تشوّهات في المشرق والمغرب
القبة نيوز - لا أريد أن اُسمّي البلدان التي زرتُها مؤخّراً، لأنني لا أحبُّ أن أبدو كأنني أذمّها. والحقيقة أنَّ الظواهر المذكورة أدناة ممتدّة على طول وعرض البلاد العربية. كما أنَّ ظروف الحرية في الوطن العربي الكبير جغرافياً، العميق تاريخياً، والمحدود فكرياً، تستوجب الحذر من تسمية بلد دون آخر.
واضح أنَّ العالم العربي مضطهَدٌ من قوى وتيارات داخلية وخارجية. وهذا الاضطهاد له أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية وأخلاقية. هناك غلاء فاحش وقدرة شرائية محدودة لدى السواد الأعظم من الناس. وفي المقابل، هناك استعراضات سوقيّة تقوم على مبدأ "المُولات"؛ حيث انتشرت هذه بصورة فظّة في مدن كثيرة من العالم العربي. المولات هي أماكن أغلبها مغلقة، مضاءة بأضواء بيضاء تُتعِبُ العين والروح معاً. النيون أو ما يشبهه في كل مكان. أبت الرأسمالية المتوّحشة أن تفارق خديعتها!
تتحول الثقافة العربية، المتوسّطية، من ثقافة السعة والتبادلات الاجتماعية السلسة والفضاءات الرحبة التي تتجلّى بأسواق مفتوحة يضيئها الفضاء الطبيعي وابتسامات الناس بمحادثاتهم اليومية إلى ما يشبه معسكرات للتسوُّق. هنا تُوفّر الرأسمالية الأميركية روحاً والصينية صناعةً، كل ما "تشتهيه" الأنفس، كلُ شيء موجود ما دام التقليد الأعمى سيّد الموقف. العالم العربي وَضَعَ نفسه تحت سياط تقليد الغرب استهلاكياً وليس علمياً، وتلك مصيبة مستمرّة وتتعمّقُ.
"
تقليد الغرب استهلاكياً مشكلةٌ ما زالت تتعمّق منذ عقود
"
وفي خضم ذلك، هناك ظاهرة أخرى تشد الانتباه؛ وهي استخدام الرأسمالية الجشعة للثقافة العربية وأصالتها. كم من مقهىً أو مطعم يستخدم اسم شاعر أو كاتب أو شخصية عربية مفكّرة ويبيع ويتداول بأغلى الأسعار، وبأحدث الموضات الرأسمالية تعاملاً، فنجان قهوة بأربعة دولارات أو أكثر في بعض هذه الأماكن. تجد أسماء كتّاب اشتهروا بمناصرة الفقراء والمحرومين قد زُجَّ بها في مشروع رأسمالي بحت تحت غطاء الأصالة وجذب الناس، وما هي إلّا خدع. أمرٌ جميل أن تُسمّى مقاه، أو شوارع أو ميادين، بأسماء أشخاص ساهموا فكرياً ووجودياً في إغناء العالم العربي، لكن أن تُستخدمَ هذه الأسماء من أجل تضخيم الجيوب والكروش، ففي ذلك خطأ محقّق.
ثم إنَّ هناك ظاهرة قائمة على التمييز منتشرة في بيئة الاقتصادات العربية الضعيفة، في المشرق والمغرب، والقائمة على الإغاثات والمعونات والارتهانات السياسية لبلدان لا تهمُّها مصلحة العالم العربي، ولو قيد أنملة: هناك سعر للعرب وآخر لغير العرب، والفرق عادة واسع وفاضح. لا يمكن لهكذا دول أن تنهض وتحترم نفسها والبشرية التي هي جزء منها إن لم تُعامل الناس على أساس المساواة، أيّاً كان أصلهم وفصلهم.
هكذا يختلط الاقتصاد بالثقافة والتديّن الزائف في كثير من الأماكن.
لا يجب أن يُفهم ممّا كُتبَ أنّنا ضد التطور والمدنية. العكس هو الصحيح. وتلك مفاهيم نسبية في بعضٍ من جوانبها. المقصود هو لفت الانتباه إلى أشياء نراها ونتعامل معها كل يوم تقريباً، تزيدُ البيئات العربية تشوهاً، وتزيد الفقيرَ فقراً والغنيَّ غنىً، على أسس رأسمالية تتعمّق أكثر وأكثر وتزدادُ نهشاً في هذا الجسد العربي الذي يبدو مشوّهاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولعلَّ للحديث بقية.
عاطف الشاعر
* أكاديمي وشاعر فلسطيني مقيم في لندن
العربي الجديد
واضح أنَّ العالم العربي مضطهَدٌ من قوى وتيارات داخلية وخارجية. وهذا الاضطهاد له أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية وأخلاقية. هناك غلاء فاحش وقدرة شرائية محدودة لدى السواد الأعظم من الناس. وفي المقابل، هناك استعراضات سوقيّة تقوم على مبدأ "المُولات"؛ حيث انتشرت هذه بصورة فظّة في مدن كثيرة من العالم العربي. المولات هي أماكن أغلبها مغلقة، مضاءة بأضواء بيضاء تُتعِبُ العين والروح معاً. النيون أو ما يشبهه في كل مكان. أبت الرأسمالية المتوّحشة أن تفارق خديعتها!
تتحول الثقافة العربية، المتوسّطية، من ثقافة السعة والتبادلات الاجتماعية السلسة والفضاءات الرحبة التي تتجلّى بأسواق مفتوحة يضيئها الفضاء الطبيعي وابتسامات الناس بمحادثاتهم اليومية إلى ما يشبه معسكرات للتسوُّق. هنا تُوفّر الرأسمالية الأميركية روحاً والصينية صناعةً، كل ما "تشتهيه" الأنفس، كلُ شيء موجود ما دام التقليد الأعمى سيّد الموقف. العالم العربي وَضَعَ نفسه تحت سياط تقليد الغرب استهلاكياً وليس علمياً، وتلك مصيبة مستمرّة وتتعمّقُ.
"
تقليد الغرب استهلاكياً مشكلةٌ ما زالت تتعمّق منذ عقود
"
وفي خضم ذلك، هناك ظاهرة أخرى تشد الانتباه؛ وهي استخدام الرأسمالية الجشعة للثقافة العربية وأصالتها. كم من مقهىً أو مطعم يستخدم اسم شاعر أو كاتب أو شخصية عربية مفكّرة ويبيع ويتداول بأغلى الأسعار، وبأحدث الموضات الرأسمالية تعاملاً، فنجان قهوة بأربعة دولارات أو أكثر في بعض هذه الأماكن. تجد أسماء كتّاب اشتهروا بمناصرة الفقراء والمحرومين قد زُجَّ بها في مشروع رأسمالي بحت تحت غطاء الأصالة وجذب الناس، وما هي إلّا خدع. أمرٌ جميل أن تُسمّى مقاه، أو شوارع أو ميادين، بأسماء أشخاص ساهموا فكرياً ووجودياً في إغناء العالم العربي، لكن أن تُستخدمَ هذه الأسماء من أجل تضخيم الجيوب والكروش، ففي ذلك خطأ محقّق.
ثم إنَّ هناك ظاهرة قائمة على التمييز منتشرة في بيئة الاقتصادات العربية الضعيفة، في المشرق والمغرب، والقائمة على الإغاثات والمعونات والارتهانات السياسية لبلدان لا تهمُّها مصلحة العالم العربي، ولو قيد أنملة: هناك سعر للعرب وآخر لغير العرب، والفرق عادة واسع وفاضح. لا يمكن لهكذا دول أن تنهض وتحترم نفسها والبشرية التي هي جزء منها إن لم تُعامل الناس على أساس المساواة، أيّاً كان أصلهم وفصلهم.
هكذا يختلط الاقتصاد بالثقافة والتديّن الزائف في كثير من الأماكن.
لا يجب أن يُفهم ممّا كُتبَ أنّنا ضد التطور والمدنية. العكس هو الصحيح. وتلك مفاهيم نسبية في بعضٍ من جوانبها. المقصود هو لفت الانتباه إلى أشياء نراها ونتعامل معها كل يوم تقريباً، تزيدُ البيئات العربية تشوهاً، وتزيد الفقيرَ فقراً والغنيَّ غنىً، على أسس رأسمالية تتعمّق أكثر وأكثر وتزدادُ نهشاً في هذا الجسد العربي الذي يبدو مشوّهاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولعلَّ للحديث بقية.
عاطف الشاعر
* أكاديمي وشاعر فلسطيني مقيم في لندن
العربي الجديد