من وحي المئوية (11) - التخطيط والنهج
د. جواد العناني
القبة نيوز- ليس ما أقدمه هنا للقراء الأفاضل في النظرية الاقتصادية شرحاً،ولكن ما أقدمه هو محاولة لقراءة علمية محايدة لأقر بدرجة ممكنة،عما جرى في الأردن، وما ينفعنا في المستقبل.
لقد شاركت في عدد من المناقشات حول ما سمي » بالهوية الاقتصادية للأردن». ودافع جانب عن ضرورة أن يتبنى الأردن منهاجاً واضحاً له قواعد مستقرة، وثوابت مستقاة من الدستور. وجانب ثانٍ كان يُؤْمِن أن بلداً كالأردن، حساساً للتغيرات والمؤثرات الإقليمية والدولية لايستطيع، ولاحتى يملك رفاهية التقيد بمنهجية واضحة. ولذلك، اضطر الأردن لأسباب سياسية وعسكرية ومالية ومعيشية أن يتخذ قرارات تحميه من وطأة المستجدات،وتحافظ على أمنه واستقراره.
ومع هذا،فإن الدروس المستقاة من المائة عام السابقة تقدم لنا لمحات وضاءة،نستطيع أن نعتبرها ثوابت وعلامات على حسن الإنجاز. ولعل اهم هذه الإنجازات هوحسن توزيع الدخل في الأردن،ومرونة الحراك الاجتماعي الذي لم يبق الفقراءأنفسهم في قعرالزجاجة،ولامكن الطبقة الثرية من الجمود عند نفس الأسماء والعائلات.
لما كنّا في الأربعينات كان عدد من التجار ورجال الأعمال هم الأثرياء. ومن هؤلاء كبار المزارعين، ووكلاء الشركات الأجنبية، أو المستوردين ثم أصحاب المشاغل والخدمات. وإذا سافرت في تلك الأيام في شوارع جبل اللويبدة، أو في جبل عمان من منطقة الدوار الأول حتى تصل إلى مدخل البلد (السوق) فاتك ستتعرف على الطبقة المخملية في الأردن. ولكن معظم هؤلاء لم يعد اسماً لامعاً في طبقة الأغنياء، بل حلّت مكانهم أسماء جديدة معظمهم من أبناء القرى أو من أسر متوسطة الحال.
وكذلك، فإن التعليم ساهم في رفع كثير من الناس من الطبقة الفقيرة والمتوسطة إلى الطبقات الغنية. ولقد كانت التغيرات التي انعكست على الساحة الأردنية تحدث خلخلة في المستويات الاجتماعية تسمح للمتعلمين وأصحاب المهارات أن ينفذوا من خلالها إلى الطبقات العليا.
وقد كنّا في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات نعرف بيوت الأغنياء ومساكنهم، فهذا بيت أبو جابر، وذاك بيت جردانة، وهذا منزل منكو الأحمر والعلامة الفارقة، وذاك للبلبيسي، وهذا لبدير، وذاك منزل مثقال عصفور، وذاك بيت جمال عصفور، وذاك للمعشر، وهذا لجودت شعشاعة، وغيره لآل شاهين، وهذا للطباع، وآخر لملحس والحايك، والحاج حسن، وهلم جرا. ومع بقاء عدد من هؤلاء ضمن قائمة الأغنياء إلا أن كثيرين برزوا وصاروا أكثر من هؤلاء غنى وتأثيراً، ومن كل مناطق الأردن، مثل المناصير، والحوراني، وأبو غزالة، وعليان، والمحيسن، والمصري، والجبشه، وحداد، والصويص، والزعبي، ونقل، وناصر الدين، وأسماء كثيرة لا نعرفها ممن رجعوا من الخليج، أو ممن يقيمون في الخارج.
ولو عدنا إلى مقاييس توزيع الدخل لرأينا أن ما يسميه الاقتصاديون » معامل جيني أو Gini coefficient » الذي يدل على عدالة توزيع الدخل من عدمه يعطي الأردن موقعاً جيداً. إذا كان معامل جيني صفراً، فهذا يعني أن كل مواطن في الدول يحظى بدخل متساوٍ مع أي مواطن آخر.وإذا كان واحداً، وهو الرقم الأقصى للمُعامل، فإن الدخل يكون مملوكاً كله لفرد واحد، والشعب الباقي صفراً. ولذلك، كلما كان المعامل أقرب إلى الصفر كان التوزيع أكثر عدلاً، وإذا زاد عن ½ أو (0.5) يصبح الدخل أكثر ميلاً نحو قلة العدالة في التوزيع. ومنذ بدأ بنشر ذلك المقياس في الأردن وهو يساوي حوالي (0.32) ما يعني أن صورة توزيع الدخل في الأردن متشابهة مع الدول الصناعية المتقدمة.
وتؤكد هذه المعلومة دراساتٌ عديدة من أهمها تلك التي صدرت عَنْ مكتبي)UNDP) برنامج الأمم المتحدة للانماء ومنظمة اليونيسيف (وصندوق الأمم المتحدة للأطفال) باللغة الانجليزية عام 2015 بعنوان » اللامساواة الاقتصادية – الاجتماعية في الأردن». وهي دراسة مهمة لمن يريد المزيد من الاطلاع.
ولَم تأت هذه النتيجة صدفةً، بل لأن الأردن تبنى باستمرار برامج من أجل إنصاف الفقراء والأقل دخلاً. وبسبب هذا الوضع تحقق الثابت الثاني والأكثر أهمية في الأردن، وهو وجود طبقة متوسطة تشكل غالبية السكان (من 60-70٪) وهذه نسبة مهمة. ووجود طبقة متوسطة كبيرة المساحة ديمغرافياً يعني أن الأمن والاستقرار قد توفرت لها قاعدتهما الأساسية من المدافعين عنها. ومن مزايا الطبقة المتوسطة في الأردن أن تكوينها حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي كان من فئة المتعلمين والعاملين في الحكومة، وشركات القطاع الخاص، ومن المزارعين الملاكين، وأصحاب المحلات التجارية. والعمالة الماهرة، ومن الأساتذة، والأطباء، والصيادلة، وغيرهم.
لقد أدى هذا الوضع إلى أن يكون للدولة كلها عقل جمعي يضبط سلوكها العام لأن الطبقة المتوسطة مكونة من خليط من الناس في مختلف المناطق، ومن شتى التخصصات. وكل هؤلاء يميلون إلى الاستقرار، والدفاع عن الدولة، وعدم رغبتهم في امتحان صبر الحكومة على تجاوزاتهم إلا في حالات قليلة مال فيها الميزان، وتراجعت مساحة الطبقة المتوسطة أو لأن مكوناتها صارت أقل ثقافة من ذي قبل.
أما الحقيقة الثابتة الثالثة، فهو أَن الهزات التي كانت تجري في المنطقة وجدت داخل الأردن سكاناً راضين بأمور كثيرة منها قبولهم بنظامهم السياسي وعلى رأسه الأسرة الهاشمية، والتي ساعدها على الحكم الرشيد صبرهم، وشرعيتهم الدينية، وكونهم من خارج الأردن، ما جعلهم غير راغبين في الانحياز لجهة على حساب جهة، أو لفئة على حساب أخرى مع أصطفافهم وإنصافهم للفئات الأقل عدداً (ولا أقول الأقليات) سواء كانت هذه الفئة معرفة بدينها، أو بأصلها، أو بمهنتها، أو بانتمائها الحزبي. وقد سمحت مرونة النظام السياسي للجسم الديمغرافي بالتشكل ليستوعب الخلافات، ويفتح أبوابه للقادمين الجدد، ويمكن كل فريق من ممارسة مهنه وتخصصاته التي يتقنها مما نوّع الاقتصاد وقسّم العمل والاختصاصات فيه فزاده غنى وجعله مجتمعاً مدنياً – كما يقول ابن خلدون- معتمداً على بعضه البعض.
أما الحقيقة الثابتة الرابعة فهي كثرة التنقل داخل الأردن، وخارجه والانفتاح على العالم والثقافات الخارجية دون أن يخسر الأردن نتيجة ذلك هويته المجتمعية، حيث استطاع - كما يقول توماس فريدمان- أن يوفق بين الحداثة الممثلة بسيارة (ليكزس) والتراثية المتمثّلة بشجرة الزيتون. وفِي الأردن كل فرد فيه قادر على التعايش في مدينته أو قريته داخل الأردن أو حتى في باريس ولندن ونيويورك وفرانكفورت.
لقد أنجزنا هذه الثوابت في القرن الأول من عمر الدّولة بسبب المرونة، وبعدم التقيد بقوالب ثابتة. وقد ساعدنا على البقاء رغم كثرة الهزات المتتالية التي تعرضنا لها هو أننا لم نقبل بوجود ثوابت أو أصنام فكرية تعيق قدرتنا على التكيف والتحرك عند الضرورة. وإذا فسرنا تاريخنا بمفهوم مُنطلق من نظرية » ارنولد توينبي» لتفسير التاريخ حسب » التحدي والاستجابة» فلا شك أن الأردن قد نجح في هذا المضمار إلى حدّ كبير.
ولذلك لما بدأ الأردن بوضع الخطط بعدما وضع الدستور للعام 1952، وتشكلت الحكومات وعرِّفت الوزارات ودوائرها، والسلطات الثلاث وصلاحياتها، ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني، وارتفع عدد السكان إلى ما يقارب مليون نسمة على مساحة تبلغ حوالي مائة ألف كيلومتر مربع، صار التخطيط ممكناً، ولكنه محدود في إطار عمل القطاع العام، ومن نقطة تحديد المخصصات الحكومية المطلوبة لإنجازه.
ولما صار الأردن عضواً في الأمم المتحدة عام 1955، صار له الحق أن يطلب الدعم والمساندة من منظماتها، ولذلك تقدم عام 1957 بطلب قرض تنموي من البنك الدولي. ولكن رئيس البنك آنذاك واسمه » يوجين بلاك» Eugene Black، رفض تقديم القرض للأردن. وقد خدم رئيساً للبنك الدولي من العام 1949 وحتى العام 1963. وقد تخرج من جامعة جورجيا التي حصلْتُ منها على شهادة الدكتوراة. وقد زار الجامعة يوماً، وألقى محاضرة هناك عام 1974، وأثناء الاستراحة، سألته لماذا رفض تقديم قرض للأردن عام 1957 فقال لي كنّا نخاف أن يذهب القرض سدى، وألا يتمكن الأردن من تسديده. ولكن لو كنت رئيساً للبنك الآن (يقصد عام 1974) لقدمت أضعافه بسرور.
وترى قصصا كثيرة عن الموعد الذي بدأ الأردن التخطيط فيه، وأصدر وثيقة بتلك الخطة، ولكن الأرجح أن أول محاولة للتخطيط كانت عام 1962 من قِبَل حكومة الراحل وصفي التل. وقد انصب تركيزها على تنمية الزراعة والاعتماد على الذات. وقد قرأت عنها، ولَم أقرأها. ولكن تلك الخطة استبدلت بوثيقة أكثر تفصيلاً ووضوحاً عام 1964، وهي ما أطلق عليها » برنامج السنوات السّبع (1964-1970)، وأعدت من قبل خبراء أردنيين وأجانب. وكتبت أصلاً باللغة الانجليزية، ومع أنها كانت وثيقة جيدة إلا أنه لم يكتب لها الديمومة لأنه لم يكد يمضي إلا سنتان وتصف على بداية تنفيذها وقعت حرب حزيران 1967 وتوقف العمل بالخطة التي شملت الضفتين الشرقية والغربية.
وبعد الحرب حتى نهاية عام 1971شهدالأردن فقدان الضفة الغربية وحرب الأستنزاف، ومعركة الكرامة، وفقدان، واحداث عام 1970 وعام 1971 واغتيال المرحوم وصفي التل الذي كان حينها رئيساً للوزراء. وفِي عام 1968 تخرج الأمير الحسن من جامعة اكسفورد، ورجع الى عمان ولياً للعهد. وفِي عام 1970، أعجبته فكرة قدمها له بعض العلماء الأردنيين والعرب لإنشاء صرح للبحث العلمي، فاستجاب الأمير آنذاك وأنشأ الجمعية العلمية الملكية عام 1970، وبدا التفكير المستقبلي أكثر مقبولية، والتخطيط أكثر معقولية.
وفِي ضوء التراجع الاقتصادي والنمو السالب وزيادة البطالة خلال السنوات 1967-1971، بدأ العمل على خطة إنقاذ للاقتصاد الوطني لمدة ثلاث سنوات وبانفاق كلي قدرة 179مليون دينار. وكان أهم أهداف الخطة هو خلق سبعة آلاف فرصة عمل، وقد كتبت الخطة بالعربية، وكلف زميلي وصديقي د. عبدالله المالكي آنئذ يترجمها من العربية إلى الانجليزية. فاستدعاني لكي أكون شريكه في ترجمتها، وقد كنت أنهيت الماجستير من جامعة فاندربيلت الأمريكية عام 1970. ومن اهم نتائج تلك الخطة أن كل واحد فينا حصل على 1200 دينار لأننا كنّا نقبض ديناراً عن كل صفحة، وأعدنا ترجمتها حوالي 3 مرات بسبب تغيير النص. وبالمبلغ الذي حصلنا عليه تمكنت من الزواج عام 1972.
ونجحت الخطة فوق التصور. ولكن ارتفاع أسعار النفط في نهاية عام 1973 من دولارين إلى ثمانية دولارات بسبب تهديد الملك فيصل بن عبدالعزيز بقطع النفط إبان حرب رمضان ضد اسرائيل، أدى إلى حصول تضخم في الأردن. فقد ارتفع سعر النفط وارتفعت معه أسعار كل مستوردات الأردن لأن الدول الصناعية رفعت أسعار سلعها بحجة ارتفاع أسعار النفط عليها.
ولذلك أُنشئت وزارة التخطيط أيضاً، بحجة مكافحة التضخم في ذلك العام، ولكن عام 1975 شهد حركة في سوق العمل، وزيادة في المساعدات، وزخماً في الاستهلاك والاستثمار، مما تسبب في انفاق 189 مليون دينار، وخلق فرص عمل أكثر بكثير مما توقعته الخطة.
وقررنا بعدها الدخول في الخطة الخمسية الأولى 1976-1980، وقد خصصت معظم مبالغ الخطة لأغراض البنى التحتية وإنشاء بعض الصناعات الرئيسيّة مثل صناعة الأسمدة، وغيرها. وقد أعلنت الخطة في شهر شباط عام 1976 على مؤتمر دولي كان لي شرف تقديم ورقتين فيه الأولى عن التضخم ووسائل مكافحته، والثانية عن » ملامح التنمية الاجتماعية في الأردن». وخلال هذه السنوات أُنشئت في الأردن مؤسسات هامة جديدة مثل سوق عمان المالي 1977، مؤسسة التدريب المهني 1977، مؤسسة الضمان الاجتماعي التي كان لي شرف أن أكون أول مدير عام لهاعام 1978، وبنك الإسكان، ومؤسسات أخرى. وحققت الخطة نجاحا باهراً بتعاون وثيق بين الأمير الحسن بن طلال والحكومة الأردنية برئاسة السيد مضر بدران. أما الخطة الثلاثية التي سبقتها فقد أُنجزت في عهد حكومتي المرحوم أحمد اللوزي، والأستاذ زيد الرفاعي.
ثم جاءت الخطة الخمسية الثانية عام 1981-1986 وخصص لها ثلاثة مليارات. ومع أنها قدمت للأردن الكثير، إلا أن نجاحها لم يكن باهراً كالأولى خاصة بسبب حرب العراق وإيران، وتراجع أسعار النفط، وتقلص المساعدات والقروض لهذه الغاية.
ولما أراد شمعون بيريز رئيس وزراء اسرائيل عام 1986 أن يضع خطة لتنمية الضفة الغربية، سارع الأردن بوضع خطك بمبادرة من الأمير الحسن بن طلال وتجاوب من حكومة دولة السيد زيد الرفاعي لكن الخطة لم يكتب لها البقاء بسبب فك الارتباط القانوني والاداري عام 1988، ودخول الأردن في ضائقة مالية خانقة خلال الأعوام 1988-1991 ولذلك لم يعد للخطة مبرر وتوقف العمل بها.
السؤال: هل نحن بعد هذا كله بحاجة للعودة إلى التخطيط؟ ستكون الإجابة على السؤال موضع بحث المقالة القادمة (12).
(الرأي)
لقد شاركت في عدد من المناقشات حول ما سمي » بالهوية الاقتصادية للأردن». ودافع جانب عن ضرورة أن يتبنى الأردن منهاجاً واضحاً له قواعد مستقرة، وثوابت مستقاة من الدستور. وجانب ثانٍ كان يُؤْمِن أن بلداً كالأردن، حساساً للتغيرات والمؤثرات الإقليمية والدولية لايستطيع، ولاحتى يملك رفاهية التقيد بمنهجية واضحة. ولذلك، اضطر الأردن لأسباب سياسية وعسكرية ومالية ومعيشية أن يتخذ قرارات تحميه من وطأة المستجدات،وتحافظ على أمنه واستقراره.
ومع هذا،فإن الدروس المستقاة من المائة عام السابقة تقدم لنا لمحات وضاءة،نستطيع أن نعتبرها ثوابت وعلامات على حسن الإنجاز. ولعل اهم هذه الإنجازات هوحسن توزيع الدخل في الأردن،ومرونة الحراك الاجتماعي الذي لم يبق الفقراءأنفسهم في قعرالزجاجة،ولامكن الطبقة الثرية من الجمود عند نفس الأسماء والعائلات.
لما كنّا في الأربعينات كان عدد من التجار ورجال الأعمال هم الأثرياء. ومن هؤلاء كبار المزارعين، ووكلاء الشركات الأجنبية، أو المستوردين ثم أصحاب المشاغل والخدمات. وإذا سافرت في تلك الأيام في شوارع جبل اللويبدة، أو في جبل عمان من منطقة الدوار الأول حتى تصل إلى مدخل البلد (السوق) فاتك ستتعرف على الطبقة المخملية في الأردن. ولكن معظم هؤلاء لم يعد اسماً لامعاً في طبقة الأغنياء، بل حلّت مكانهم أسماء جديدة معظمهم من أبناء القرى أو من أسر متوسطة الحال.
وكذلك، فإن التعليم ساهم في رفع كثير من الناس من الطبقة الفقيرة والمتوسطة إلى الطبقات الغنية. ولقد كانت التغيرات التي انعكست على الساحة الأردنية تحدث خلخلة في المستويات الاجتماعية تسمح للمتعلمين وأصحاب المهارات أن ينفذوا من خلالها إلى الطبقات العليا.
وقد كنّا في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات نعرف بيوت الأغنياء ومساكنهم، فهذا بيت أبو جابر، وذاك بيت جردانة، وهذا منزل منكو الأحمر والعلامة الفارقة، وذاك للبلبيسي، وهذا لبدير، وذاك منزل مثقال عصفور، وذاك بيت جمال عصفور، وذاك للمعشر، وهذا لجودت شعشاعة، وغيره لآل شاهين، وهذا للطباع، وآخر لملحس والحايك، والحاج حسن، وهلم جرا. ومع بقاء عدد من هؤلاء ضمن قائمة الأغنياء إلا أن كثيرين برزوا وصاروا أكثر من هؤلاء غنى وتأثيراً، ومن كل مناطق الأردن، مثل المناصير، والحوراني، وأبو غزالة، وعليان، والمحيسن، والمصري، والجبشه، وحداد، والصويص، والزعبي، ونقل، وناصر الدين، وأسماء كثيرة لا نعرفها ممن رجعوا من الخليج، أو ممن يقيمون في الخارج.
ولو عدنا إلى مقاييس توزيع الدخل لرأينا أن ما يسميه الاقتصاديون » معامل جيني أو Gini coefficient » الذي يدل على عدالة توزيع الدخل من عدمه يعطي الأردن موقعاً جيداً. إذا كان معامل جيني صفراً، فهذا يعني أن كل مواطن في الدول يحظى بدخل متساوٍ مع أي مواطن آخر.وإذا كان واحداً، وهو الرقم الأقصى للمُعامل، فإن الدخل يكون مملوكاً كله لفرد واحد، والشعب الباقي صفراً. ولذلك، كلما كان المعامل أقرب إلى الصفر كان التوزيع أكثر عدلاً، وإذا زاد عن ½ أو (0.5) يصبح الدخل أكثر ميلاً نحو قلة العدالة في التوزيع. ومنذ بدأ بنشر ذلك المقياس في الأردن وهو يساوي حوالي (0.32) ما يعني أن صورة توزيع الدخل في الأردن متشابهة مع الدول الصناعية المتقدمة.
وتؤكد هذه المعلومة دراساتٌ عديدة من أهمها تلك التي صدرت عَنْ مكتبي)UNDP) برنامج الأمم المتحدة للانماء ومنظمة اليونيسيف (وصندوق الأمم المتحدة للأطفال) باللغة الانجليزية عام 2015 بعنوان » اللامساواة الاقتصادية – الاجتماعية في الأردن». وهي دراسة مهمة لمن يريد المزيد من الاطلاع.
ولَم تأت هذه النتيجة صدفةً، بل لأن الأردن تبنى باستمرار برامج من أجل إنصاف الفقراء والأقل دخلاً. وبسبب هذا الوضع تحقق الثابت الثاني والأكثر أهمية في الأردن، وهو وجود طبقة متوسطة تشكل غالبية السكان (من 60-70٪) وهذه نسبة مهمة. ووجود طبقة متوسطة كبيرة المساحة ديمغرافياً يعني أن الأمن والاستقرار قد توفرت لها قاعدتهما الأساسية من المدافعين عنها. ومن مزايا الطبقة المتوسطة في الأردن أن تكوينها حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي كان من فئة المتعلمين والعاملين في الحكومة، وشركات القطاع الخاص، ومن المزارعين الملاكين، وأصحاب المحلات التجارية. والعمالة الماهرة، ومن الأساتذة، والأطباء، والصيادلة، وغيرهم.
لقد أدى هذا الوضع إلى أن يكون للدولة كلها عقل جمعي يضبط سلوكها العام لأن الطبقة المتوسطة مكونة من خليط من الناس في مختلف المناطق، ومن شتى التخصصات. وكل هؤلاء يميلون إلى الاستقرار، والدفاع عن الدولة، وعدم رغبتهم في امتحان صبر الحكومة على تجاوزاتهم إلا في حالات قليلة مال فيها الميزان، وتراجعت مساحة الطبقة المتوسطة أو لأن مكوناتها صارت أقل ثقافة من ذي قبل.
أما الحقيقة الثابتة الثالثة، فهو أَن الهزات التي كانت تجري في المنطقة وجدت داخل الأردن سكاناً راضين بأمور كثيرة منها قبولهم بنظامهم السياسي وعلى رأسه الأسرة الهاشمية، والتي ساعدها على الحكم الرشيد صبرهم، وشرعيتهم الدينية، وكونهم من خارج الأردن، ما جعلهم غير راغبين في الانحياز لجهة على حساب جهة، أو لفئة على حساب أخرى مع أصطفافهم وإنصافهم للفئات الأقل عدداً (ولا أقول الأقليات) سواء كانت هذه الفئة معرفة بدينها، أو بأصلها، أو بمهنتها، أو بانتمائها الحزبي. وقد سمحت مرونة النظام السياسي للجسم الديمغرافي بالتشكل ليستوعب الخلافات، ويفتح أبوابه للقادمين الجدد، ويمكن كل فريق من ممارسة مهنه وتخصصاته التي يتقنها مما نوّع الاقتصاد وقسّم العمل والاختصاصات فيه فزاده غنى وجعله مجتمعاً مدنياً – كما يقول ابن خلدون- معتمداً على بعضه البعض.
أما الحقيقة الثابتة الرابعة فهي كثرة التنقل داخل الأردن، وخارجه والانفتاح على العالم والثقافات الخارجية دون أن يخسر الأردن نتيجة ذلك هويته المجتمعية، حيث استطاع - كما يقول توماس فريدمان- أن يوفق بين الحداثة الممثلة بسيارة (ليكزس) والتراثية المتمثّلة بشجرة الزيتون. وفِي الأردن كل فرد فيه قادر على التعايش في مدينته أو قريته داخل الأردن أو حتى في باريس ولندن ونيويورك وفرانكفورت.
لقد أنجزنا هذه الثوابت في القرن الأول من عمر الدّولة بسبب المرونة، وبعدم التقيد بقوالب ثابتة. وقد ساعدنا على البقاء رغم كثرة الهزات المتتالية التي تعرضنا لها هو أننا لم نقبل بوجود ثوابت أو أصنام فكرية تعيق قدرتنا على التكيف والتحرك عند الضرورة. وإذا فسرنا تاريخنا بمفهوم مُنطلق من نظرية » ارنولد توينبي» لتفسير التاريخ حسب » التحدي والاستجابة» فلا شك أن الأردن قد نجح في هذا المضمار إلى حدّ كبير.
ولذلك لما بدأ الأردن بوضع الخطط بعدما وضع الدستور للعام 1952، وتشكلت الحكومات وعرِّفت الوزارات ودوائرها، والسلطات الثلاث وصلاحياتها، ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني، وارتفع عدد السكان إلى ما يقارب مليون نسمة على مساحة تبلغ حوالي مائة ألف كيلومتر مربع، صار التخطيط ممكناً، ولكنه محدود في إطار عمل القطاع العام، ومن نقطة تحديد المخصصات الحكومية المطلوبة لإنجازه.
ولما صار الأردن عضواً في الأمم المتحدة عام 1955، صار له الحق أن يطلب الدعم والمساندة من منظماتها، ولذلك تقدم عام 1957 بطلب قرض تنموي من البنك الدولي. ولكن رئيس البنك آنذاك واسمه » يوجين بلاك» Eugene Black، رفض تقديم القرض للأردن. وقد خدم رئيساً للبنك الدولي من العام 1949 وحتى العام 1963. وقد تخرج من جامعة جورجيا التي حصلْتُ منها على شهادة الدكتوراة. وقد زار الجامعة يوماً، وألقى محاضرة هناك عام 1974، وأثناء الاستراحة، سألته لماذا رفض تقديم قرض للأردن عام 1957 فقال لي كنّا نخاف أن يذهب القرض سدى، وألا يتمكن الأردن من تسديده. ولكن لو كنت رئيساً للبنك الآن (يقصد عام 1974) لقدمت أضعافه بسرور.
وترى قصصا كثيرة عن الموعد الذي بدأ الأردن التخطيط فيه، وأصدر وثيقة بتلك الخطة، ولكن الأرجح أن أول محاولة للتخطيط كانت عام 1962 من قِبَل حكومة الراحل وصفي التل. وقد انصب تركيزها على تنمية الزراعة والاعتماد على الذات. وقد قرأت عنها، ولَم أقرأها. ولكن تلك الخطة استبدلت بوثيقة أكثر تفصيلاً ووضوحاً عام 1964، وهي ما أطلق عليها » برنامج السنوات السّبع (1964-1970)، وأعدت من قبل خبراء أردنيين وأجانب. وكتبت أصلاً باللغة الانجليزية، ومع أنها كانت وثيقة جيدة إلا أنه لم يكتب لها الديمومة لأنه لم يكد يمضي إلا سنتان وتصف على بداية تنفيذها وقعت حرب حزيران 1967 وتوقف العمل بالخطة التي شملت الضفتين الشرقية والغربية.
وبعد الحرب حتى نهاية عام 1971شهدالأردن فقدان الضفة الغربية وحرب الأستنزاف، ومعركة الكرامة، وفقدان، واحداث عام 1970 وعام 1971 واغتيال المرحوم وصفي التل الذي كان حينها رئيساً للوزراء. وفِي عام 1968 تخرج الأمير الحسن من جامعة اكسفورد، ورجع الى عمان ولياً للعهد. وفِي عام 1970، أعجبته فكرة قدمها له بعض العلماء الأردنيين والعرب لإنشاء صرح للبحث العلمي، فاستجاب الأمير آنذاك وأنشأ الجمعية العلمية الملكية عام 1970، وبدا التفكير المستقبلي أكثر مقبولية، والتخطيط أكثر معقولية.
وفِي ضوء التراجع الاقتصادي والنمو السالب وزيادة البطالة خلال السنوات 1967-1971، بدأ العمل على خطة إنقاذ للاقتصاد الوطني لمدة ثلاث سنوات وبانفاق كلي قدرة 179مليون دينار. وكان أهم أهداف الخطة هو خلق سبعة آلاف فرصة عمل، وقد كتبت الخطة بالعربية، وكلف زميلي وصديقي د. عبدالله المالكي آنئذ يترجمها من العربية إلى الانجليزية. فاستدعاني لكي أكون شريكه في ترجمتها، وقد كنت أنهيت الماجستير من جامعة فاندربيلت الأمريكية عام 1970. ومن اهم نتائج تلك الخطة أن كل واحد فينا حصل على 1200 دينار لأننا كنّا نقبض ديناراً عن كل صفحة، وأعدنا ترجمتها حوالي 3 مرات بسبب تغيير النص. وبالمبلغ الذي حصلنا عليه تمكنت من الزواج عام 1972.
ونجحت الخطة فوق التصور. ولكن ارتفاع أسعار النفط في نهاية عام 1973 من دولارين إلى ثمانية دولارات بسبب تهديد الملك فيصل بن عبدالعزيز بقطع النفط إبان حرب رمضان ضد اسرائيل، أدى إلى حصول تضخم في الأردن. فقد ارتفع سعر النفط وارتفعت معه أسعار كل مستوردات الأردن لأن الدول الصناعية رفعت أسعار سلعها بحجة ارتفاع أسعار النفط عليها.
ولذلك أُنشئت وزارة التخطيط أيضاً، بحجة مكافحة التضخم في ذلك العام، ولكن عام 1975 شهد حركة في سوق العمل، وزيادة في المساعدات، وزخماً في الاستهلاك والاستثمار، مما تسبب في انفاق 189 مليون دينار، وخلق فرص عمل أكثر بكثير مما توقعته الخطة.
وقررنا بعدها الدخول في الخطة الخمسية الأولى 1976-1980، وقد خصصت معظم مبالغ الخطة لأغراض البنى التحتية وإنشاء بعض الصناعات الرئيسيّة مثل صناعة الأسمدة، وغيرها. وقد أعلنت الخطة في شهر شباط عام 1976 على مؤتمر دولي كان لي شرف تقديم ورقتين فيه الأولى عن التضخم ووسائل مكافحته، والثانية عن » ملامح التنمية الاجتماعية في الأردن». وخلال هذه السنوات أُنشئت في الأردن مؤسسات هامة جديدة مثل سوق عمان المالي 1977، مؤسسة التدريب المهني 1977، مؤسسة الضمان الاجتماعي التي كان لي شرف أن أكون أول مدير عام لهاعام 1978، وبنك الإسكان، ومؤسسات أخرى. وحققت الخطة نجاحا باهراً بتعاون وثيق بين الأمير الحسن بن طلال والحكومة الأردنية برئاسة السيد مضر بدران. أما الخطة الثلاثية التي سبقتها فقد أُنجزت في عهد حكومتي المرحوم أحمد اللوزي، والأستاذ زيد الرفاعي.
ثم جاءت الخطة الخمسية الثانية عام 1981-1986 وخصص لها ثلاثة مليارات. ومع أنها قدمت للأردن الكثير، إلا أن نجاحها لم يكن باهراً كالأولى خاصة بسبب حرب العراق وإيران، وتراجع أسعار النفط، وتقلص المساعدات والقروض لهذه الغاية.
ولما أراد شمعون بيريز رئيس وزراء اسرائيل عام 1986 أن يضع خطة لتنمية الضفة الغربية، سارع الأردن بوضع خطك بمبادرة من الأمير الحسن بن طلال وتجاوب من حكومة دولة السيد زيد الرفاعي لكن الخطة لم يكتب لها البقاء بسبب فك الارتباط القانوني والاداري عام 1988، ودخول الأردن في ضائقة مالية خانقة خلال الأعوام 1988-1991 ولذلك لم يعد للخطة مبرر وتوقف العمل بها.
السؤال: هل نحن بعد هذا كله بحاجة للعودة إلى التخطيط؟ ستكون الإجابة على السؤال موضع بحث المقالة القادمة (12).
(الرأي)