغة القديمة.
استعرض أستاذ اللغة العربية جون ميهيل مراجعة معدلات محو الأمية العالمية مقابل الأموال التي يتم إنفاقها على التعليم، وخلص إلى أن التركيز على اللغة العربية الفُصحى في التعليم الرسمي يضر بمعدلات محو الأمية في الدول التي تتحدث اللغة العربية. وعمومًا، وحتى في دول الخليج العربية الأكثر ثراءً، فإن معدلات محو الأمية باللغة العربية أقل من المتوقع، نظرًا للمبالغ التي تنفقها هذه الحكومات على التعليم. والمشكلة أسوأ مما تشير إليه الأرقام، رغم أن معدل الأمية الذي يبلغ 28% في مصر ينبغي أن يكون مقلقًا جداً. إن نتائج الاختبارات، وهي مقياس مستخدم على نطاق واسع يشير إلى النجاح التعليمي، تفشل في نقل صورة دقيقة عن الكفاءة اللغوية بالنظر إلى التقارير التي تفيد بأن الناس يدفعون رشى لاجتياز اختبارات محو الأمية (وفقًا لمقالة في الفنار، وهو تقييم أكاديمي، والمقابلات التي قمت بها مع المنظمات غير الحكومية التي تعمل في مجال محو الأمية في مصر).
خلال دراسة في مصر أجرتها نيلوفر هايري، وهي أستاذة اللغويات بجامعة جونز هوبكنز؛ إن المتحدثين باللغة العربية يعترفون بتبني وجهات نظر سلبية عن اللغة العربية الفُصحى - وخاصةً مهاراتهم الخاصة المتعلقة بها، وكل طلاب المدارس الثانوية إلى البالغين عبروا عن "عدم استحسانهم للقراءة عامة، وخاصة التي تضم أجزاء طويلة" مثل الكتب. والمشاركون في دراسة نيلوفر هايري، وجدوا أن اللغة العربية الفصحى "ثقيلة" و"مخيفة"، وببساطة لم يستمتعوا بنشاط القراءة ووجدوا أن الكتابة أكثر صعوبة وأكثر "ترهيبًا". وتشير إلى أن الأرقام الرسمية لمحو الأمية هشة ومهزوزة في أحسن الأحوال، وتشير إلى أن "غالبية الناس لا يصلون إلى مستوى محو الأمية الذي يسمح بالمشاركة في مختلف المجتمعات الإبداعية أو المدنية عندما تتطلب هذه إتقان اللغة الرسمية ... وحتى مدرّسو القواعد والمحررون والأشخاص الحاصلون على تعليم جامعي يتحدثون روتينيًا عن خوفهم من ارتكاب الأخطاء".
فهم يتعلمون التحدث بلغة في المنزل ويقرؤون أو يكتبون بلغة أخرى في المدرسة.
وفيما قدم باحثون آخرون حججًا مختلفة، فإنهم في نهاية المطاف يسيئون تشخيص المشكلة ويقللون من شأنها. وزعمت هيلين أبادزي، العضو في هيئة التدريس بجامعة تكساس في كلية أرلينغتون للتربية، في مقالة، إن اللغة العربية صعبة على الأطفال لأن النص معقد.
وقالوا إن اختبارات القراءة في أربع دول عربية "أظهرت عدم القدرة على فهم النص المكتوب"، ووصفت المشكلات التي يواجهها الأطفال بوضوح لأنهم يتعلمون التحدث بلغة واحدة في المنزل وقراءة أو كتابة لغة أخرى في المدرسة، وخلصت إلى أن المشكلة تكمن في تعقيد النص العربي. ولكن النص، أو النص بمفرده، لا يمكن أن يكون هو المشكلة، فاللغات الأخرى، مثل اللغة الفارسية، تستخدم نص اللغة العربية نفسه، لكن مستخدميها لا يواجهون التحديات نفسها في القراءة والكتابة.
وبدون إساءة التشخيص للسبب، تكمن المشكلة في الازدواجية اللغوية.
فعندما درست اللغة العربية في طفولتي، وعندما عاودت دراستها كشخص بالغ، لم أكن أعرف الكثير عن هذه المشكلات. وكلما تعلمت أكثر، كلما استشطت غضبًا. فلماذا اضطررت أنا وملايين الأطفال الآخرين إلى المرور بنظام تعليمي سيئ تركنا نشعر بالإحباط والكراهية حيال لغتنا العربية، ثم مررنا بها مرة أخرى أثناء محاولتنا إعادة تعلم اللغة العربية كبالغين، وربما مرة أخرى أثناء محاولة تعليم أطفالنا؟
إذا أراد العرب الحفاظ على اللغة العربية الفُصحى واللهجات، فلا يزال بإمكانهم تطوير نظام تعليمي يتصدى لتحديات ازدواجية اللغة، بل ويحوّل وجود اللهجات والعربية الفصحى إلى قوة.
لقد تعلمت المزيد عندما أطلقت "مشروع اللغة العربية الحية" عام 2013. وفي ذلك الوقت، كان لدي جمهور مستهدف واحد: وهو أنا. كنت أرغب في الحصول على إمكانات بحث بجودة قاعدة البيانات والقدرة على الوصول إلى قاعدة بيانات اللهجات العربية من أي مكان كنت فيه. واعتقدت أن هذه ستكون الخطوة الأخيرة في إنشاء أدوات لدراسة اللغة العربية، وأنه يمكنني تجسيد القواميس الأولية ثم تناول المواد باللهجة كلما احتجت إلى ذلك.
ولكن المشروع، مثل الكثير من الأشياء في الحياة، لم يكن بهذه البساطة التي توقعتها في البداية. وظلت مهمتي تزداد تعقيدًا. كانت اللهجات غير محددة نسبيًا كلغات ولم تكن قواعدها ومعجمها مفهومًا جيدًا مثل اللغات الموثقة توثيقًا أفضل. واضطررت إلى إجراء المزيد من الأبحاث أكثر مما كنت أتوقع، وكنت أجد باستمرار كلمات وعبارات جديدة لإضافتها إلى قاعدة البيانات. وما بدأ كقائمة كلمات، بحكم الضرورة، أصبح أداة أكثر تعقيدًا لسد الفجوة بين اللهجات واللغة العربية الفُصحى وتسهيل عملية تعلم اللغة العربية.
ثم جاء وقت ربط ما تعلمته بمشروعي الكبير الذي صممته: وهو ابني. وكأب عازم على تربية ابنه ليكون متعدد اللغات، أردت الحصول على موارد مثل كتب الأطفال والأغاني والرسوم المتحركة والألعاب من أجله. وبدأت البحث قبل ولادته. لكن بينما كانت رغبتي في نقل هذا التراث شائعة، اكتشفت أنني لن أتمكن من العثور على أي موارد. كان هذا، ولا يزال، شيئًا غير عادي. على سبيل المثال، لغة شانغان، وهي لغة من اللغات الثانوية لجماعة البانتو التي درستها في "فرق هيئة السلام"، وبها ما يقدر بنحو 3.5 ما يين شخص متحدث باللغة العربية أو أقل من 1% من 400 مليون شخص يتحدثون العربية على هذا الكوكب، وبطريقة ما هناك المزيد من الموارد لتعليم الأطفال لغة شانغان من اللهجات العربية مجتمعة!
وشأني شأن الآخرين، أنا الآن عالق في تعليم طفل لغة قليلة التوثيق، وهي اللهجة اللبنانية في حالتنا، مع عدد قليل نسبيًا من المتحدثين باللغة الأم، ولا موارد في الأساس، بينما أعلمه أيضًا اللغة شبه الغريبة المشتقة من اللغة العربية الفُصحى مع الكثير من مواد للقراءة والكتابة. ومثل الآخرين، أنا أتعلم حتى أتمكن من التدريس.
بذلت قصارى جهدي لكي أفعل الآن ما فشلت في القيام به في الماضي: وهو التعلم، وبالتالي أتمكن من أن أُعلِّم. حاولت توسيع شبكتي إلى ما بعد اللهجة اللبنانية لتشمل اللهجات الشامية عامةً، والتي يبلغ عدد الناطقين بها حوالي 40 مليون نسمة. وفي النهاية، عثرت على بعض المواد - نُشر معظمها في العقد الماضي، حيث إن بعض دور النشر والمؤلفين والمنتجين قد شجعوا على النقد لخلق محتوى بلهجات مختلفة. وقد وجدت مواد من "دار قنبز"، وهي دار نشر لبنانية تنشر باللهجة اللبنانية. واكتشفت أيضًا أعمال ريهام شندي، والتي نشرت مؤخرًا مجموعة من القصص القصيرة باللغة المصرية (وهذا دليل على موهبتها وطلبها الحقيقي، وهي من أكثر الكتب مبيعًا لكتب الأطفال لأشهر عدة متتالية في مكتبة ديوان المصرية).
كما أنني شعرت بالراحة في الرسوم الكاريكاتورية المدبلجة على المستوى المصري، والقصص باللهجات الشامية، والعروض بلهجات الخليج العربي - والأخيرة، على وجه الخصوص، متوفرة هذه الأيام أكثر مما كانت عليه في السنوات الماضية. لكنني ما زلت أشعر وكأنني قد فشلت.
يحتاج الأطفال إلى أكثر بكثير من هذه الأشياء الصغيرة ليتعلموا تعلمًا صحيحًا. فهم بحاجة إلى مئات الكتب، على الأقل وفقًا لدراسات التعليم المبكر التي قرأتها. وبالطبع هم بحاجة إلى أكثر من كتب لتعلم أبعاد مختلفة للغة - والعياذ بالله! - استمتع بالعملية. فكل شيء آخر للأطفال لا يزال يهيمن عليه اللغة العربية الفصحى العالية.
وفيما يكافح الآباء والأطفال، يُصر آخرون على المضي في الطرق القديمة وغير المثمرة (بما في ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن التعرض المبكر للغة العربية الفُصحى سيساعد الأطفال على إتقانها وتطهيرهم من لهجاتهم). وعلى الرغم من كل الأدلة على عكس ذلك، فإن السلطات العربية، والعلماء، والشخصيات الدينية وغيرهم قد قاموا بحماية اللغة العربية الفصحى وعرقلة اللهجات. وحافظت الحكومات العربية على اللغة العربية الفصحى كلغة للتدريس في المدارس ولغة القانون في المحاكم ولغة السجلات في الوثائق وغير ذلك.
كما يقاوم معظم العرب أي اقتراح بالتغيير أو بالمرونة. استخف السياسيون بحملة في المغرب لاستخدام اللغة العامية، زاعمين أن مؤيدي الحملة يهدفون إلى تقسيم البلاد وقصر اللغة العربية الفُصحى على المساجد فقط. فقد ضغطوا على مؤسس الحملة، نور الدين عيوش، لتقليص هدفه. وبدلاً من الارتقاء باللهجات المغربية، أعلن بعد ذلك أنه يريد تعزيز "لغة عربية مبسطة". وعلى نحو مماثل، هاجم الأكاديميون الجزائريون، بل وحتى أفراد من الشعب، اقتراح وزير التربية والتعليم الجزائري بالتدريس باللهجة المحلية خلال أول عامين من مرحلة التعليم الابتدائي.
كذلك، وجد آخرون أعذارًا للالتزام باللغة العربية الفُصحى في التعليم. وأكدت مقالة نُشرت في حزيران (يونيو) 2017 في "رصيف 22" أن استخدام اللغة الأم في التعليم في المغرب "سيصطدم بـالازدواجية اللغوية" بسبب اختلاف اللغات المستخدمة في المغرب، وخلص إلى أنه من الأسهل الالتزام باللغة العربية الفصحى. ويزعم السياسيون والعلماء عامةً أن الاختلافات بين اللهجات والعربية الفصحى طفيفة و"يمكن تصحيحها بسهولة" بطريقة يمكن أن تكون اللغة العربية الفصحى مفهومة للأطفال.
يفتقد جميع هؤلاء أو يرفضون رؤية الحقيقة. إن العرب، بفضل موقفهم المتناقض الذي يؤدي إلى نتائج عكسية إزاء لغتهم الخاصة، حوّلوا ازدواجية اللغة إلى لعنة - وهي اللعة التي قد تعني تحجر اللغة العربية الفصحى وانتقاصها أو حتى موتها، والإساءة إلى اللهجات. في حين أن مؤيدي كل جانب من حجة اللغة قد يشعرون أنهم قادرون على فرض حل، فإنهم لن يزيدوا الأمور سوءًا إلا إذا استمروا في تبني نهج ثنائي. وعلى سبيل المثال، أصر المؤيدون الرسميون وغيرهم من المؤيدين للغة العربية الفُصحى على تطهير لغتهم من اللهجات التي يتحدثها الناس ويفهمونها. فلم يقتصر الأمر على استبعادهم لهجاتهم الخاصة من الأماكن العامة المهمة، بل قاموا أيضًا بإحباط تعلم معين في الأماكن الخاصة وجعلوا من الصعب على الآباء - في شرائح مختلفة من المجتمع، وليس فقط في الشتات - نقل ميراثهم الثقافي إلى الأطفال.
ولأجل ماذا؟ وهم من نوع معين ومستوى معين من الوكالة. فعلى الرغم من إنكارهم وعنادهم، قد لا يتمكن العرب من إنقاذ اللغة العربية الفصحى أو قمع اللهجات أو تأكيد تفضيلاتهم على الجميع بأي حال. ولا يستطيع مؤيدو لهجة واحدة، في أي مكان، أن يفرضوها كلغة مشتركة في العالم المتحدث باللغة العربية بأكمله. كما كتب الأكاديمي تشارلز فيرغسون في مقالته عام 1959 التي صاغ فيها مصطلح ازدواجية اللغة: "غالبًا ما تكون الاتجاهات الحاسمة في تطوير لغة موحدة، تعمل بالفعل وليس لها علاقة بحجج المتحدثين باسم وجهات نظر مختلفة".
وفي نهاية المطاف، قد تستمر ازدواجية اللغة العربية قرونًا في أشكالها الحالية وما يترتب عليها من عواقب سلبية. العرب بحاجة إلى إعادة التفاوض على علاقاتهم مع اللغة العربية الفُصحى واللهجات الحديثة، لئلا تنزلق الأولى دون أن ترتقي الثانية لتحل محلها. فبدلاً من فرض وجهة نظر محصلتها صفر، قد يتبنى العرب نهجًا أقل تقييدًا مع كلتا اللغتين وبينهما على المستويات الرسمية والاجتماعية والعائلية. وعلى سبيل المثال، قد تستخدم الدول لغاتها الأصلية في وقت مبكر من التعليم وتدرس اللغة الرسمية تدريجيًا في وقت لاحق. وأشار ميهيل في مقالته عام 2014 حول محو الأمية وازدواجية اللغة العربية إلى أن سريلانكا، التي تواجه تحديًا من قبل ازدواجية اللغة الخاصة بها، حققت نجاحًا ملحوظًا عندما اتخذت نهجًا مماثلًا لتحسين محو الأمية.
يمكن للعرب أن يفعلوا الشيء نفسه ويجب عليهم ذلك. قد يجربون أيضًا أدوات جديدة لسد الفجوة بين اللهجات العربية الفُصحى واللهجات الحديثة بشكل أكثر فعالية وسهولة. يمكن توحيد أنظمة الكتابة الخاصة باللهجات بطريقة تزيد من الإسناد الترافقي إلى الحد الأقصى مع اللغة العربية الفصحى، وهو ما حاولت بنشاط أن أفعله في أعمال القاموس الخاصة بي. حتى لو أصبحت اللغة العربية الفُصحى هي الشكل الوحيد للغة العربية، سيحتاج العرب إلى توسيعها ليتم استخدامها في لغة التواصل اليومية. هم فقط بحاجة إلى تجاوز حواجزهم الخاصة.
وبعد تجاوز كل التحليل الأكاديمي، ما زلت أفكر في ابني وكيف يمكنني نقل جزء من تراثه: وهو اللغة. الاحتجاب ليس خيارًا الآن. نحن نعيش في الولايات المتحدة ولا يمكننا زيارة لبنان، وهي موطننا الأصلي ومسقط رأسنا وتراثنا، إلا بصورة غير منتظمة.
بالتأكيد، لقد أحرزنا بعض التقدم. فلقد قمت بترجمة عدد من الكتب إلى اللهجة المحكية من الإنكليزية واللغة العربية الفُصحى. وقمت بتحرير الكتب العربية لابني في رياض الأطفال للاستفادة من التداخل بين اللهجات واللغة العربية الفصحى. وخلقت له موارد تعليمية أخرى. وهو يتحدث الآن اللغة العربية بطلاقة. ولكن حتى أنا - كشخص لديه خبرة وشغف بهذه اللغة وطرق تدريسها - لا أستطيع أن أخلق مادة كافية له. فنحن نواجه حاجزًا تلو الآخر، ثم نصل إلى الهضبة تلو الهضبة. وعلى أي حال، لا يمتلك كل أب الوقت والخبرة والميل لابتكار هذه المواد لأطفاله! ماذا عن الآباء الآخرين وعن أطفالهم، الذين عانوا لفترة طويلة مع معضلات مماثلة وخسروا الكثير في هذه العملية؟ وماذا عن الآباء الذين يشعرون بالإحباط ولكن ليس لديهم الموارد ولا القدرة على تحدي الآخرين بسلطة مؤسسية أو غير رسمية على بيع المواد المكتوبة؟
وأنا أشاهد ابني وهو يكبر، كنت أفكر في السبب الذي يجعلنا نهتم كثيرًا بالخيارات التي نتخذها جميعًا: العيش في مكان جديد، فيما نسعى إلى الحفاظ على تراثنا، أو نسعى لتحسين فرص أطفالنا في هذا العالم والعولمة، ولذلك حاول التغلب على هذا التراث نفسه دون أن ترحل من وطنك أبدًا.
لماذا؟ ولماذا نهتم كثيرا؟
أدرك الآن أنني كنت قلقًا بشأن ما هو أكثر من مجرد الكلمات التي نقرأها على الورق أو نسمعها عبر محطات الراديو. بل أريد أن أنقل حب النفس، حتى يحب ابني هذا وكل جزء منه. يعبر العرب وغيرهم من المتحدثين باللغة العربية عن حبهم للغة العربية الفُصحى بينما يحتقرون أنفسهم لعدم قدرتهم على إتقانها، وينظرون إلى لهجاتهم الخاصة بازدراء، على الرغم من أنهم يعيشون حياتهم بهذه اللهجات كل يوم. ربما أريد فقط أن يتحرر ابني من هذا التناقض الشرير والمؤلم، وأن يشعر بأنه يستطيع أن يحب اللغة العربية وتجسدها بجميع أشكالها دون أن يتعارض مع نفسه أو عما يدور داخله.
النهار العربي
القبة نيوز - كتب حسام أبو زهر:
القراءة مع الأطفال هي عمل ممتع من أعمال الترابط والتعليم، أو ينبغي أن تكون كذلك. لكن في حالة اللغة العربية، غالبًا ما أجد أن القراءة باللغة التي ورثتها هي تجربة بؤس متبادل. أنا وابني نتحدث اللغة العربية ولكن باللهجة اللبنانية، والتي يفهمها جيداً - وتتحسن كل يوم. ولكن لا يمكننا أن نجد سوى حفنة من الكتب المتاحة بهذه اللهجة ـ أو باللهجات الأخرى المفيدة والتي يمكن الوصول إليها، سواء كانت مصرية أو عراقية.
وبالمقابل، على الرغم من أننا نجد العديد من الكتب باللغة العربية الفصحى، إلا أن ابني لا يفهم إلا القليل جدًا منها. والكتب التي يمكن الوصول إليها نادرة، بينما يتعذر الوصول إلى الكتب الشائعة. لا يبحث الأطفال عن كتب مكتوبة باللغة العربية القديمة، لأنها مليئة بالكلمات غير المعروفة والتراكيب النحوية غير المألوفة؛ ويكافح الآباء لغرس حب اللغة وتعلمها، أو حتى الوصول إلى هذه المواد بأنفسهم.
ولقد فعل العرب ذلك بأنفسهم، وألحقوا الأذى باللغة بتواصلهم بازدواجية اللغة، أو التنوع اللغوي، وأنكروا دورهم في حدوث ذلك. ازدواجية اللغة هي حالة يتم فيها ربط نوعين أو أكثر من اللغة معًا من خلال الظروف الاجتماعية؛ بالنسبة للغة العربية، فهناك العديد من اللهجات المنطوقة التي توجد جنبًا إلى جنب مع اللغة العربية الفُصحى، المعروف أيضًا باسم اللغة العربية الفصحى الحديثة أو العربية الفصحى. ولقد حاول العرب الارتقاء بما يسمى باللغة العربية الحقيقية أو لغة البيان والوضوح، بينما كانوا يعملون على تشويه اللهجات وتعطيلها عن هذا الارتقاء ووصلوا حتى لتدميرها. وبالتالي فقد صنعوا لغة رسمية من شكل لا يعتبره أحد لغة أصلية، بينما جعلوا لغتهم الأم المختلفة لكل شخص تبدو دون المستوى وغير مألوفة وعديمة الفائدة.
وهذا التأكيد للحفاظ على اللغة العربية الفُصحى - هو في حد ذاته اعتراف بأن اللغة العربية بحاجة إلى الحماية، والتي بدونها ستختفي - وجعل هذه القراءة تجربة غير محببة لمعظم المتحدثين، والذين يكافحون من أجل التحدث باللغة تحدّثًا صحيحًا. والأهم من ذلك، أن التركيز على اللغة العربية القديمة أو النظرة المقدسة لها قد أثر تأثيرًا مباشرًا على اللهجات.
ولا يستطيع المتحدثون نقل لهجاتهم بالكامل، لأنهم يفتقرون إلى الدعم المؤسسي، ولديهم القليل من الأدوات المتاحة، ويعانون من التكبر الاجتماعي والثقافي تجاه اللغة (اللغات) المنطوقة. ولا يمكنهم الوصول إلى اللغة العربية الفصحى - التي يُمجدها الجميع ولكن لا أحد يتحدث بلغته الأم - بسهولة كافية.
وبالطريقة التي تُستخدم فيها اللغة العربية الفصحى اليوم، فإنها ليست حتى لغة كاملة أو لغة حية. فمعظم الناس لا يستخدمونها كثيرًا ويفعلون ذلك فقط في إطار رسمي (أو ربما لأغراض رسمية). وهي تفتقر إلى الصفات التعبيرية اللازمة للكلام اليومي. وهذا يثبط الاستيعاب والاستخدام على نطاق أوسع، الأمر الذي يخلق بدوره سيناريو لا يستطيع العرب فيه تطوير مثل هذه العبارات للاستخدام اليومي. وإذا اختفت اللهجات غدًا، فسيواجه الناس صعوبة في استخدام اللغة العربية الفُصحى كلغة يومية.
كما أن اللهجات محدودة، ففي كثير من الأحيان تكون اللهجات غير مفهومة وتقسم الأشخاص الذين قد يكونون لولا ذلك جزءًا من عالم متصل ثقافيًا باللغة العربية، مثل اللغة العربية الموحدة نوعًا ما والمُستخدمة في الصحافة وفي بعض التقاليد والممارسات الاجتماعية والثقافية. إن اللهجات التي تفتقر إلى الشرعية والقبول، أقل فائدة - على الأقل الآن - في مجالات مختلفة، مثل التعليم والقانون والإدارة (المجالات التي تنطوي أيضًا على الماضي، ما يعني أن التغييرات المستقبلية مقيدة به).
ربما لا شيء يوضح نهج العرب المتناقض تجاه لغتهم أكثر من الرسائل التي يوجهونها لأطفالهم. فمن ناحية أخرى، يضحك الآباء على أطفالهم عندما يلتقطون الكلمات العربية الفصحى (من الرسوم المتحركة على سبيل المثال). فيقومون بتوبيخ أطفالهم بتعليقات مثل، "لا أحد يتحدث بهذه الطريقة". لكنهم أيضًا يناشدون أطفالهم أن يتعلموا اللغة التي أظهروها للتو على أنها عديمة الفائدة وتستحق السخرية. وتتذكر إحدى معلمات اللغة العربية شجارًا بين تلامذتها عندما ضحكت بسخرية على فكرة صراخ أحدهما على الآخر قائلًا: "تبًا لك!" - وهي عبارة قديمة وغير ملائمة تعني "اللعنة عليك".
من ناحية أخرى، يحط الناس من قدر اللهجات طوال الوقت، أما الأطفال الذين يتساءلون عن سبب استخدام عبارة معينة فيقال لهم إنهم يتحدثون لغة "غير صحيحة نحويًا" أو حتى لغة "زائفة". والأسوأ من ذلك، قد يتم وصف هذه اللغة بأنها لغة مبتذلة. وقد يطلق الآباء على شخص يستخدم حتى أبسط الكلمات وأسهلها في معجمه، وصف "مزارع" أو "بربري". وهم بذلك يلحقون ضررًا بلغة حياتهم اليومية. على عكس اللغة العربية الفُصحى،، فإن اللهجات لا تخضع لقواعد ومن ثم فهي تسمح للمستخدمين بشكل أفضل بخلق كلمات جديدة أو استيعاب عبارات جديدة من اللغات الأجنبية أو اللغة القديمة.
استعرض أستاذ اللغة العربية جون ميهيل مراجعة معدلات محو الأمية العالمية مقابل الأموال التي يتم إنفاقها على التعليم، وخلص إلى أن التركيز على اللغة العربية الفُصحى في التعليم الرسمي يضر بمعدلات محو الأمية في الدول التي تتحدث اللغة العربية. وعمومًا، وحتى في دول الخليج العربية الأكثر ثراءً، فإن معدلات محو الأمية باللغة العربية أقل من المتوقع، نظرًا للمبالغ التي تنفقها هذه الحكومات على التعليم. والمشكلة أسوأ مما تشير إليه الأرقام، رغم أن معدل الأمية الذي يبلغ 28% في مصر ينبغي أن يكون مقلقًا جداً. إن نتائج الاختبارات، وهي مقياس مستخدم على نطاق واسع يشير إلى النجاح التعليمي، تفشل في نقل صورة دقيقة عن الكفاءة اللغوية بالنظر إلى التقارير التي تفيد بأن الناس يدفعون رشى لاجتياز اختبارات محو الأمية (وفقًا لمقالة في الفنار، وهو تقييم أكاديمي، والمقابلات التي قمت بها مع المنظمات غير الحكومية التي تعمل في مجال محو الأمية في مصر).
خلال دراسة في مصر أجرتها نيلوفر هايري، وهي أستاذة اللغويات بجامعة جونز هوبكنز؛ إن المتحدثين باللغة العربية يعترفون بتبني وجهات نظر سلبية عن اللغة العربية الفُصحى - وخاصةً مهاراتهم الخاصة المتعلقة بها، وكل طلاب المدارس الثانوية إلى البالغين عبروا عن "عدم استحسانهم للقراءة عامة، وخاصة التي تضم أجزاء طويلة" مثل الكتب. والمشاركون في دراسة نيلوفر هايري، وجدوا أن اللغة العربية الفصحى "ثقيلة" و"مخيفة"، وببساطة لم يستمتعوا بنشاط القراءة ووجدوا أن الكتابة أكثر صعوبة وأكثر "ترهيبًا". وتشير إلى أن الأرقام الرسمية لمحو الأمية هشة ومهزوزة في أحسن الأحوال، وتشير إلى أن "غالبية الناس لا يصلون إلى مستوى محو الأمية الذي يسمح بالمشاركة في مختلف المجتمعات الإبداعية أو المدنية عندما تتطلب هذه إتقان اللغة الرسمية ... وحتى مدرّسو القواعد والمحررون والأشخاص الحاصلون على تعليم جامعي يتحدثون روتينيًا عن خوفهم من ارتكاب الأخطاء".
فهم يتعلمون التحدث بلغة في المنزل ويقرؤون أو يكتبون بلغة أخرى في المدرسة.
وفيما قدم باحثون آخرون حججًا مختلفة، فإنهم في نهاية المطاف يسيئون تشخيص المشكلة ويقللون من شأنها. وزعمت هيلين أبادزي، العضو في هيئة التدريس بجامعة تكساس في كلية أرلينغتون للتربية، في مقالة، إن اللغة العربية صعبة على الأطفال لأن النص معقد.
وقالوا إن اختبارات القراءة في أربع دول عربية "أظهرت عدم القدرة على فهم النص المكتوب"، ووصفت المشكلات التي يواجهها الأطفال بوضوح لأنهم يتعلمون التحدث بلغة واحدة في المنزل وقراءة أو كتابة لغة أخرى في المدرسة، وخلصت إلى أن المشكلة تكمن في تعقيد النص العربي. ولكن النص، أو النص بمفرده، لا يمكن أن يكون هو المشكلة، فاللغات الأخرى، مثل اللغة الفارسية، تستخدم نص اللغة العربية نفسه، لكن مستخدميها لا يواجهون التحديات نفسها في القراءة والكتابة.
وبدون إساءة التشخيص للسبب، تكمن المشكلة في الازدواجية اللغوية.
فعندما درست اللغة العربية في طفولتي، وعندما عاودت دراستها كشخص بالغ، لم أكن أعرف الكثير عن هذه المشكلات. وكلما تعلمت أكثر، كلما استشطت غضبًا. فلماذا اضطررت أنا وملايين الأطفال الآخرين إلى المرور بنظام تعليمي سيئ تركنا نشعر بالإحباط والكراهية حيال لغتنا العربية، ثم مررنا بها مرة أخرى أثناء محاولتنا إعادة تعلم اللغة العربية كبالغين، وربما مرة أخرى أثناء محاولة تعليم أطفالنا؟
إذا أراد العرب الحفاظ على اللغة العربية الفُصحى واللهجات، فلا يزال بإمكانهم تطوير نظام تعليمي يتصدى لتحديات ازدواجية اللغة، بل ويحوّل وجود اللهجات والعربية الفصحى إلى قوة.
لقد تعلمت المزيد عندما أطلقت "مشروع اللغة العربية الحية" عام 2013. وفي ذلك الوقت، كان لدي جمهور مستهدف واحد: وهو أنا. كنت أرغب في الحصول على إمكانات بحث بجودة قاعدة البيانات والقدرة على الوصول إلى قاعدة بيانات اللهجات العربية من أي مكان كنت فيه. واعتقدت أن هذه ستكون الخطوة الأخيرة في إنشاء أدوات لدراسة اللغة العربية، وأنه يمكنني تجسيد القواميس الأولية ثم تناول المواد باللهجة كلما احتجت إلى ذلك.
ولكن المشروع، مثل الكثير من الأشياء في الحياة، لم يكن بهذه البساطة التي توقعتها في البداية. وظلت مهمتي تزداد تعقيدًا. كانت اللهجات غير محددة نسبيًا كلغات ولم تكن قواعدها ومعجمها مفهومًا جيدًا مثل اللغات الموثقة توثيقًا أفضل. واضطررت إلى إجراء المزيد من الأبحاث أكثر مما كنت أتوقع، وكنت أجد باستمرار كلمات وعبارات جديدة لإضافتها إلى قاعدة البيانات. وما بدأ كقائمة كلمات، بحكم الضرورة، أصبح أداة أكثر تعقيدًا لسد الفجوة بين اللهجات واللغة العربية الفُصحى وتسهيل عملية تعلم اللغة العربية.
ثم جاء وقت ربط ما تعلمته بمشروعي الكبير الذي صممته: وهو ابني. وكأب عازم على تربية ابنه ليكون متعدد اللغات، أردت الحصول على موارد مثل كتب الأطفال والأغاني والرسوم المتحركة والألعاب من أجله. وبدأت البحث قبل ولادته. لكن بينما كانت رغبتي في نقل هذا التراث شائعة، اكتشفت أنني لن أتمكن من العثور على أي موارد. كان هذا، ولا يزال، شيئًا غير عادي. على سبيل المثال، لغة شانغان، وهي لغة من اللغات الثانوية لجماعة البانتو التي درستها في "فرق هيئة السلام"، وبها ما يقدر بنحو 3.5 ما يين شخص متحدث باللغة العربية أو أقل من 1% من 400 مليون شخص يتحدثون العربية على هذا الكوكب، وبطريقة ما هناك المزيد من الموارد لتعليم الأطفال لغة شانغان من اللهجات العربية مجتمعة!
وشأني شأن الآخرين، أنا الآن عالق في تعليم طفل لغة قليلة التوثيق، وهي اللهجة اللبنانية في حالتنا، مع عدد قليل نسبيًا من المتحدثين باللغة الأم، ولا موارد في الأساس، بينما أعلمه أيضًا اللغة شبه الغريبة المشتقة من اللغة العربية الفُصحى مع الكثير من مواد للقراءة والكتابة. ومثل الآخرين، أنا أتعلم حتى أتمكن من التدريس.
بذلت قصارى جهدي لكي أفعل الآن ما فشلت في القيام به في الماضي: وهو التعلم، وبالتالي أتمكن من أن أُعلِّم. حاولت توسيع شبكتي إلى ما بعد اللهجة اللبنانية لتشمل اللهجات الشامية عامةً، والتي يبلغ عدد الناطقين بها حوالي 40 مليون نسمة. وفي النهاية، عثرت على بعض المواد - نُشر معظمها في العقد الماضي، حيث إن بعض دور النشر والمؤلفين والمنتجين قد شجعوا على النقد لخلق محتوى بلهجات مختلفة. وقد وجدت مواد من "دار قنبز"، وهي دار نشر لبنانية تنشر باللهجة اللبنانية. واكتشفت أيضًا أعمال ريهام شندي، والتي نشرت مؤخرًا مجموعة من القصص القصيرة باللغة المصرية (وهذا دليل على موهبتها وطلبها الحقيقي، وهي من أكثر الكتب مبيعًا لكتب الأطفال لأشهر عدة متتالية في مكتبة ديوان المصرية).
كما أنني شعرت بالراحة في الرسوم الكاريكاتورية المدبلجة على المستوى المصري، والقصص باللهجات الشامية، والعروض بلهجات الخليج العربي - والأخيرة، على وجه الخصوص، متوفرة هذه الأيام أكثر مما كانت عليه في السنوات الماضية. لكنني ما زلت أشعر وكأنني قد فشلت.
يحتاج الأطفال إلى أكثر بكثير من هذه الأشياء الصغيرة ليتعلموا تعلمًا صحيحًا. فهم بحاجة إلى مئات الكتب، على الأقل وفقًا لدراسات التعليم المبكر التي قرأتها. وبالطبع هم بحاجة إلى أكثر من كتب لتعلم أبعاد مختلفة للغة - والعياذ بالله! - استمتع بالعملية. فكل شيء آخر للأطفال لا يزال يهيمن عليه اللغة العربية الفصحى العالية.
وفيما يكافح الآباء والأطفال، يُصر آخرون على المضي في الطرق القديمة وغير المثمرة (بما في ذلك الاعتقاد الخاطئ بأن التعرض المبكر للغة العربية الفُصحى سيساعد الأطفال على إتقانها وتطهيرهم من لهجاتهم). وعلى الرغم من كل الأدلة على عكس ذلك، فإن السلطات العربية، والعلماء، والشخصيات الدينية وغيرهم قد قاموا بحماية اللغة العربية الفصحى وعرقلة اللهجات. وحافظت الحكومات العربية على اللغة العربية الفصحى كلغة للتدريس في المدارس ولغة القانون في المحاكم ولغة السجلات في الوثائق وغير ذلك.
كما يقاوم معظم العرب أي اقتراح بالتغيير أو بالمرونة. استخف السياسيون بحملة في المغرب لاستخدام اللغة العامية، زاعمين أن مؤيدي الحملة يهدفون إلى تقسيم البلاد وقصر اللغة العربية الفُصحى على المساجد فقط. فقد ضغطوا على مؤسس الحملة، نور الدين عيوش، لتقليص هدفه. وبدلاً من الارتقاء باللهجات المغربية، أعلن بعد ذلك أنه يريد تعزيز "لغة عربية مبسطة". وعلى نحو مماثل، هاجم الأكاديميون الجزائريون، بل وحتى أفراد من الشعب، اقتراح وزير التربية والتعليم الجزائري بالتدريس باللهجة المحلية خلال أول عامين من مرحلة التعليم الابتدائي.
كذلك، وجد آخرون أعذارًا للالتزام باللغة العربية الفُصحى في التعليم. وأكدت مقالة نُشرت في حزيران (يونيو) 2017 في "رصيف 22" أن استخدام اللغة الأم في التعليم في المغرب "سيصطدم بـالازدواجية اللغوية" بسبب اختلاف اللغات المستخدمة في المغرب، وخلص إلى أنه من الأسهل الالتزام باللغة العربية الفصحى. ويزعم السياسيون والعلماء عامةً أن الاختلافات بين اللهجات والعربية الفصحى طفيفة و"يمكن تصحيحها بسهولة" بطريقة يمكن أن تكون اللغة العربية الفصحى مفهومة للأطفال.
يفتقد جميع هؤلاء أو يرفضون رؤية الحقيقة. إن العرب، بفضل موقفهم المتناقض الذي يؤدي إلى نتائج عكسية إزاء لغتهم الخاصة، حوّلوا ازدواجية اللغة إلى لعنة - وهي اللعة التي قد تعني تحجر اللغة العربية الفصحى وانتقاصها أو حتى موتها، والإساءة إلى اللهجات. في حين أن مؤيدي كل جانب من حجة اللغة قد يشعرون أنهم قادرون على فرض حل، فإنهم لن يزيدوا الأمور سوءًا إلا إذا استمروا في تبني نهج ثنائي. وعلى سبيل المثال، أصر المؤيدون الرسميون وغيرهم من المؤيدين للغة العربية الفُصحى على تطهير لغتهم من اللهجات التي يتحدثها الناس ويفهمونها. فلم يقتصر الأمر على استبعادهم لهجاتهم الخاصة من الأماكن العامة المهمة، بل قاموا أيضًا بإحباط تعلم معين في الأماكن الخاصة وجعلوا من الصعب على الآباء - في شرائح مختلفة من المجتمع، وليس فقط في الشتات - نقل ميراثهم الثقافي إلى الأطفال.
ولأجل ماذا؟ وهم من نوع معين ومستوى معين من الوكالة. فعلى الرغم من إنكارهم وعنادهم، قد لا يتمكن العرب من إنقاذ اللغة العربية الفصحى أو قمع اللهجات أو تأكيد تفضيلاتهم على الجميع بأي حال. ولا يستطيع مؤيدو لهجة واحدة، في أي مكان، أن يفرضوها كلغة مشتركة في العالم المتحدث باللغة العربية بأكمله. كما كتب الأكاديمي تشارلز فيرغسون في مقالته عام 1959 التي صاغ فيها مصطلح ازدواجية اللغة: "غالبًا ما تكون الاتجاهات الحاسمة في تطوير لغة موحدة، تعمل بالفعل وليس لها علاقة بحجج المتحدثين باسم وجهات نظر مختلفة".
وفي نهاية المطاف، قد تستمر ازدواجية اللغة العربية قرونًا في أشكالها الحالية وما يترتب عليها من عواقب سلبية. العرب بحاجة إلى إعادة التفاوض على علاقاتهم مع اللغة العربية الفُصحى واللهجات الحديثة، لئلا تنزلق الأولى دون أن ترتقي الثانية لتحل محلها. فبدلاً من فرض وجهة نظر محصلتها صفر، قد يتبنى العرب نهجًا أقل تقييدًا مع كلتا اللغتين وبينهما على المستويات الرسمية والاجتماعية والعائلية. وعلى سبيل المثال، قد تستخدم الدول لغاتها الأصلية في وقت مبكر من التعليم وتدرس اللغة الرسمية تدريجيًا في وقت لاحق. وأشار ميهيل في مقالته عام 2014 حول محو الأمية وازدواجية اللغة العربية إلى أن سريلانكا، التي تواجه تحديًا من قبل ازدواجية اللغة الخاصة بها، حققت نجاحًا ملحوظًا عندما اتخذت نهجًا مماثلًا لتحسين محو الأمية.
يمكن للعرب أن يفعلوا الشيء نفسه ويجب عليهم ذلك. قد يجربون أيضًا أدوات جديدة لسد الفجوة بين اللهجات العربية الفُصحى واللهجات الحديثة بشكل أكثر فعالية وسهولة. يمكن توحيد أنظمة الكتابة الخاصة باللهجات بطريقة تزيد من الإسناد الترافقي إلى الحد الأقصى مع اللغة العربية الفصحى، وهو ما حاولت بنشاط أن أفعله في أعمال القاموس الخاصة بي. حتى لو أصبحت اللغة العربية الفُصحى هي الشكل الوحيد للغة العربية، سيحتاج العرب إلى توسيعها ليتم استخدامها في لغة التواصل اليومية. هم فقط بحاجة إلى تجاوز حواجزهم الخاصة.
وبعد تجاوز كل التحليل الأكاديمي، ما زلت أفكر في ابني وكيف يمكنني نقل جزء من تراثه: وهو اللغة. الاحتجاب ليس خيارًا الآن. نحن نعيش في الولايات المتحدة ولا يمكننا زيارة لبنان، وهي موطننا الأصلي ومسقط رأسنا وتراثنا، إلا بصورة غير منتظمة.
بالتأكيد، لقد أحرزنا بعض التقدم. فلقد قمت بترجمة عدد من الكتب إلى اللهجة المحكية من الإنكليزية واللغة العربية الفُصحى. وقمت بتحرير الكتب العربية لابني في رياض الأطفال للاستفادة من التداخل بين اللهجات واللغة العربية الفصحى. وخلقت له موارد تعليمية أخرى. وهو يتحدث الآن اللغة العربية بطلاقة. ولكن حتى أنا - كشخص لديه خبرة وشغف بهذه اللغة وطرق تدريسها - لا أستطيع أن أخلق مادة كافية له. فنحن نواجه حاجزًا تلو الآخر، ثم نصل إلى الهضبة تلو الهضبة. وعلى أي حال، لا يمتلك كل أب الوقت والخبرة والميل لابتكار هذه المواد لأطفاله! ماذا عن الآباء الآخرين وعن أطفالهم، الذين عانوا لفترة طويلة مع معضلات مماثلة وخسروا الكثير في هذه العملية؟ وماذا عن الآباء الذين يشعرون بالإحباط ولكن ليس لديهم الموارد ولا القدرة على تحدي الآخرين بسلطة مؤسسية أو غير رسمية على بيع المواد المكتوبة؟
وأنا أشاهد ابني وهو يكبر، كنت أفكر في السبب الذي يجعلنا نهتم كثيرًا بالخيارات التي نتخذها جميعًا: العيش في مكان جديد، فيما نسعى إلى الحفاظ على تراثنا، أو نسعى لتحسين فرص أطفالنا في هذا العالم والعولمة، ولذلك حاول التغلب على هذا التراث نفسه دون أن ترحل من وطنك أبدًا.
لماذا؟ ولماذا نهتم كثيرا؟
أدرك الآن أنني كنت قلقًا بشأن ما هو أكثر من مجرد الكلمات التي نقرأها على الورق أو نسمعها عبر محطات الراديو. بل أريد أن أنقل حب النفس، حتى يحب ابني هذا وكل جزء منه. يعبر العرب وغيرهم من المتحدثين باللغة العربية عن حبهم للغة العربية الفُصحى بينما يحتقرون أنفسهم لعدم قدرتهم على إتقانها، وينظرون إلى لهجاتهم الخاصة بازدراء، على الرغم من أنهم يعيشون حياتهم بهذه اللهجات كل يوم. ربما أريد فقط أن يتحرر ابني من هذا التناقض الشرير والمؤلم، وأن يشعر بأنه يستطيع أن يحب اللغة العربية وتجسدها بجميع أشكالها دون أن يتعارض مع نفسه أو عما يدور داخله.
النهار العربي